تعليقاً على استئناف القرضاوي حملته
حسام عيتاني
يستخدم الشيخ يوسف القرضاوي تقريبا كلمات الكاتب احمد كمال ابو المجد في الرد عليه. يطلب ابو المجد من القرضاوي طي مسألة الخلاف السني ـ الشيعي لأنها تأتي في »توقيت يتعرض فيه الإسلام لحملات تشويه وهجوم تستدعي وحدة أبنائه جميعاً لمواجهتها وتنحية الخلافات المذهبية جانباً«، فيجيب الشيخ بالطلب الى منتقديه أن »يقولوا كلمة واحدة للشيعة: أن كفُّوا أيديكم عن المجتمعات السنية اليوم، ولنتفرغ جميعا للصهاينة والأمريكان«.
لا عجب في أن يكون سبب السجال هو في الوقت ذاته، الداعي الى طيه. ففي زمن يدور فيه العقل الإسلامي ـ السياسي على نفسه، ليس نادرا أن تتماهى العلة والدواء والعديد من المتناقضات والمتوازيات. وبعد حوالى الأسابيع الثلاثة على تصريحات القرضاوي الأولى، انتقل الجدال من الحيز السني الشيعي الى داخل الفرقة السنية، بحسب ما يلاحظ الشيخ بأسى في رسالته الى ابو المجد المنشورة امس الاول.
يمكن القول في هذا السياق إن المرحلة الأولى من الاتهامات المتبادلة بين فقيه السنة ومبلغي الشيعة، اتخذت صورة غير مطابقة لمضمونها الأعمق. واذا جاز التبسيط في مقام شديد التعقيد مثل العلاقات السنية ـ الشيعية، يمكن القول إن ما أراد قوله القرضاوي وما رد به بعض العلماء الإيرانيين والشيعة عموما، يندرج في مجال لا يمت بصلة في واقع الأمر الى المسألة الدينية ـ المذهبية. بل إن الأقرب الى الصواب هو وضع السجال في خانة الخلاف السياسي الإخواني ـ الحرسي. فمقدم الإخوان المسلمين وفقيههم، القرضاوي، يشعر معهم بوطأة التغييرات التي يدخلها التحدي الإيراني الى تصوراتهم عن مستقبل الصراع بين المسلمين وأعدائهم. العداء »للصهاينة والأمريكان« هو ساحة المنافسة وأرضها، وليس ما أشار اليه الشيخ المصري ـ القطري.
والناظر في التصريح الأول الذي أثار القرضاوي فيه مسألة الخلاف السني ـ الشيعي، يكتشف من دون عناء أن الرجل أهمل الجوانب الأساسية من الفوارق الفقهية والكلامية والاعتقادية الكبيرة بين المذهبين، والتي تكاد تجعل منهما دينين منفصلين، برؤيتين الى العالم شديدتي التباين. وموضوع سب الصحابة ليس إلا واحداً من قائمة طويلة من القضايا يقف السنة والشيعة بشأنها على طرفي نقيض، وتبدأ من تفسير مجريات حادثة السقيفة، ولا تنتهي مع مسألة الأدعية التي يرى أهل السنة أن الشيعة يخرجون فيها عن أصول الدين، ولا مكانة أهل البيت التي يتهم السنة الشيعة بأنهم يفرطون في المبالغة فيها بما يجعل آل محمد شركاء في الصفات الإلهية….الخ، هذا الى جانب مئات الأعوام من الحروب الأهلية وعمليات التنكيل والاضطهاد وترسيخ مؤسسات دينية منفصلة ومتصارعة وتقديم تفاسير تكاد تكون متناقضة للنص المقدس، وتحول الصراع السني ـ الشيعي الى غطاء لتنافس جيوبوليتيكي بين إيران الصفوية وتركيا العثمانية.
القرضاوي لم يتناول كل ذلك، فهمّه الذي كرر البوح به في رسالته الأخيرة هو أن الشيعة ينشرون مذهبهم في ديار السنة، وهذه كبيرة من الكبائر التي يرتكبها من وصفهم »بالمبتدعين«، من دون أن تشكل التهمة هذه ما يكفي لإعلان خروج القرضاوي من »الوسطية« التي شدد على تمسكه بها في رسالته الأخيرة.
بيد أن ما سبقت الإشارة اليه من خلاف إخواني ـ حرسي (نسبة الى الإخوان المسلمين وحرس الثورة الإيراني، حيث ان الطرفين هما الممثلان الايديولوجيان الكبيران »للممانعة« بنسختها الإسلامية)، قد يكون المعلم الأبرز في سياسات المنطقة بعد أعوام قليلة. فأمام الفوات العربي الحاضر والعجز عن إنجاز المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والعصر وقيمه الرئيسية، وارتكاس أجيال من العرب الى هوياتهم الدينية ـ المذهبية كملجأ أخير من هول استحقاقات الحداثة، والإخفاق في الوقت ذاته عن السير في طريق تفكيك الإسلام الى مكوناته الأصلية المختلفة كدين وتاريخ وفلسفة قابل كل جانب منها للتعامل باستقلال عن الجوانب الاخرى، بمعنى قدرة الكاتب المسلم على تناول الإسلام تناولا نقديا تحليليا ـ تركيبيا من وجهة نظر تاريخية، على سبيل المثال، من دون الخشية من صدور فتوى تبيح دمه (راجع في هذا الإطار مقالة العفيف الأخضر عن موضوع القرضاوي والتمدد الشيعي)، عوامل كلها تحيل الى تصور قاتم للمستقبل من عناصره الأبرز: هروب الى الأمام يسعّر العداء للخارج ويضعه في أبعاد أسطورية تحاشياً للنظر في الداخل ونبش نتنه. ولسوء طالع دعاة التوجه الى الماضي لحل مشكلات الحاضر، يبرز أمامهم منافس لا تعوزه »انتصارات« في برنامجه النووي وفي حروبه ضد إسرائيل.
ولبنان الذي استخدم من قبل القرضاوي كمثال على التمدد الشيعي ـ الإيراني، لديه ما يكفيه من عوامل التوتر والاضطراب، وكان في غنى عن هذه الخدمة من الشيخ الجليل، خصوصاً أنها تندرج، كما الكثير من مواقفه وتصريحاته ورسائله، في إطار من السذاجة (وربما ما هو أكثر وأفدح)، عميم.
السفير