في كيانية حركة المواطنة ودلالاتها!
د.عبد الحسين شعبان
ظل الرئيس الأميركي جورج بوش، الأعلى صوتاً من بين أركان إدارته في الحديث عن النصر في العراق، لا يضاهيه في ذلك سوى أصوات بعض «القيادات» العراقية، التي ضجّت بصخب تتحدث عن «التحرير»، رغم أن الكثير منها اختفى حالياً أو بلع لسانه أو برر موقفه بجهله أو أخذته العزّة بالاثم، فاستمرأ الحديث عن العراق الجديد ومنجزاته، لكن الرئيس الأميركي وحده لم يخفض رايته أو يتخلّى عن حماسته، أو يخفت صوته!
ويشير تقرير نشر أخيراً في صحيفة التايمز إلى أن أحد العاملين بالإدارة الأميركية رفع كلمة «النصر» من خطاب كان مقرراً أن يلقيه بوش، إلاّ أن الأخير أصرّ على استعادتها وإبقائها. وقد ثابر الرئيس الأميركي على زيادة عدد القوات الأميركية للحفاظ على النصر أو روحه في العراق، ووقف بذلك بوجه كبار العسكريين في وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» الذين كانوا يخشون من استنزاف القوة العسكرية الأميركية، وتمسكوا باستراتيجية تدريب وتأهيل القوات العراقية تمهيداً للانسحاب الأميركي، رغم أن هذه القوات مشكوك فيها، ناهيكم عن أن المستقبل المنظور لا يعطي مثل هذا الانطباع لاسيما مرور خمسة أعوام ونصف على الاحتلال، وعلى الزعم بتأهيل القوات العراقية، بعد قرار حل الجيش العراقي، الذي اتخذه الحاكم المدني الأميركي في العراق بول بريمر، وكان من أول وأخطر القرارات، بل الأكثر تأثيراً على مستقبل الوضع العراقي، كما كشفت أحداث السنوات الخمس والنصف الماضية.
وبعد تنصيب الجنرال بيترايوس قائداً عسكرياً في العراق وتحوّل الاستراتيجية الأميركية إلى محاربة الميليشيات المسلحة وحركات التمرد، خصوصاً بعد تشكيل ما سمّي بمجالس الصحوات، فإن مطالب البنتاغون ظلت مرهقة، لاسيما الطلبات والتقارير التي تؤكد الحاجة الفعلية لزيادة القوات والموارد المخصصة، وأصبح البنتاغون أكثر قلقاً من الحروب المحتملة، إذا تجاوز واقع الحال المنذر باستمرار حالة التشظي وعدم الاستقرار والإرهاب واستمرار وجود الميليشيات والاستقطابات الطائفية ووجود مئات الآلاف من النازحين إضافة إلى ملايين من اللاجئين.
وبالعودة إلى كتاب بوب وود وورد «الحرب من الداخل: أسرار البيت الأبيض 2006-2008» فإن الخلاف الحاد بدأ داخل الإدارة الأميركية، لاسيما بعد سيادة ما سمّي «الفوضى الخلاقة»، وأن رد فعل الإدارة الأميركية كان بطيئاً إزاء تدهور الأوضاع، وعدم التكيّف سريعاً مع الظروف المتغيّرة، ولعل تلك إحدى سمات إدارة الرئيس بوش، ليس في ما يتعلق بالوضع في العراق، إنما بعموم سياسته الخارجية والداخلية، فضلاً عن إجراءاته المتأخرة بشأن إعصار كاترينا وأزمة الرهن العقاري وارتفاع أسعار النفط وانخفاض قيمة الدولار، وأخيراً الأزمة المالية والاقتصادية الطاغية، التي لم يعرف العالم لها مثيلاً منذ السبعينيات، وقد تعود بالذاكرة إلى أزمة الكساد والانكماش الاقتصادي العالمية 1929-1933 التي كانت إحدى مقدمات الحرب العالمية الثانية، لاسيما بصعود هتلر إلى السلطة وإحراز حزبه النازي النجاح في الانتخابات.
وإذا راجعنا التلكؤ الذي اتهمت به إدارة بوش بشأن مجابهة الإرهاب، خصوصاً عشية أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية، فإننا سنضيف ذلك إلى الإجراءات المتسرعة وغير المدروسة التي اتخذتها الإدارة الأميركية كرد فعل على الأحداث وذلك بغية تطويق فشلها وتعويضاً عن إخفاقاتها، لاسيما أمام الرأي العام الأميركي، وهو الذي دفعها إلى احتلال أفغانستان عام 2002 وفي ما بعد احتلال العراق عام 2003 والورطة التي أوقعت الإدارة نفسها فيها، رغم تلويحاتها بضربة عسكرية إلى إيران بسبب ملفها النووي كما تقول وممارسة المزيد من الضغوط على سورية لكي تستجيب إلى تسوية مع إسرائيل مثلما تريدها الأخيرة.
ويروي بوب وود وورد كيف أن كين مساعد بترايوس وهو جنرال متقاعد وبديلاً غير رسمي له أشار إلى أن بترايوس قد ينحني أمام الضغوط الثقيلة لاسيما إذا كانت من أعلى (أي من البنتاغون ) بخصوص زيادة القوات الأميركية ومواجهة القوى المتمردة، الأمر الذي يعرضها إلى الخطر. ويضيف كين حسب كتاب «الحرب من الداخل …» شارحاً فكرته أن الذين انغمسوا بالثقافة العسكرية يصعب عليهم العمل والنجاح دون دعم، فما بالك عندما يهاجمون وينتقدون.
ويذكر وود وورد أن الرئيس بوش طلب من كين بنفسه صياغة رسالة باسمه إلى بترايوس تقول: أنا أحترم سلسلة القيادة، وأعلم أن رؤوساء الأركان المشتركة والبنتاغون لديهم بعض المخاوف والقلق، أحدهما حول القوات البرية الأميركية والمارينز وتأثير الحرب عليهم، وثانيهما حول الطوارئ ونقل الاستجابة الاستراتيجية إزاء ذلك… وإن تخفيض القوات خاضع إلى الظروف والأحوال في العراق.
واختتمت الرسالة بالقول على لسان بوش «أنا أريد أن أغيّر الاستراتيجية حتى تنجح. لقد انتظرت مدة ثلاث سنوات من أجل استراتيجية ناجحة، وأنا لا أتخلى عنها قبل الأوان، أنا لا أريد خفض القوات ما لم تكونوا مقتنعين بأننا يجب أن نخفضها».
هكذا كانت الاستراتيجية الأميركية تتقلب للإبقاء على جذوة «النصر» متقدة، أو روحه حاضرة، لكن هذا النصر السريع الذي تحقق لها بعد حرب دامت 3 أسابيع فقط تمكنت خلالها من الإطاحة بالنظام السابق واحتلال العراق، فرّ من بين يديها، ولم يعد بالإمكان استعادته أو العودة إليه، لأنه أصبح ماضياً.
مرت الاستراتيجية الأميركية خلال السنوات الخمس والنصف الماضية بمراحل هي:
المرحلة الأولى التي أطلق عليها: «استراتيجية نقل المسؤوليات الأمنية إلى القوات العراقية»، وهذه الاستراتيجية أعقبت فترة الحاكم المدني الأميركي بول بريمر 2003-2004 الذي جاء بعد الحاكم العسكري جي غارنر، وبدأت هذه المرحلة بعد 30 يونيو 2004، لاسيما بعد صدور القرار 1546 بتاريخ 8/6/2004.
أما المرحلة الثانية فقد أطلقت عليها اسم «استراتيجية النصر» وهي مرحلة ما بعد التصويت على الدستور الدائم، أي بعد 15 أكتوبر 2005.
أما المرحلة الثالثة فقد سميت الاستراتيجية المشتركة، والتي شملت العام 2006 كله، وكان من أهم سماتها ما سمي خطة فرض القانون والمصالحة الوطنية.
وبدأت المرحلة الرابعة في مطلع العام 2007 وكان يفترض أن تنتهي بعد 18 شهراً أي في 31 يوليو 2008 بالتوقيع على معاهدة أو اتفاقية ثنائية عراقية-أميركية هدفها تحويل الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي، ورغم توقيع اتفاق المبادئ في خريف العام 2007 والشروع بالمفاوضات، لكنّ الاتفاقية لم تبرم بعد. وسميت استراتيجية المرحلة الرابعة بـ«الطريق الجديد إلى الأمام»، لكن هذه الاستراتيجيات جميعها لم تحقق ما كانت تريده واشنطن، بما فيها المعاهدة «اللغم» الذي قد ينفجر في أي لحظة مبدداً معه ليس روح النصر أو جذوته فحسب، بل قد يذيق طعم الهزيمة المر للمشروع الإمبراطوري الأميركي في العراق والمنطقة! الأمر الذي سيضعها أمام استحقاقات جديدة وربما خطيرة، خصوصاً بشأن الإصلاح والديمقراطية ومكافحة الإرهاب، وإحداث التنمية المطلوبة، وهذه تحديات كبرى قد تواجه المنطقة ككل!
* باحث ومفكر عربي