صفحات مختارة

إرادة السلطة وإرادة الحرية

جاد الكريم الجباعي
يبدو مقنعاً قول القائل أنّ السلطة، ولا سيما السلطة السياسية، ونعني هنا سلطة الدولة أو سلطة القانون، ليست رأس هرم، وأنّ المقاومة ليست قاعدة ذلك الهرم، من زاوية تحديد السلطة أو تعيينها بنقيضها الجدليّ، أي المقاومة أو المعارضة، فـ “لا وجود للسلطة إلا بدلالة نقاط مقاومة متعددة” 1؛ لكنّ واقع الحال ليس كذلك دوماً. السلطة المسمّاة سياسية عندنا ليست رأس هرم، بل هرم هو هرم السلطة، وبإزائه هرم آخر هو هرم السلطة المضادّة، أي هرم المعارضة؛ وليس ثمّة نقاط مقاومة أو معارضة في أيّ من الهرمين، لأنّ العلاقة بين السلطة والمعارضة هي علاقة تناقض تعادميّ، لا علاقة تناقض جدليّ. فليس في تاريخنا أيّ مظهر من مظاهر التداول السلميّ للسلطة، وليس في ثقافتنا أيّ مرتسم لمثل هذا التداول. ذلك أنّ مبدأ السلطة هو القوة العارية، قوة الشوكة وقوة العصبية وقوّة العدد وقوّة المال وقوّة السلاح وما إلى ذلك. إرادة القوّة هي إرادة السلطة، وقوّة السلطة هي سلطة القوّة. القوّة العارية هي التي تحدّد مبادئ الحقّ ومبادئ الأخلاق.
سلطة القوة لا تستتبُّ إلا بتحوُّل القوّة إلى “حقّ”؛ ما يقتضي تقنيع القوّة بعقيدة تسويغ وتبرير، دينية أو غير دينية؛ ومن ثمّ فإنّ مشروعية السلطة السياسية، التي تعيِّن مقدار قوتها ومدى نفوذها وأشكال مقاومتها، مستمدّة دوماً من حقل آخر غير حقلها الأصليّ؛ ما يحيل على التوتر والتنابذ الدائمين بين حقيقية الواقع وآليات استيعائه والتعبير عنه، ويشير إلى أنّ رمزية الواقع كانت ولا تزال تطغى على حقيقيته، وتسبغ على المقاومة أو المعارضة المشروعية ذاتها التي تنزعها عن السلطة، فتجعل منها سلطة مضادّة ذات طابع هرميّ هي الأخرى.
البنية الهرمية للسلطة، المؤسّسة على مبدأ القوّة والغلبة، كانت ولا تزال تقتضي أن تنبثق أشكال مقاومتها من خارجها، وأن تتّخذ علائق القوّة منحى تصادمياً يسفر في كلّ مرة عن غلبة قوّة وانكسار أخرى، ويعبر عن ذلك بانتصار الحقّ على الباطل، من وجهة نظر الغالب، (قل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً) وبتأويل معاكس من وجهة نظر المغلوب، (إنّ للباطل جولة ..). ما يعني أنّ الحقّ والباطل معادلان ذاتيان لنتيجة موضوعية واحدة تقرّرها نسبة القوى فحسب، وأنّ نتيجة الصراع أو محصّلته كانت ولا تزال ربحاً صافياً للغالب وخسارة صافية للمجتمع. فإنّ تخارج السلطة والمجتمع وتناقض مصالحهما وكون المجتمع مادّة للسلطة وموضوعاً لها هي أساس جميع مشكلاتنا السياسية.
ومع أنّ “نقاط المقاومة” أو المعارضة مبثوثة في جميع مسامّ الحقل الاستراتيجيّ للسلطة وملازمة لجميع تعييناتها، كما يفترض، كانت المقاومة أو “المعارضة” تتّخذ دوماً طابعاً انشقاقياً، ما دامت السلطة مؤسّسة على الغلبة والقهر وإزهاق الباطل؛ فكانت الحرب امتداداً للسياسة بوسائل أخرى، بتعبير كلاوزوفيتز، وكانت سجالاً؛ بل إنّ السياسة ذاتها كانت حرباً ولا تزال. فلم يكن هنالك، في تاريخنا السياسيّ، من مجال سياسيّ مشترك بين مختلفين تتعيّن فيه السلطة بنقاط مقاوتها من داخل حقلها الاستراتيجيّ، فلا تزال المجتمعات المتأخّرة، حتى يومنا تعاني من تشظّي حقلها السياسيّ حقولاً متخارجة، وليس لهذا التخارج من اسم  سوى تهتّك النسيج الاجتماعيّ والفوضى والاضطراب الناجمين عن إقامة الحقّ على مبدأ القوة العارية (لكلّ من الحقّ بقدر ما له من القوّة).
