رجال الدين هم مَن يعمل على تصنيع الفتنة وتصديرها
علي حرب
لا يبدو أن العالم العربي أصبح مؤهلاً، بمجتمعاته وطوائفه وأنظمته، فضلاً عن أحزابه ومنظوماتهم العقائدية والإيديولوجية، لإجراء حوارات ناجحة، بناءة ومثمرة، لوضع حد للصراعات الدموية والحروب الأهلية.
ولذلك لجأت في عنوان مقالتي الى استخدام مفردة »الحرب« أو »الصِدام«، لا الى مفردة »الحوار« أو »التقريب«. والشواهد ناطقة وفي غير مكان، بين المعسكرين. حتى داخل المعسكر الواحد يبدو أن التحالف هو في الظاهر وعلى السطح. وأما الأصل الخفي فهو الاستبعاد والاستئصال، كما جرى في تلك القرية اللبنانية الجنوبية التي خُرّبت فيها أضرحة الشهداء العائدة لأحد الأحزاب من جانب حلفائه.
وبالطبع هذه هي الحال في العالم العربي، خاصة بين السنة والشيعة. فالحوارات التي تجري تحت أسماء مختلفة تصل دوماً الى الجدار المسدود. وقد تابعت، في هذا الخصوص، وقائع الحلقة التلفزيونية في برنامج »سجالات«، وكانت معدّة للكلام على النزاع الناشب بين علماء السنة والشيعة، بعد كلام الشيخ يوسف القرضاوي الذي ينتقد فيه الشيعة وإيران، وما أثاره ذلك من ردود فعل غاضبة من جانب الشيعة، أو من جانب السنّة حيث الردود تفاوتت بين معارض لكلام الشيخ وبين مؤيد له وهم الأكثرية.
كان ضيفا الحلقة، التي أدارها الإعلامي محمد قواص، الدكتور كمال الحلباوي (مصري) والأستاذ احمد الكاتب (عراقي)، وهما داعيتان يقيمان في لندن، ويشتركان سوياً بالعمل في مؤسسة إسلامية جامعة. وكلاهما يتحلى بالاعتدال والتعقّل، ويلتزم بمبدأ الوحدة الإسلامية. ومما اتفقا عليه أنه اذا كنا نعتقد أن السنّة والشيعة مسلمون، فلا ضير من أن يتحول سني الى شيعي وبالعكس، وأنه لا مشكل في أن يسعى كل فريق لنشر آرائه في هذا البلد أو على تلك الساحة؛ ومما اتفقا عليه ايضاً ضرورة عقد مؤتمر إسلامي عاجل لتطويق ذيول الأزمة وحصر تداعياتها وأضرارها.
ومع تقديري للرجلين، فإنهما بتأكيدهما على الوحدة بين المسلمين، يقفزان عن الواقع ويهربان من مواجهة الحقائق، كمن يخدع نفسه أو يدفن رأسه في الرمال. فنحن نعلم أن محاولات التقريب والتوحيد ليست جديدة، بل هي تبذل منذ عقود، ولكنها أشبه بحوار الطرشان، لأن ما من محاور درّب عقله ونفسه على الإنصات للآخر من غير هواجس معطلة أو نوايا مبيتة أو أحكام مسبقة. وكان آخر تلك المحاولات المؤتمر الحاشد الذي عقد في الدوحة (كانون الثاني ٢٠٠٧)، بين علماء المسلمين ودعاتهم. ولكنه كان عديم الجدوى والفاعلية. بدليل ما أعقبه من سجالات حادة وحروب كلامية بين الشيخ القرضاوي على الجبهة السُّنية من جهة، والشيخ التسخيري أو الشيخ رفسنجاني على الجبهة الشيعية من جهة أخرى، وكما استمعنا يومئذٍ إليهم عبر الشاشات.
ثم تفاقمت الأمور، في ما بعد، وكما حصل مؤخراً بعد كلام الشيخ القرضاوي على التمدّد الشيعي. ومن الطبيعي أن تسوء العلاقة وتتدهور، ما دامت المشكلة تعالج بمنطق فئوي أحادي، أو بعقلية مثالية طوباوية لا تأخذ بعين الاعتبار حقائق التاريخ ووقائع النصوص التي صنعت رموز الهوية وشيفرات الوعي عند أهل كل مذهب.
