حوارات بائرة
وهيب أيوب
“أن نعرف الآخرين هو الذكاء، أن نعرف ذواتنا هي الحكمة. أن ننتصر على الآخرين هي القوة، أن ننتصر على أنفسنا هي القدرة. أن نكتفي هو الغنى الحقيقي، أن نسيطر على أنفسنا هي الإرادة الحقيقية”. (لاوتسي)
من أكثر المهازل المثيرة للاشمئزاز، هي تلك المُسماة بمؤتمرات أو حوارات الأديان، بحيث يذهب المشاركون فيها من مختلف البلدان والأديان والطوائف، مُبدياً كُل منهم على الشاشات الفضائية ابتساماته العريضة المُصطنعة والمبتذلة، مُحتفظاً بذات الوقت بخنجره المسموم وعقائده الثابتة خلف ظهره أو تحت عباءته وعمامته أو داخل أكمامه. يذهبون للحوار مع اقتناعهم جميعاً أن كُلا منهم يمتلك الحقيقة المُطلقة، وأن جماعته هم لا غيرهم الفئة الناجية والباقون على ضلال دون أن يخالجه في ذلك أدنى شك. وهم يمتلكون مفاتيح الجنة وملكوت السماء لأنفسهم بيد ومفاتيح جهنّم والنار الأكول لسواهم باليّد الأُخرى، فعلام يجري الحوار وبوس اللحى والذقون التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة..؛ لا أدري؟! لطالما لا يقبل أحدهم بتغيير أو تصحيح جملة أو حرفاً واحداً في الأحاديث والروايات الدينية العقائدية التي ورثوها وسلّموا بها، أو ما أقرّه ابن حنبل أو الشافعي والمالكي وأبو حنيفة أو حتى البخاري وابن تيمية والأشعري وسواهم، ناهيك عن الكتب المُقدّسة التي يعتبرونها ولا شك مُنزلة من إله السماء إلى أوّل الأنبياء المُرسلين أو خاتمهم.
لقد صحّ قول أحد الحكماء: جالس العقلاء، أعداء كانوا أم أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل.
فلا يكاد هؤلاء يخرجون من المؤتمر حتى يُشهرون أسلحتهم المُخبأة لتُجدّد حرب التكفير المتبادل وكأن شيئاً لم يكن! ولينفلت كُل من عقاله وتعود حليمة لعادتها القديمة. فما أفسده الدهر وكرّ القرون لا يصلحه العطّارون في مؤتمراتهم، ولا تَعدّد الوجوه والألسن.
فللشيخ القرضاوي مثلاً، بطل مسلسل “الشريعة والحياة” الدائم على فضائية “الجزيرة” قناة التنوير والأنوار! عدّة ألسن، فلكلِ مقام لسان… لسان لـ “الجزيرة”، ولسان للمسجد، ولسان للمؤتمرات وحوار الأديان، ولسان لجلساته الخاصة وللمُقرّبين المؤتمنين على أسرار العقيدة والشريعة، ولسان الأنا السُفلى “الفرويدية” في جلساته التأملية الخاصة، حين يكون المنفرد بذاته.
فأحياناً تراه هادئاً وديعاً، متحدثا لبقاً وعقلانيا وسطيا، وأحياناً أُخرى، متوتراً هائجاً عصبيا متزمّتا، فيعلو صوته ويرعد ويزبد ولا يسيطر على حركة يديه وارتجاف شفتيه، فيقع في زلاّت اللسان ومكنونات الصدر حين تتخلّى عنه أناه العليا فتتركه لسجاياه السفلى.
وما دام القرضاوي وباقي أئمّة السنّة يصرّون على أن الإسلام دين ودولة، وأن لا مجال للفصل بينهما، والشيعة من الطرف الآخر على ذات الإصرار، وما دام الطرفان ينظران لباقي الطوائف والمذاهب على أنهم كفرة ومرتدون كما هم ينظرون لبعضهم بعض، وأن مسيحيي الشرق هم مُجرّد “جراجِمة” و “مَرَدَة” وبقايا صليبية…. وأن أقباط مصر هم أهل ذمّة، حقّت عليهم الجِزية عن يد وهم صاغرون…
فعليكم جميعاً أن تعلموا بأن النتيجة الحتمية لهذا الإصرار هو حروب طائفية وإمارات مذهبية مهما كان عِنادكم الذي يقول بغير ذلك.
لقد استبدلوا حوار الحضارات بحوار الأديان، في مُكابرة جاهلة وهروب من العصر إلى الوراء. فحوار الأديان كحوار الطرشان لا يستمع أحدهم فيه إلاّ ما جاء على لسان نبيّه أو كُتبه المقدّسة وكُتب فقهائه وعلمائه، ويخلص الحوار كما تخلص طاحونة الماء!
المملكة السعودية الوهّابية التي كانت السبّاقة لتأسيس معامل إنتاج الفكر التكفيري والإرهابي في العالمين العربي والإسلامي بالتعاون مع طاحونة الشر الأميركية، ونشر الكراهية “اكره بالله” هذا الفكر الأصولي الظلامي الرجعي في آسيا وأفريقيا وشتّى أصقاع العالم، وهم يقومون اليوم بحصاد مواسمهم المسمومة التي زرعوها على مدى العقود الماضية. فهذه بضاعتكم رُدّت إليكم.
مُضافاً إليها المؤسسة الخمينية في إيران وأتباعها التي تشنّ حرباً عقائدية مُضادة.
وعلى ما يبدو فإن الطبعَ يغلب التطبّع، ولا يريد أحد في هذا العالم العربي الاستفادة من الدرس والاتّعاظ مما يجري من حوله، فلم يتعلّم النظام الديكتاتوري في سوريا أن اللعبَ بهذه النار سوف ترتد عليه وتحرقه كما حرقت غيره، وظن نفسه، الحاوي القادر على إتقان اللعبة بحيث يُخرِج الأفاعي من أكمامه متى أراد ويعيدها حيثما يشاء، والنجاة بنفسه لهدف استمراره بالحكم والسلطة ولو على حساب دم الأبرياء من الشعب السوري، مُضحّياً بأمن الوطن وسلامته. وهذا سلوك غير مُستغرب من نظام عوّدنا عبر تاريخه أن لا قيمة للإنسان والمواطن السوري في قاموسه، وهو على استعداد دائم لهدم المعبد على من فيه في حالة شعوره بدنو أجله…
فالغاية بالنسبة لهم تُبرِّر الوسيلة، لكن الوسيلة قد تطيح بالغايات وأصحابها مهما كانوا واثقين من ذكائهم وقدراتهم الأمنية والمخابراتية التي باتت تأكُل بعضها بعضاً.
وهيب أيوب
الجولان المحتل – مجدل شمس \ 10 \ 10 \ 08
خاص – صفحات سورية –