كسر محرّمات السلطة
علي العبد الله *
كثيراً ما يُطرَح السؤال عن سبب تعاطي السلطة السورية الخشن مع المثقّفين السوريّين الذين وقّعوا إعلان بيروت ـ دمشق، دمشق ـ بيروت (اعتقال وسجن لمدد طويلة لعدد منهم وفصل من العمل في مؤسّسات الدولة لعدد آخر)، وهل الأمر مرتبط بمحتوى البيان أم بمن وقّعوه أم بالاثنين معاً؟
السؤال مهمّ، لأنّه يحيل على قضيّة جوهرية تتعلّق بطبيعة السلطة السورية وبالمحدّدات التي تحكم سياستها الداخلية وانعكاسها على القوى السياسية والحقوقية والثقافية السورية التي تتبنّى رؤى ومواقف مختلفة. فالسلطة السورية، وهي سلطة شمولية بامتياز، تنطلق من اعتبار الدولة سيداً مطلق الصلاحيات، والسلطة التنفيذية مالك حصري للدولة وسلطاتها وللتعبير عن مصالح مواطنيها، لذا أدمجت الوظيفة السياسيّة في الأجهزة الإدارية، وهذا بدوره قاد الى إدماج الوظيفة السياسية في الوظيفة الأمنية، حيث أصبحت أجهزة الأمن عرّاب العمل السياسي والتنظيمي، وقامت بالدور الذي كان من المفترض أن تقوم به الأحزاب السياسية، كما قاد الى اعتبار السياسة مجموعة من المشكلات الإدارية، وإلى تحديد ساحة الخلاف حيث يمكن أن يدور حول هذه المشكلات، وحول رفع مستوى الأداء، لكن دون التطرّق إلى الخيارات والأولويات، ما عنى إلغاء التنافس في المجتمع السياسي وفرض لون واحد وخيار واحد.
وقد ترتّب على هذه النظرة: إغلاق الحقل السياسي وتجريم أي نشاط سياسي خارج الأطر الرسمية. حتى عندما اضطرّت السلطة، لأسباب خارجيّة، عام2000، إلى تخفيف القبضة الأمنية على المجتمع، لم تتقبّل حصول نشاطات سياسيّة حرّة ومستقلّة تقوم بها قوى سياسية واجتماعية وثقافية لها رؤى ومواقف مختلفة، وقد كان ردّ فعلها ضدّ ما سمّي بـ«ربيع دمشق» عام 2001، واعتقال 10 من رموزه تعبيراً عن رفض وجود رأي آخر في سوريا بالمطلَق.
وعليه، يمكن وضع موقفها من إعلان بيروت ـ دمشق، من حيث المبدأ، في هذا السياق، حيث لم تستطع «بلع» إعلان مثقّفين سوريّين، بالتنسيق مع مثقّفين لبنانيين، عن رأيهم في سياسة بلادهم الداخلية والخارجية وطرحهم لرؤى ومواقف تتعارض مع وجهة نظرها بالكامل، حيث تناول الإعلان ملفّات وقضايا جوهرية وحسّاسة تتعلّق بطبيعة النظام السياسي السوري والسياسة التمييزية والقمعية التي يعتمدها والفساد الذي ينخر جسد الدولة السورية بسببها، وسياسته الخارجية، وخاصة في لبنان، الذي بقي على رأس جدول أولوياتها منذ دخولها إليه بتفويض خارجي / أميركي عام 1976، والذي دخلت إليه من أجل الانفراد بإدارته أوّلاً والاحتفاظ به ثانياً في معارك سياسية، عنيفة أحياناً، مع دول عربية (منظّمة التحرير الفلسطينية، العراق، مصر، السعودية) وغير عربية (فرنسا، الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة)، وتفرّعات ملفّه، اغتيال رفيق الحريري والتحقيق الدولي، التي تناولها الإعلان وطالب السلطة السورية بالتعاطي معها بإيجابية.
لا تستطيع سلطة السيّد الواحد والرأي الواحد تقبُّل ظهور تعبيرات سياسية أخرى إلى جانبها، فما بالك وهذه التعبيرات تتعارض مع رأيها وتشكّك في صوابيتها، وتمسّ صورتها ومصالح رجالها، ما يضعها في موقع النقد والمساءلة، التي جعلتهما، طوال عقود، وبقوّة القمع والقهر، من المحرّمات. فضلاً عن صدور الإعلان ودلالاته ـ سحب الشرعية الداخلية عن سياساتها ـ في لحظة سياسية دقيقة وحرجة وتنطوي على مخاطر كبيرة عليها ترتّبت على سياساتها غير الحصيفة والفاشلة، وعلى حصول متغيّرات إقليميّة ودوليّة (نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وإدارة أميركيّة هي الأكثر تدخّلية في تاريخ الولايات المتحدة، واحتلال العراق…) عجزت عن مواجهتها أو التكيّف معها. لهذا رأت فيه، في ظلّ عزلتها العربية والضغط الدولي عليها، ثالث الأثافي والخطر المباشر الذي يعلن تجذّر المعارضة وافتتاح خيار الرفض الشامل لها، وفي من وقّعوه أعداءً من الدرجة الأولى بحيث لا يمكن غضّ الطرف أو التسامح أو التعايش معهم.
· كاتب سوري معتَقَل حاليّاً