لذا، فالمطلوب تشخيص الواقع بتفكيك الألغام الأصولية والمذهبية التي تنتج المشكلة، كما يتمثل ذلك في ادّعاء كل فريق بأنه يحتكر وحده مفاتيح الإيمان والهداية، أو يجسد الإسلام الصحيح، وسْط هذا التنوّع الهائل في الديانات والطوائف والمذاهب والمرجعيات والآراء التي هي غنى وسعة ونعمة في الفكر والخلق والاجتماع. وبداية التشخيص هي الاعتراف بحقيقتين ساطعتين نتعامى عنهما من فرط الجهل والتعصّب:
الأولى هي أن الإسلام ليس واحداً، بل متعدد ومختلف أو متعارض، بتعدد شعوبه أو باختلاف طوائفه أو بتعارض أحزابه داخل كل طائفة. هذا واقع يجدر بنا الإقرار به، إذا شئنا أن ننجح في معالجة النزاع والسيطرة عليه، بصورة سلمية وإيجابية تعيد بناء ما تفكّك وتصدّع.
وإذا كان الخلاف السّني الشيعي هو الخطر الداهم، فإنه ينبغي أن نعترف بأن العلاقة بين الفرقتين ليست علاقة »أخوة« في العقيدة، كما ندّعي أو نتوهم، بل هي علاقة رفض ونبذ أو تكفير وتبديع، أي علاقة »عداوة«. فالأخوة هي قشرة ظاهرة فيما العداوة هي الطبقة الغائرة والآفة المتحكمة، على ما آلت اليه الامور، في التراث الكلامي والفقهي لكل طائفة. فعلماء السنة يكفّرون الشيعة، ونموذجهم ابن تيمية؛ وفي المقابل إن علماء الشيعة يعتقدون أن السنّي لا تقبل حسناته يوم القيامة ولو كان صالحاً، على ما قرر ابن بابويه. وهكذا كلاهما قطع بتكفير الآخر نيابة عن رب العالمين وقبل يوم الحساب الموعود.
هذه هي النماذج التي أسهمت في تشكيل النصوص والعقول. وهذا هو الخطاب الداخلي المسيطر لدى أتباع كل فرقة. ولذا لا يجدي نفعاً أن نتحدث من على الشاشة على الوحدة بين المسلمين، ما لم نعمد الى إعادة النظر في النصوص التكفيرية والإقصائية من برامج التنشئة الدينية لدى كل طائفة، بحيث نستبعد ما أسس للاستبعاد وعمل على إعادة إنتاجه. بكلام آخر، إن المطلوب، إذا شئنا إعادة بناء الثقة بين المعسكرين، أن يقف علماء على الجانبين، لكي يعلنوا على الملأ أنه ليس كل ما جاء في كتبنا صحيحاً. والأحسن أن يقتدوا بآباء الكنيسة، فيعتذروا من الناس والعالم، تكفيراً عما مورس، ماضياً وحاضراً، من التعصب والانغلاق والإقصاء المتبادل بعضهم بحق بعض، وذلك بتضييق رحمة الله التي يقولون إنها واسعة، أو بحصر معنى النص الذي هو متعدّد ومشتبه، أو بادّعاء القبض على الحقيقة التي تتّسع وسع الكون بعناصره ووقائعه.
من غير ذلك، لا نحصد سوى الفرقة والمزيد من الشرذمة على أرض الواقع الذي ينتقم منا، بقدر ما نتجاهله، لكي يفاجئنا بانهياراته وكوارثه. بالطبع هناك قلّة قليلة من الدعاة والعلماء قد عصمها التواضع والعقل المنفتح والمنهج الوسطي والرؤية الواسعة التي تتيح لصاحبها ممارسة خصوصيته بصورة عقلانية تواصلية عابرة لحواجز المذاهب وخنادق الطوائف. ولكن لا قدرة لهذه القلة على لجْم رسل الفتنة الذين يصنعون بعقليتهم الاستئصالية وتصنيفاتهم الضدية جماهيرهم بكتلها الصماء وغرائزها العمياء، ولا فاعلية لها في إعادة بناء الثقافة الدينية على أسس التقى والاعتراف أو التعدّد والتنوع أو الشراكة والتضامن أو التفاعل على سبيل الإغناء المتبادل. ليستيقظْ حماة الشأن الديني من سباتهم، فهم يعلنون رفضهم الصارخ لمقولة صِدام الحضارات، فيما نحن لا نحسن سوى الانخراط في صدام المذاهب وحروب الطوائف.
الحقيقة الثانية التي تُطمس من فرط سطوعها بسبب النرجسية والمكابرة، هي أن المسلمين قد فكوا عزلتهم بعضهم عن بعض، وانفتح بعضهم على بعض، ليس بسبب العودة الى السلف الصالح والاعتصام بحبل الله، بل بفضل الانخراط في عالم الحداثة بفلسفاتها وقيمها ونظمها ومؤسساتها وفضاءاتها العقلانية والتنويرية… ولكنهم، وكما يحصل اليوم، بعدما عادوا الى فقههم وعقائدهم لتنظيم الحياة ومواجهة التحديات، غرقوا في النزاعات والحروب الأهلية. لأنه لا يمكن صناعة الحياة وبناء المجتمعات، لا بتقليد الآخر، ولا بتقليد السلف، بل بالخلق والابتكار للعناوين والصيغ والنماذج والوسائل التي نشارك فيها في صناعة العالم.
وانطلاقاً من ذلك، أنا مع عقد مؤتمرات ولقاءات لدرس المشكل وتشخيص الداء، كما اقترح كمال الحلباوي وأحمد الكاتب. ولكنّ لي اقتراحاً مزدوجاً:
الأول هو توسيع إطار الحوار، بحيث لا يقتصر على الدعاة والعلماء من السنّة والشيعة، بل يشارك فيه بصورة جدية لا هامشية، آخرون مستقلون عن الأطر الدينية، من العاملين في حقول الفلسفة وعلوم الاجتماع والإنسان، فضلاً عن المختصين من علماء الأديان، بالطبع ليس الذين يسطون على النظريات العلمية لنسبتها الى القرآن، بل الذين ينتجون أفكارا خصبة ومعارف ثمينة حول الحقل الديني، للإفادة من مقارباتهم وتحليلاتهم واقتراحاتهم، لا سيما أن هؤلاء يعترفون بالمتدينين بوصفهم جميعاً مؤمنين ومسلمين، بعكسهم هم الذين يشتغلون بإقصاء بعضهم بعضاً.
لنعترف مرّة ثالثة، فبعد كل هذه التجارب الفاشلة، لم يعد باستطاعة رجال الدين وحدهم أن ينجحوا في تحليل المشكل ومعالجته بأفكارهم البائسة ونماذجهم البائدة التي تصنع الفتن وتنشرها في أرجاء المجتمعات العربية وأحشائها. لقد بات من الضرر، بل الخطر، أن يُترَك الأمر للدعاة من ذوي العقول المغلقة والنفوس الموتورة، وسط هذه المآزق والكوارث التي يصنعها آلهة الخراب والعذاب. فالأكثرون أفلسوا ببرامجهم ومشاريعهم التي تحوّل الدين من تقوى مخدِّرة أو خشية رادعة الى فيروس قاتل ينشر الإرهاب على الساحة العالمية.
فالأتقى أن يعودوا إلى رشدهم بعدما فقدوا مصداقيتهم. لقد انبروا لقيادة المجتمعات في مسيرة الإصلاح والبناء أو الجهاد والدفاع، فيما هم فشلوا في تعزيز قيم التعارف والتواصل والتآزر والتضامن وسواها من القيم القرآنية. وهكذا فقد دمروا السلم الأهلي الذي هو المهمة المناطة بهم أصلاً. لذا فقد باتوا بحاجة، لمواجهة الفتنة والمحنة، الى تدخّل قوى وهيئات وفاعليات من جميع الحقول والاختصاصات، بمن فيهم بالطبع رجال السياسة وأهل المال والإعلام وسواهم من القوى الفاعلة والمؤثرة. فالندوات الأحادية باتت أعجز من أن تحل المشكلات، المتعلقة بالشأن العام، فكيف إذا كانت تتهدد الكيان والمصالح والمصائر.
