الغرب والمسألة الثقافية
د. طيب تيزيني
هل كل الطرق تؤدي إلى روما؟ ذلك سؤال طالما تردّد على يد جموع متتالية من المثقفين والباحثين في حقول معرفية متعددة، وبقدر ما كانت المنطلقات مختلفة، جاءت كذلك الأجوبة مختلفة. وهذا ما واجهه المفكر الراحل عبدالله عبدالدايم في كتابات له متعددة، وخصوصاً في الكتاب الذي خصصه للبحث في سبل الوصول إلى “ثقافة عربية ذاتية”. وينبغي الإشارة إلى أن عبدالدايم إذ خصص كتابه المذكور لهذا الموضوع، فإنه فعل ذلك ضمن خطة ليست طارئة اشتغل عليها، لقد جاء ما قدمه في سياق مشروع استراتيجي بدأ به منذ عقود عندما كان يعمل في الأوينسكو خبيراً. وفي الكتاب الاستراتيجي الذي عالج فيه الباحث بعض أوجه المسألة المعنية هنا، كان قد وضع ما رآه عنواناً مناسباً لأفكار أتى عليها مكثفة مدققة، والعنوان هو: ما هي المسألة الثقافية في عصرنا، ونذكّر بتاريخ صدور الكتاب في بيروت وهو عام 1983. يضع عبدالدايم أطروحة ينطلق منها في معالجة حيثيات موضوعه، على النحو التالي: هنالك نموذج من الثقافة، هو نموذج الثقافة الغربية، يأخذ طريقه إلى سائر الثقافات ويغمرها ويغزوها، ويكاد يهددها بالزوال… ويتساءل المؤلف تعقيباً على تلك الأطروحة بالصيغة التالية، التي تتضمن، بدورها، مطارحات ترفع اللغة إلى حالة من الذاتية الحميمية: فهل يعني ذلك أمر الإنسانية تسير يوماً بعد يوم نحو نموذج ثقافي واحد ووحيد، هو النموذج الغربي، وأن ما نجده من معالم الثقافات القومية الخاصة ما هو إلا بقايا متخلفة، سوف تزول عندما تلحق هذه الثقافات بالركب، وتنضو عن جلدتها إرث القرون؟ وبكيفية أخرى، يبلغ المؤلف المصطلح الذي راح يُستخدم مع عصر العولمة الجديد، وإن بتعبير أقرب إلى الازدراء. فبدلاً من مصطلح “التنميط” الذي سيبرز بمثابة ضبط للحركة الثقافية العولمية، يتحدث عبدالدايم عن “التسطيح الثقافي”، ويرى فيه نحواً من التشاكل والتشابه بل الرتابة.
ويستفحل الدكتور عبدالدايم في تفكيكه للموقف باتجاه استجابته لعدة احتمالات، تنشعب لديه إلى ثلاثة، أولها الموقف المتطرف، الذي يرى أن كل حديث عن مقاومة النموذج الثقافي الغربي النازي محاولة واهمة، بل عقيمة وضالة. ويتتبع الباحث أصحاب ذلك الموقف، فيصل إلى أنهم -في سبيل ذلك- يدعون إلى إحداث قطيعة عن الماضي الثقافي لصالح ثقافة جديدة يعتبرونها إحدى سمات “ثورة ثقافية حقة”، مستعينين على هذا بـ “أيديولوجيا الانقطاع”. وبعد أن يعرض إشارات للاحتمال الثاني القائم على نزعة ماضوية يحتمي بها أصحابها من تدفق الثقافية الغربية، التي أفلست برأيهم في جانبها الإنساني على الأقل، يأتي على الاحتمال الثالث، الذي يحدده بكونه اتجاهاً توفيقياً، أو تلفيقياً على الغالب. وها هنا يتوغل عبدالدايم في هذا الثالث، فيعلن أن أصحاب الموقف إياه “يرفضون بحق كلا الاتجاهين الغالبين، غير أنه لا يعدو أن ينادي بصيغة تبدو مقبولة، بيد أنها في واقع الأمر لا تعدو أن تهرب من المسألة عن طريق تبسيطها. إنه يدعو إلى أن نأخذ من الثقافة الغربية أفضل ما فيها، ويغيب عن هؤلاء أن الأمر أوهى من ذلك: “فالثقافة الغربية الحديثة كلٌ متكامل، فالعلم والتكنولوجيا نفساهما يحملان معهما عادات وأنماطا سلوكية وثقافية، وإن حلولهما في قلب المجتمعات النامية لابد أن يؤدي إلى صدمة ثقافية”.
وينتقل عبدالله عبدالدايم إلى نمط أكثر خصوصية من النقد البنائي، فيرى أنه ليس من المقبول أن يكون هنالك نموذج ثقافي وحيد، هو الغربي، فهذا النموذج المتفوق علمياً وتكنولوجياً، مُحمَّل بقيم ثقافية ومُولِّدٌ بالضرورة لأنماط ثقافية محددة، مما يعني أن التعامل مع هذا النموذج الغربي يشترط الانتباه إلى خصوصية في وجهه الثقافي القيمي، علماً أنه -أي هذا النموذج- يسعى لجعل قيمه الثقافية ذات بُعد كوني على حساب القيم الثقافية الأخرى. ولعلنا نضع نحن يدنا على فكرة تركها الباحث الراحل مفتوحة للبحث، مع أنه مرّ عليها سريعاً، وهي الاعتقاد بثنائية ميكانيكية، بين العلم والتكنولوجيا من طرف، وبين الخصوصية الثقافية من طرف آخر. والمسألة تبدأ في التساؤل فيما إذا كان العلم والتكنولوجيا مجرد موضوعات خالية من الخصوصية، يمكن أن يتوالفا مع أي نمط من الخصوصيات الثقافية. ونذكّر بأن زكي نجيب محمود كان قد رأى مثل هذا الرأي، بحيث يمكن توحيد أو ربط العلم والتكنولوجيا بكل خصوصية ثقافية لأي شعب من الشعوب، مثلاً بالنمط الأيديولوجي الخرافي أو السحري. واتضح أن ذلك ليس خطأ أو مستحيلاً فحسب، وإنما هو كذلك خطرٌ في أيدي مَنْ يحاوله: السلاح بأيدي فلان يجرح! تحية لعبد الدايم مفكراً سنذكره دائماً.
جريدة الاتحاد