السلطة هي السلطة في كلّ زمان ومكان، تنبع من كل شيء، بتعبير فوكو، ومعرفة بنقاط مقاومتها وأشكال معارضتها ومحددة بها، سواء كانت نقاط مقاومتها من داخل حقلها الاستراتيجيّ أم من خارجه؛ واختلاف سلطة عن أخرى شكلاً ومضموناً يتأتّى من المبدأ الذي تقوم عليه هذه السلطة أو تلك. فمنذ بدأت السلطة تتأسّس على مبدأ الحقّ تغيّر شكلها ومضمونها تغيّراً جذرياً، وتغيّرت من ثمّ أشكال مقاومتها ومعارضتها. ما يعني أنّ مصدر السلطة هو ما يعيّن شكلها ومضمونها ومدى قوّتها، ويحدّد وظائفها وأشكال معارضتها وأساليب تداولها. فإرادة القوة، والحال كذلك، إما أن تكون إرادة السلطة فحسب، وإما أن تكون إرادة الحرية، حرية الوطن وحرية المواطن.
منذ الثورة الفرنسية اهتدت البشرية العاقلة والأخلاقية إلى المصدر الأصيل للسلطة، فاحتلّ الشعب المركز الذي كان يحتلّه الإله من قبل. الثورة الفرنسية، في هذه الحيثية، كانت نوعاً من ثورة كوبرنيكية في السياسة نزعت ورقة التوت عن الكلبية الميكيافلية، التي لا تزال تسم السياسة في بلادنا. هذه الثورة الكوبرنيكية في السياسة جعلت من الحرية قوّة في ذاتها، وصار ممكناً أن تتّسق مبادئ السياسة ومبادئ الحقّ ومبادئ الأخلاق.
السلطة / السلطات، التي مصدرها الشعب ومبدؤها الحقّ وقوامها القانون وغايتها إثراء الحياة الأخلاقية، هي، بالأحرى، محصّلة نوع حديث من علاقات القوة، أعني العلاقات الاجتماعية أو علاقات الإنتاج، إنتاج الثروات المادية والثروات الروحية على السواء. بل هي مركب جدلي، ديالكتي، حدّاه الجدليان هما الحرية الذاتية والحرية الموضوعية، على كل صعيد، وهذه الأخيرة، أي الحرية الموضوعية، هي القانون.
الشعوب التي تدرك حريتها الموضوعية في القانون هي وحدها التي تعرف معنى الحرية. والأفراد الذين يدركون حريتهم الموضوعية في القانون هم وحدهم الذين يعرفون معنى الحرية. في مرآة هذا الوعي يصير لقوّة القانون مضمون أخلاقيّ، ويصير الشعب مصدر جميع السلطات.
ما دامت إرادة القوة هي إرادة السلطة، لا إرادة الحرية، وما دامت القوة العارية هي مصدر السلطة، فإنّ المعارضة التي تنشد الاستيلاء على السلطة فحسب، لا تختلف عن السلطة التي تعارضها في شيء، سوى في التأويل الذاتي لما هو الحقّ وما هي الأخلاق وما هي المصلحة الوطنية؛ ما يعني أنّ السياسة عندنا لا تزال حرباً بين سلطة موجودة بالفعل وسلطة موجودة بالقوة، وليس من ضمانة موضوعية لوعود أيّ منهما. وما يعني أيضاً أن الشعب لا يزال مادة وموضوعاً لهذه السلطة أو تلك.
فإذا كان الناس عندنا لا يختلفون على كلبية السلطة المسماة سياسية واستبدادها وشموليتها وتعسّفها، فإنّ الخلاف يتركّز، وينبغي أن يتركّز على مفهوم المعارضة وبنيتها ووظيفتها وغايتها؛ والسؤال الملحّ اليوم هو: هل من أمل في أن تتحوّل المعارضة عن منطق الانشقاق إلى منطق المعارضة، أي عن منطق التناقض التعادميّ إلى منطق التناقض الجدليّ، الذي يعني أنّ حذف أحد حدّي التناقض أو إلغاءه هو حذف الحدّ الآخر وإلغاؤه بالضرورة. هذا ما كنا قد أشرنا إليه في مقالة “في الوحدة الوطنية، وحدة السلطة والمعارضة” المنشورة على موقع الأوان. ونود أن نشير هنا إلى أنّ منطق الانشقاق لا يزال السمة الرئيسة للحياة السياسية، منذ الانشقاق الإسلاميّ الأول حتى يومنا وساعتنا. هذا المنطق، أعني منطق الانشقاق، هو ما جعل الصراع السياسيّ يبدو للنظر القاصر صراعا على المشروعية الإيديولوجية، دينية كانت هذه المشروعية أم مذهبية أم علمانية، وما جعل العلاقات السياسية تبدو نوعاً من علاقات مذهبية تعادمية قائمة على العداوة والكيد والثأر والانتقام. أليست معارضة، بل عداوة، بعثيين لبعثيين وناصريين لناصريين وشيوعيين لشيوعيين واشتراكيين لاشتراكيين ووحدويين لوحدويين، كما في سورية وغيرها، نوعاً من علاقات الانشقاق المذهبية والتعادمية، التي تقبع في أساسها مقولة الأحقية في الحكم؟
هامش:
1 – راجع مقالة الدكتور عبد السلام بنعبد العالي المنشورة على موقع الأوان بتاريخ 7/2/2008.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى