مجتمعات المعرفة وأهمية اللامنتمي وضروراته الحياتية واليومية
إبراهيم غرايبة
ربما كانت المجتمعات والأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية المتشكلة أو التي سوف تتشكل حول اقتصاد المعرفة بحاجة أكثر من أية فترة ماضية إلى فئة من الناس يمكنهم أن يلاحظوا الفوضى والعيوب في ما هو سائد، أو أولئك الذين وصفهم كولن ويلسون بـ»اللامنتمي» وهو ذلك الشخص الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ، وهو الذي يشعر بان الاضطراب والفوضوية أكثر عمقاً وتجذراً من النظام الذي يؤمن بهِ قومه، انه ليس مجنوناً، هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين الصحيحي العقول. واللامنتمي هذا كان ضرورة لتشكيل حالة القلق والشعور بالخطل في الحضارة والمجتمعات الصناعية، كان بمثابة النذير الذي يدلنا على العيب والنقص في حياتنا، وكان في قلقه مصدرا للإبداع. لكنه اليوم يكاد يكون خبيرا أساسيا يقدم المهارات الضرورية في حالة الفوضى والأسئلة والتوقعات التي تتواصل وتتوالى حول الأعمال والموارد والقوة والنفوذ. فهل سنرى على سبيل المثال بحوثا دينية فقهية حول أداء الحج والعمرة من خلال شبكة الإنترنت؟
فشبكة الإنترنت تتحول إلى بيئة «كمبيوترية» عالمية يمكن أن تكون مستودعا لكل شخص يحتوي جميع ملفاته وأعماله، وبذلك فإنه من أي مكان أن يدخل إلى ملفاته ويواصل عمله كما لو أنه في مكتبه أو أمام كمبيوتره المحمول، وسيكون هذا مفيدا ومهما بشكل أساسي لطلاب المدارس والجامعات، بالإضافة بالطبع لرجال الأعمال والمندوبين والصحفيين والأشخاص الذين يتطلب عملهم الانتقال، وتتحول الإنترنت إلى بث عام مثل بث الاتصالات يمكن الحصول عليها في أي مكان تقريبا.
وهذا يقتضي أنسنة الحواسيب، الفكرة التي شغل بها ما يكل ديرتوزوس في كتابه الجميل «ثورة لم تنته» فيتحدث مدير مختبر العلوم في جامعة ماساشاسوتس عن تبسيط برامج ولغات الكمبيوتر ليكون استخدامها سهلا ومبسطا وقائما على طريقة الإنسان في العمل والتفكير، فيتفاعل الكمبيوتر مع نظر المستخدم وعينه، ويكون الكمبيوتر قادرا على القيام بأعمال كثيرة مثل التلفزيون والهاتف والخدمات الطبية.
وفي المجال الطبي تجري المعلوماتية تحولات تغير جذريا أساليب عمل المستشفيات والأطباء، فالصور الطبية الممكن نقلها إلى أي مكان في العالم من خلال شبكة الإنترنت تتيح للأطباء والمستشفيات العمل والمعالجة من أي مكان في العالم لأي شخص في العالم.
والواقع أن مهنتي الطب والتعليم معرضتان للتغير الجذري، وسيكون الطبيب والمعلم في المستقبل القريب شخصين مختلفين في مؤهلاتهما وطبيعة عملهما اختلافا كبيرا عن المعلم والطبيب في السابق. أو بتعبير أدق، سوف تزدهر أنماط وخدمات جديدة من الأعمال الطبية والتعليمية.
وما زالت الحواسيب تتطور وتتضاعف قدراتها بحدود مرتين كل ثمانية عشر شهرا، مغيرة كل وسائل الحياة والعمل، ماذا يحدث حين تحوسب الأجهزة، وتصغر إلى درجة ميكروسكوبية مع قدرات هائلة تفوق الأجهزة الكبرى، وحين تندمج في عملها مع شبكة الاتصالات والإنترنت، أو تتواصل مع الإنسان نفسه؟
يمكن لجهاز كمبيوتر متطور جدا أن يكون على هيئة زر قميص أو قطعة صغيرة مثبتة على ربطة العنق أو يكون جزءا من بنية الملابس، وتكون هذه الكمبيوترات بالغة الرخص بحيث يمكن شراؤها من البقالات ورميها في النفايات عندما تنتهي الطاقة المخزنة أو يمكن أن تستمد الطاقة من حركة الجسم الذاتية، ويمكن تزويد النظارات بجهاز كمبيوتر متفوق ومرتبط بالإنترنت، ومع تطور البرامج مثل غوغل إيرث، يمكن بسهولة مراقبة العالم أو أي مكان في العالم بتلقائية ومن أي مكان ويكون ذلك متاحا لأي شخص بنفس الكفاءة التي تتمتع بها اليوم الأقمار الصناعية والأجهزة الهائلة المرتبطة بها والتي لا يقدر على امتلاكها وتشغليها سوى الحكومات والدول الغنية، ويمكن أن تتحول «الفلاش ميموري» الشائعة الاستخدام اليوم إلى شرائح صغيرة جدا وتستطيع حفظ قدر هائل من المعلومات لا يقل عن أجهزة الكمبيوتر الشخصية، وقد بدأت مثل هذه التطبيقات بالفعل، فليس الحديث هنا عن خيال علمي، وبدأت حتى الأجهزة الحكومية المتخصصة تعتمد على برنامج غوغل إيرث أكثر من إمكانياتها الذاتية، وكانت الأخبار السورية عن نشاطات إسرائيلية في الجولان لتحويل وجهة مسار بعض سيول الماء مستمدة من غوغل إيرث، وليست معلومات استخبارية.
وأمكن الاستغناء عن أدوات التواصل مع الكمبيوتر عبر الفأرة والمفاتيح إلى اللمس والصوت ليكـــون الكمبيوتر أكثر سهولة وبساطة في استخدامه وفـــي تلبية الطلبات، وباندماج مجموعة كبيرة من الخدمات والتقنيات مع الحاسوب، مثل خطوط الاتصالات والأقمار الصناعية والأجهزة الطبية والتسوق والمؤسسات الخدمية، فيمكن لجهاز الكمبيوتر المدمج بالموبايل أو المتثبت في الملابس أو أجــزاء الجسم توفير قدر كبير من الخدمات مثل الوصول إلى محطات الإذاعة والتلفاز والإنترنت والربط بالأسواق والخدمات والمراكز الحكومية والمستشفيات وخدمات الطوارئ، والمراقبة الآلية والتلقائية للإنسان مثل الحرارة والأمراض والإعياء وحتى السكر ونسبة الكحول لمراقبة قيادة السيارة، ويمكن برمجة السيارة لتمتنع عن السواقة في حال ارتفاع نسبة الكحول في دم السائق بملاحظة ذلك بمجرد ملامسته لمقود السيارة أو ملاحظة الحالة الصحية والإرهاق لدى السائق، ويمكن الاتصال بالمستشفيات والأطباء والطوارئ والشرطة والدفاع المدني للإبلاغ عن أي تطورات صحية، مثل ضغط الدم أو أعراض مرضية أو نوبات قلبية أو حوادث مرورية أو جنائية أو اعتداء أو سرقة.
وتتطور البطاقات الذكية لتتجاوز الاستخدام المحدد في البنوك والاتصالات لتتحول إلى شريحة شاملة وهائلة يمكن تزويدها بالسيرة الذاتية والمعلومات الشخصية والحالة الطبية وربما الخريطة الجينية للشخص ويمكن بث وتزويد هذه المعلومات وتبادلها بسهولة وتلقائية. يس الجديد في هذه التقنيات وجودها بالفعل ولكن انتشارها على نطاق واسع وبأسعار مخفضة بل وتحولها إل مواد وسلع استهلاكية مثل بطاقات الاتصالات والمناديل الورقية، وتحولها من إمكانيات سرية وتقنيات يحرسها «كهنة» من الأكاديميين والاستخباريين لتتحول إلى منتج يومي يستخدمه جميع الناس، ألم تكن الكتابة على سبيل المثال قبل فترة قليلة من الزمن مهارة خاصة ومحدودة وسرية، بل وكان يجري منع تداولها، وقبل أقل من مائة وخمسين عاما كان السود في الولايات المتحدة الأمريكية يعاقبون بالإعدام إذا تعلموا القراءة والكتابة.
اللامنتمي يتحول إلى مهنة أساسية وضرورية اليوم لندرك الواقع قبل تشكله أو حين تشكله، ولا بأس بمعرفته أيضا بعد تشكله.
الخياة