في إيجابيات أميركا وسلبياتها
حنا عبود
عندما طلع هيراكليت اليوناني بالنظرة الجدلية إلى العالم، لم يجد من يقف معه سوى بعض المثقفين. ولكن مع الأيام صار أساس التفكير الفلسفي عند المفكرين المعتدلين والمتطرفين. كانت أفكاره غريبة بعض الشيء، فهو يقول بأنك غير قادر على أن تستحم في النهر مرتين، ولا يوجد شيء يكبر إلا وهو يصغر، ولا يمكن لقوي أن يفعل ما يشاء من دون أن يفقد من قوته، وبداية الشيء نهايته، والطريق تبدأ من حيث تنتهي، ولا يوجد شيء يثبت ولو لحظة واحدة من الزمن، والتغيّر في الوجود سبب تنامي الوجود، وسبب دماره في الوقت نفسه،
ولا يمكن معرفة العدالة ما لم يكن هناك ظلم، ولا يولد الانسجام إلا من المختلف…
وخير مثال في هذه الأيام على ما يذهب إليه هيراكليت، تلك الدولة العظيمة التي تسمى الولايات المتحدة الأميركية. فهي ضرورية للبشرية بمقدار ما هي نافلة وضارة. من جهة يتمناها المرء، ومن جهة يرفضها. لا يريدها أن تزول، ولا يريدها في الوقت نفسه أن تسيطر…
موقف الدول الأوراسية
هذا الطرح هيراكليتي، كما هو ظاهر. إنها الضرورة التي نحتاجها ونحاربها. ويظهر ذلك في السياسة الدولية الجارية اليوم في المسرح السياسي العالمي. ويمكن القول إنه لا توجد دولة تريد هزيمة الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه لا توجد دولة تريد أن تحقق الانتصار الكامل، فالخطر في الطرفين: الاندحار والانتصار.
تظهر هذه السياسة بصورة جلية في موقف الدول الأوراسية (روسيا والصين والهند والدول المجاورة) فهي دول تعتمد في تقدمها على المنتج الأميركي. فأميركا وحدها تنفق على الأبحاث العلمية مبالغ تعادل كل ما تنفقه دول العالم الأخرى، إن لم نقل أكثر منها. فهي عصب التطور الحديث، وأساس كل المخترعات والمبتكرات التي نشهدها كل يوم تقريباً. ويكفي أن نتأمل في ثورة المعلومات التي أحدثتها أميركا في العالم حتى ندرك مدى التطور الصاعق والخطير الذي جرى على يديها. فهي دولة تتميز بأسلوب خاص في العمل، يجعلها في حالة دائمة من البحث عن الجديد والمبتكر. فعندما ابتكرت الترانستور، لم تتريث عند هذا الاختراع إلا قليلاً، فقدمته إلى اليابان لتعمل فيه وتطوره، وانتقلت بسرعة إلى ابتكار الدوائر المتكاملة، ومن ثم إلى الشيبس، أو الشرائح التي تقوم بملايين المهمات الإلكترونية، من غير أن تشغل حجماً يذكر. ولو رحنا نعدد “الأيادي البيض” لهذه الدولة النشيطة لما انتهينا.
إن الذين قاموا بهذه الاكتشافات والاختراعات من أقوام مختلفة، ولكن لولا أميركا لما ظهرت هذه الاكتشافات والاختراعات، بل ربما لم يظهر هؤلاء العلماء والمخترعون أنفسهم.
الأوراسيون لا ينافسون في هذا المجال أميركا، ولكنهم يسيرون خلفها ويستفيدون منها بحيث يمكن القول إنهم لولاها لقضوا عشرات، وربما مئات السنين، حتى يحققوا ما حققوا من تقدم في الميادين التكنولوجية. إنها دول تشعر بالحاجة إلى وجود أميركا، كأنها جزء من وجودها.
ولكن من جهة أخرى نجد هذه الدول الأوراسية تقف في وجه التمدد الأميركي في الشرق الأوسط وصولاً إلى أفغانستان والدول المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي… أي تريد الوصول، والسيطرة أيضاً، على الكنز الأسود في بحر قزوين، وتحويل هذا البحر إلى بحيرة أميركية. وهكذا تجد هذه الدول نفسها رهينة التقدم العلمي التكنولوجي الأميركي، لضرورته الملحة لتقدمها، من جهة، وتجد نفسها مضطرة لأن تكون ضد هذه الدولة في تقدمها السياسي والعسكري والاقتصادي في تلك المنطقة. وهنا تكمن المشكلة: إن نجحت أميركا، انتهت سيادة تلك الدول، إن لم نقل زالت بعد انخراطها في سوق العولمة، وإن تحطمت أميركا كان ذلك نكبة لتلك الدول، وللعالم برمته، لأنه لن يعود هناك مخترعات ومكتشفات جديدة تحفز على التقدم في الميدان الحضاري.
حمار بوريدان
إن الإمساك بالعصا من منتصفها هو من أشق السياسات الدولية. إن دولة مثل الصين تريد زوال أميركا سياسياً، ولكنها هي نفسها تذبل وتضمحل إن زالت تكنولوجياً وعلمياً. ولهذا نراها في وضع حرج جداً، فهي تحب من يهددها، وتكره من يساعدها في الوقت نفسه. إنه موقف هيراكليتي حقيقي، يظهر أمامنا بوضوح، حتى إن الصين تساير الولايات المتحدة إلى درجة أنها توافق على قرارات في مجلس الأمن، من غير أن تكون مقتنعة بها، بل ربما كانت تلمح فيها شيئاً من الحصار لها هي نفسها.
وما أشبه دول أوراسيا أمام وجهي أميركا الإيجابي والسلبي، بحمار بوريدان الجائع العطشان أمام المعلف وجردل الماء. وليست دول أوراسيا الوحيدة المرتبكة تجاه الجبار الأميركي، بل كل دول العالم تقريباً. فتوقف أميركا عن النشاط يعني شلّ العالم بأسره، فالأسواق المالية والاقتصادية سوف تنهار، والتقدم التكنولوجي سوف ينعدم، والبحث العلمي يتخلف أو يتوقف، والمؤسسات العالمية تتعطل. إن توقف أميركا عن العمل هو الكارثة بعينها، كما أن ممارسة هذه السياسة تهديد مباشر لكثير من الأنظمة والدول.
ومن جهة أخرى لا يمكن تلبية مطالب التنين الأميركي، الذي لا يقيم أي اعتبار للآخرين. إنه طاقة مريعة مدمرة. ومن مزايا أسلوب العمل الأميركي أن المشاريع الخاسرة لا توقف عجلة التطور، فبأسرع من لمح البصر، تنشأ مشاريع جديدة أقوى من سابقتها… إن أميركا، بهذا المنحى، هي قلب العالم والمحرك الذي يجر القطار.
ولكن على الرغم من كل هذا، لا نجد مفكراً أو أديباً أو كاتباً مسرحياً أو رساماً يؤيد أميركا. قد يؤيدها بنمط حياتها. ولكنه لا يؤيدها في سياستها ولا في تصرفاتها. دائماً يتخذ الأدب موقفاً معادياً للولايات المتحدة. إن معظم الأدباء يحبون الحياة في أميركا، ولكنهم في الوقت نفسه ينتقدون سياستها. فالأدباء يشبهون السياسيين في هذا الموقف المتناقض. نريد من أميركا الوجه الإيجابي، أما سلبيات السياسة فنكافح ضدها! إنه التناقض الهيراكليتي.
هذا الموقف المعادي نابع من طبيعة الأدب. فمعاداة أميركا معاداة للنهج الجارف نحو المادة، أو لنقل إن هذا النهج محصور بالتنافس المادي، على عكس أميركا قبل أكثر من مئة عام، يوم كانت مسرحاً للتجارب الاشتراكية والحرية الدينية. وأدباء أميركا أنفسهم يقفون في مواجهتها واستنكار هذا النهج.
إثارة العالم وتحريكه
يقوم الموقف الأدبي على التنافس أيضاً. ولكنه تنافس في المجال المعنوي، في الحق والخير والجمال، وليس في تحقيق الربح الكبير في الزمن القصير. ومن هنا كانت المنافسة الأدبية مفيدة ترقى بمشاعر الإنسان وتجعله أقرب إلى الملائكة أو الآلهة، في حين كانت المنافسة المادية تثير أحط أنواع الغرائز الاستئثارية، ما يجعل تدمير العالم وتعميره يتمّ في آن معاً، مع انتشار كبير للفوضى والاضطراب والحروب والفتن… إن أميركا في هذه الناحية شرّعت نوعاً من الحروب الدائمة. وما يسمى اليوم “الاضطراب المثمر” أو الفوضى الخلاقة، generating instability، كما هو شائع، ليس سوى تعبير عما جرت عليه الأمور بعد الحرب العالمية الثانية، حين قررت أميركا التحوّل من “القارة” إلى “العالم”. بل إن هذا المسلك يظهر حتى في المشاريع الفردية، التي تميل دائماً إلى المغامرة.
إن أميركا هي التي تثير العالم وتحركه وتدب فيه الحيوية… ولكن في الاتجاه المادي فقط. وتماشياً مع نزعتها، رفضت التوقيع على أي معاهدة تلزمها بوقف النشاط الحراري الذي يؤثر في الطبقة الجوية ويهدد البشرية، منذ “قمة الأرض” وحتى الآن، مع أنها تشجع الآخرين على التوقيع والالتزام!
لأدب لا يرى في هذا الاتجاه خيراً، ولذلك يقف في وجه أميركا. ومع معرفته الكاملة أن من الصعب تغليب التنافس الأدبي على التنافس المادي، فإنه لا يستطيع التخلي عن خطه وسياسته، منذ نشأته وحتى اليوم، بل حتى آخر الدهر. الأدب هو الأدب.
وهو في هذا يمارس تقليده الأدبي من دون أي انحياز، ففي زمن الاتحاد السوفييتي أيّد الأدب شعارات الارتقاء بالجماهير، ولكنه أدان بشدة الممارسات التي تقمع الحريات الفردية والاجتماعية.
حراجة الأدب اليوم مثل حراجة السياسيين خارج أميركا، كيف يحافظ على أميركا كركيزة للنظام العالمي، وكيف يعوّم المنافسة الأدبية، كبديل للمنافسة المادية المدمرة. إنه يمسك قوسه واثقاً، ويعرف طريدته جيداً.
كاتب من سورية