تقليد رديء
حازم صاغيّة
واحد من التقاليد الرديئة للثقافة العربيّة، بيمينها ويسارها، بالإسلاميّ والقوميّ، والليبراليّ وغير الليبراليّ فيها، أنّها نادراً ما تراجع نفسها. فحين تفعل، كثيراً ما تكتشف أنها كانت على صواب في الجوهريّ وأن الخطأ الذي ارتكبته لم يمسّ إلاّ التفاصيل. لا بل أحياناً تأتي «المراجعات» لتؤكّد أن الخطأ ناجم عن ضعف الولاء للفكرة المقصودة، وعن نقص العمل بموجبها، وليس عن الأخذ بها والإفراط في ذلك.
من هذا مثلاً أن دزينة من الأنظمة الاشتراكيّة التي طبّل لها مثقّفو اليسار وزمّروا، ونشأت لمحاكاتها أحزاب وقوى، ذرتها ريح 1990-91 وسوّتها بالأرض. مع هذا، ومع أن غربيّين كثيرين انتقلوا بسبب ذلك من الشيوعيّة إلى الاشتراكيّة الديموقراطيّة، أو من الاشتراكيّة إلى ليبراليّة ما، لم يظهر لدينا ما يفسّر الحدث الكبير، وطبعاً لم يظهر من يعتذر. حتّى الذين انتظروا الشمس تشرق من عدن عبد الفتّاح اسماعيل لاذوا بالصمت، أما خالد بكداش فحمّل المسؤوليّة لميخائيل غورباشوف وتعامله مع الإمبرياليّة!
اليوم يتكرّر الأمر نفسه على جبهة أخرى: فالذين هجروا ليبراليّتهم واعتنقوا تعاليم النيو ليبراليّة، والذين صفّقوا بلا تحفّظ لحرب جورج بوش في العراق، نراهم يستأنفون ما بدأوه مكتفين بإشارة سريعة إلى «حماقة» بعض السياسات الأميركيّة في السنوات الأخيرة، أو تعاظم الجشع الإنسانيّ واتّساع رقعته.
والحال أن شيئاً أخطر بكثير من ذلك يحصل الآن، كلُّ من هلّل للحرب أو للاقتصاد الافتراضيّ مسؤول، بنسبة أو أخرى، عنه. بيد أن العصبيّة السجاليّة هي ما يملأ الفراغ الذي كان الأجدر بالمراجعة والنقد الذاتيّ أن يملآه.
من ذلك مثلاً أن نيو ليبراليّين لا تفتر حماستهم لتحديث مجتمعاتهم أو تغريبها أو علمنتها، وجدوا بعض أطيب النعوت يكيلونها على الشيخ يوسف القرضاوي وتحذيره من «الاختراق الشيعيّ» للعالم السنّيّ، وفي عداده مصر! وكانت نادرة جدّاً، لا بل مجهريّة، الأصوات التي ميّزت بين السياسات الإيرانيّة واحتمالات خطرها وبين الشيعة والشيعيّة، أو التي رفضت هذين التطييف والمذهبة للنقاش على نحو يسمّم ما تبقّى لدينا صحيّاً، ويكمّل الجهد الإيرانيّ المفترض.
وهذا وذاك من سمات ثقافة ليس همّها أن تكون ثقافة، يطغى عليها الغرض السياسيّ، وبالأحرى السياسويّ، الضيّق. غير أن الوجه الآخر الملازم لامتناع المراجعة اتّساع الوعي السحريّ: ذاك أن عدم تصدّي اليساريّ لخرافاته يترك الساحة لليمينيّ يفسّرها خرافيّاً، والعكس بالعكس. وهذا مصدر مؤكّد من مصادر البدايات والنهايات، حيث تُزال، بين لحظة وأخرى، جبال من أفكار وتجارب وتنشأ جبال بديلة تماماً. فليس صحيحاً أن الماركسيّة ماتت حين ماتت الاشتراكيّة مع انهيار كتلتها. وليس صحيحاً أن الرأسماليّة تموت اليوم مع الأزمة الماليّة الطاحنة. ولم يكن صحيحاً أن انتصار الثورة الإيرانيّة عنى نهاية سائر الأفكار السياسيّة ما خلا الإسلام السياسيّ. ولن يكون صحيحاً، إذا ما سقطت الثورة الإيرانيّة، وهي ستسقط، القول بموت الإسلام السياسيّ مرّة وإلى الأبد. لكن التمييز بين الموت والحياة، وداخل الموت نفسه أو الحياة نفسها، هو المهمّة الغائبة التي تزيدها التعصّبات الصغيرة تغييباً.
الحياة – 10/10/08