سورية: تغيير مطلوب وآليات لم تتبلور بعد
د. عبد الباسط سيدا
لقد مضت خمسة أعوام على سقوط حكم البعث في بغداد، وما يقارب ثلاث سنوات على الانسحاب القسري لآخر جندي سوري بصورة رسمية من لبنان. وكلنا يتذكر كيف أن التقديرات المتسرعة كانت تشير بصورة شبه إجمالية في ذلك الحين إلى توقع سقوط وشيك للنظام السوري؛
الأمر الذي كان من شأنه في حال تحققه الإسهام في استقرار العراق ولبنان، والأهم من هذا وذاك بالنسبة إلى الشعب السوري كان هو الخلاص من ظلامية زمرة أخطبوطية، أطبقت على جميع ميادين المجتمع، ولم تترك أية فسحة هامشية للعيش الكريم والموقف النبيل. إلا أننا اليوم، وبعد أن أصبحت ورقة الأجوبة الصحيحة بين أيدينا – كما يقول المثل السويدي- نلاحظ أن التقديرات المتسرعة تلك قد تسببت في إحداث حالة هستيريا عامة، شملت معارضة الداخل والخارج، واستقطبت عشرات الأسماء إن لم نقل المئات من التنظيمات والأشخاص – خاصة في الخارج – التي برزت من المجهول أو العدم؛ وبات كل أمين عام فعلي أو افتراضي يهيئ نفسه لتقلّد منصب ينسجم مع المقام أو العقدة غير المشبعة. ولم يتمكن العقلاء، ممن راعهم الموقف من اختراق الأجواء الشعوبية التسطيحية التي كانت وما زالت تمثل الركن بالنسبة إلى سياسة الزمرة الحاكمة في سورية؛ فقد كانت تهم التخاذل والخنوع، بل والخيانة جاهزة مبركة، تلوّح في وجه كل من يأبى الانقياد والانصياع لمشيئة العقد والانتهازية والسذاجة وربما أمور أخرى وهي الأخطر. وما نجم عن تخبطات السنوات المنصرمة على مستوى المعارضة بكل أطيافها وانتماءاتها وأشكالها، تمثل في المزيد من التشتت، وتراجع الثقة المتبادلة، وضعف المصداقية الشعبية؛ وكل ذلك كان مؤداه حالات الانزواء والإحباط والحيرة، ومن ثم عدم القدرة على اتخاذ الموقف الفاعل في الوقت المناسب.
إن الأمر الذي كان – وربما ما زال – يغيب عن بال الكثيرين من أقطاب المعارضة السورية هو ضرورة البحث عن آلية واقعية للتغيير المنشود. فنحن من جهة لا نريد الاستقواء بالخارج؛ ومن جهة ثانية نفتقر إلى العامل الشعبي الداخلي المنظّم؛ وفي الوقت عينه لا نسعى من أجل اعتماد خطة موضوعية بعيدة النظر، تأخذ على عاتقها عملية إعداد هذا الأخير؛ بل إننا في عجلة من أمرنا، نتبارى ونتبارز في عوالم افتراضية، غالباً ما تغدو وجهاً من أوجه الأزمة بتخندقاتها المذهبية، ونزعاتها القوموية التي لن تكون في مطلق الأحوال العامل المساعد في ميدان العمل من أجل ترسيخ مفهوم الوطنية السورية، بوصفها الدائرة الأوسع التي ستكون ساحة التفاعل الايجابي بين جميع المكوّنات، وهي المكوّنات التي يقوم بفضلها ومن أجلها المجتمع السوري.
إن الزمرة المتحكمة بمصائر الأهل والوطن – وهي التي تسمى تجاوزاً بالنظام السوري – قد أخذت على عاتقها، ومنذ الأيام الأولى لتسلطها – التي امتدت لتغدو عقوداً من السنين – من سياسة تجويع الناس وإذلالهم، وإفساد قيمهم، وقتل روح الكرامة فيهم، نهجاً ثابتاً لم تتخل عنه قط، بعد أن اكتشفت أنها الأداة الأكثر نجاعة، وتمكيناً، بالنسبة إليها. فالجائع الفاسد لم ولن يشكل أي خطر على الزمرة المعنية، وإنما الخطر كل الخطر هو من ذاك الجائع، ومن كل حر أبي – وهم الأغلبية بين صفوف شعبنا السوري العزيز- ممن ما زالت جذوة الكرامة متقدة في دواخلهم، هؤلاء الذين تلزمهم قيمهم السامية بعدم الخنوع والانضمام إلى بطانة المصفقين للسلطان.
ولتنفيذ السياسة المعنية على الأرض، أطلقت الزمرة اللامرئية تلك الحرية لزبانيتها لنهب الناس، ومشاركتهم في أرزاقهم وعلى جميع المستويات. كما أنها قطعت الصلة عن تعمّد مع مشاريع التنمية – التي كانت هزيلة أصلاً- الاقتصادية؛ ولم تقدم على أية خطوة من شأنها معالجة كارثة البطالة والفقر في بلدٍ تؤهله إمكانياته المادية – إذا ما تم إيقاف النهب والسلب-وخبرات أبنائه، ليكون شعلة وضاءة في المنطقة، بدلاً من أن يكون – كما هو شأنه راهناً- خارج مسار التطور العصري الذي غدت ضرورات التكيّف معه، وعدم التخلف عن مستوياته العالمية، من التحديات الكبرى الإستراتيجية بالنسبة إلى سائر المجتمعات التي تفكر بمسؤولية في مصير أجيالها القادمة.
وفي موازاة سياسة التجويع والإفساد الاقتصادي تلك، وبالتكامل معها، التزمت الزمرة الإفسادية المتحكمة في سورية، نهج تخريب القيم النبيلة التي تمثل الثوابت والروادع الاجتماعية، هذه القيم التي طالما تميز وتباهى وتحصّن بها المجتمع السوري. ولبلوغ المآرب الخاصة بعملية الإفساد القيمي، اعتمدت الزمرة المقصودة هنا نهجاً مزدوجاً، تجسّد من جهة في فرض زعامات فاسدة اجتماعياً على الناس، زعامات، كانت وما زالت تتبجح بغطائها المخابراتي، وذلك من أجل استنزاف الطاقات المادية عبر السلب والنهب والبلطجة؛ وتجسد النهج الإفسادي المزدوج المشار إليه من جهة ثانية في إقصاء تلك الشخصيات والزعامات التي لم يتمكّن الفساد – على الرغم من الترغيب والتهديد- من التغلغل إلى بواطنها، وظلت عصية شامخة، تلهم بصدقها ونقائها الناس بالقيم الأصيلة، وتمنحهم زاداً معنوياً وقائياً، يمكّنهم من التغلب على نداء الحاجة، ويغرس فيهم إرادة التحمّل في انتظار ربيع الفرج. وهذا ما يفسر تركيز الزمرة على النخبة الفاضلة من الأكاديميين والمثقفين والساسة ورجال الدين، وذلك بهدف إبعادها عن دائرة الضوء والتأثير؛ وهي تعتمد في ذلك أسلوب التهميش، أو الاعتقال، أو التغييب الفيزيائي إذا اقتضى الأمر. وهذا ما يكشف النقاب عن حقيقة الدوافع الكامنة خلف اعتقال أستاذ النبل والمعرفة الدكتور عارف دليلة، والشهم الأصيل رياض سيف، وصحبهما الأخيار، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: ميشيل كيلو، كمال اللوباني، أكرم وأنور البني، وفائق المير، ورياض درار، ومعروف ملا أحمد ومعه سائر المعتقلين الكرد. وفي السياق ذاته، فإن السياسة الإفسادية ذاتها هي التي كانت وراء اغتيال الشيخ معشوق الخزنوي، وهي التي تقف حائلاً دون عودة الآلاف من المنفيين السوريين، خاصة أولئك المهددين بقانون 49 سيئ الصيت والهدف.
إن كل ذلك يؤكد بما لا يقبل الشك مدى ما يمثله أصحاب الضمائر الحية من الشخصيات الكاريزمية – بصرف النظر عن الانتماءات- من حالة خوف وهلع بالنسبة إلى زمرة الفساد والإفساد؛ تلك الشخصيات التي يتعارض أداؤها بالمطلق مع المشروع الإفسادي الشمولي الذي يُراد به سلب إرادة الاعتزاز بالنفس والوطن لدى أبناء الشعب السوري بكافة شرائحه وانتماءاته وتوجهاته.
فالزمرة المعنية لا تخشى الفاسدين حتى ولو كانوا في المراكز المتقدمة من المعارضة؛ وإنما جل خشيتها تتمركز حول أولئك الذين أثبتت الأيام صلابة العزيمة فيهم، عزيمة التزام المبادئ النبيلة؛ ولم تنطل عليهم أضاليل الشعارات المنمّقة، ومزاعم “الصمود والتصدي”، وادعاءات “الممانعة”، والتبجح بثقافة “المقاومة” التي كانت أصلاً لمقاومة الشعب، واستخدامه أداة في بازار الصفقات التي تستهدف الاستمرار في التسلط والنهب.
ولعله من نوافل القول أن السياسة الإفسادية تلك لم تقتصر على الساحة السورية وحدها، بل طبقت بحذافيرها في لبنان، وامتدت إلى فلسطين، وهي تحاول بأساليب عدة التغلغل إلى الداخل العراقي. ومن هنا نرى هذا الإصرار من جانب الزمرة المتحكّمة بدائرة القرار في سورية على اسكات سائر الشخصيات المؤثرة في الساحة اللبنانية؛ ولعل تدقيقاً أولياً في طبيعة أولئك الذين طالتهم سلسلة الاغتيالات المتلاحقة التي جرت، أو تلك التي يخطط لها، يبين لنا أن الهدف الأساس هو الإفساد الشمولي؛ لذلك فليس من المستبعد أن يشمل مسلسل الاغتيالات بعض أقطاب القوى المتحالفة مع النظام السوري في لبنان، وذلك إذا ما ظهر لزمرة القرار في النظام المذكور – أو شعرت هذه الزمرة مجرد شعور- أن وجود هؤلاء يتعارض مع مشروعها الإفسادي التسلطي. وهنا يثير اغتيال عماد مغنية في دمشق، وقبله اغتيال غازي كنعان، أكثر من تساؤل حول مصير آخرين من قيادة التيار المتحالف مع زمرة الحكم في سورية، هذا فيما لو وجدت هذه الأخيرة أن وجودهم يتنافى مع مقوّمات بقائها.
إن المهمة الملقاة على كاهل طلاب التغيير في سورية ليست سهلة من جهة البنية، ولا وردية من جهة المعالم؛ إنها مهمة معقدة شائكة، تستلتزم المقدرة الصائبة على القراءة الصحيحة، وتستدعي الجرأة الكافية للتعامل مع سائر القضايا بعقلية وطنية تواصلية مفتوحة، بعيدة عن الانغلاق بكل أشكاله. وأخيراً وليس آخراً، فإن المهمة المعنية تستوجب النبل الأصيل الذي يسمو على الحسابات الذاتية، ويحلّق في فضاءات المصالح والتطلعات العامة الحقيقية.
__________
كاتب كردي سوري – السويد