أما الوجه الآخر فإنه يتعلق بهدف المؤتمرات والحوارات. وما أراه في هذا الخصوص، مع الاعتذار من التكرار، هو أن يعيد المسلمون ترتيب علاقتهم بذواتهم، لصنع صورة جديدة لهويتهم، تقوم على الاعتراف المثلث من غير لُبس أو مداورة. اولاً اعتراف بعضهم ببعض، بوصفهم مسلمين؛ ثانياً اعترافهم بأصحاب الديانات الأخرى بوصفهم مؤمنين؛ ثالثاً اعترافهم بمن لا ينطلقون من منطلقات دينية. هذه المهمة المركّبة تحتاج إلى جرأة خارقة ومبادرات فذة تدفع الواحد إلى العمل على ذاته لكسر نرجسيته والزحزحة عن مركزيته، ومن هذا شأنه يفكر ويعمل لخلق الوسط الجامع أو تشكيل المساحة المشتركة أو اجتراح اللغة المرنة والمتحركة برؤاها ومفاهيمها.
لا أنفي، على سبيل الاستدراك، أن يكون للصراع السني/الشيعي طابعه السياسي والاستراتيجي، خاصة بعد صعود إيران على المسرح الإقليمي والدولي كقوة فاعلة أو مهيمنة. ولكن هذا التطور الطارئ والجديد، لا يلغي الخلاف الأصلي بين المذاهب الإسلامية، الذي ينام ويتوارى، ثم يستيقظ لكي يوظف في إنتاج أسوأ السياسات استبداداً وفساداً، أو لكي يعمل على ابتلاع السياسة والدولة والمجتمع المدني، بإرهابه المقدس وعقائده الاصطفائية. هذا الداء المزمن الذي يقوّض مشاريع البناء والعمل المشترك، هو ما ينبغي تشريحه ومعالجته.
أختم بالعودة إلى لبنان: هل عاد أهله إلى صوابهم للاشتغال بمنطق الحوار؟ أنا بت أخشى من ذلك. لأنه كلما انخرط اللبنانيون في حوار جدي أو توصلوا إلى اتفاق يضع البلد على سكة الحل، تحدث اضطرابات أو انفجارات تعيد الوضع إلى نقطة الصفر. ومع ذلك، حسناً أن تجري الحوارات والمصالحات لإعادة بناء الثقة بين الاطراف المتصارعة، ولكن شرط أن لا يجري ذلك بعقلية الالتفاف أو الاستقواء أو الغرور أو الاستخفاف أو استغلال القوة أو تقطيع الوقت أو انتظار أحداث لنقض الاتفاق والانقضاض على الخصم، بل بوضع اليد على الجرح وتشخيص الداء. وبداية ذلك الاعتراف والاعتذار، لا التصالح مع فريق للانتقام من آخر، ولا التهرّب من الاعتذار أو التهجّم على مَن يعتذر. من يفعل ذلك لا يسعَ للمصالحة ولا يعمل لمصلحة السلم الأهلي بين فئات المجتمع وقواه وفاعلياته السياسية والأهلية والمدنية. لأن هذا السلم لا يقوم على استضعاف أو استبعاد المعارضة أو الأقلية داخل كل معسكر أو طائفة، بل على الإنصات إلى رأيها، لا سيما إذا كان المأزق من صنع الجميع وبخاصة القوى الفاعلة والمهيمنة.
وبالطبع فإن السلم الأهلي، وخاصة في بلد كلبنان، لا يحتاج الى القوة المسلّحة، بل الى القوة الهادئة والناعمة، المنتجة والبنّاءة، التي يحاور أصحابها بفكر مركّب وعقل تداولي أو بمنطق البعد المتعدّد والتحويل الخلّاق.
([) كاتب لبناني
السفير