أسئلة التحرّش ومفارقاته
دلال البزري
أيضاً… في ثاني يوم عيد الفطر، تكررت حادثة التحرّش الجنسي الجماعي. لا في وسط البلد، حيث كان يترصّد البعض الرهط المسعور. بل في شارع جامعة الدول العربية في حيّ المهندسين غير الشعبي. زادوا 50 مهاجما عن العيد السابق. كانوا مئة، وها هم الآن 150 «شاباً» يهاجمون الفتيات والنساء المارات. في تكتيك حركي متنقل ومفاجىء قد يوصل الرهط يوماً الى أحياء قاهرية أقل شعبية مثل الغاردن أو الزمالك… مزقوا الملابس، انتهكوا الاعراض، نَزعوا الأحجبة عن الرؤوس، ونالوا من منقّبة الخ.
هذا عن العيد. اما عن العاديات من الايام، فالارقام مخيفة. الاستطلاعات والبحوث وصلت الى ان اكثر من 80 في المئة من المصريات معرّضات للتحرش. اكثر من 50 في المئة بصورة شبه يومية… وغالبيتهن محجبات. يخرجن من البيت مهيّئات للنظرات التحقيرية والألفاظ الغريزية واللّمس الجارح وتمزيق الثياب وانتهاك الجسد.
والخشية، كل الخشية، ان تدخل هذه الظاهرة في الروتين إياه: تحدث واقعة من تلك الوقائع المشهودة، المتمّمة للتحرش اليومي، مثل واقعة ثاني يوم عيد الفطر، ويُلاحَظ غياب النخوة و»الجدْعنة»… فتتداعى «الاسباب» نفسها، التي تحتاج الى «خبراء» و»مختصين»: «البطالة»، «الكبت»، «الاغتراب»، «عدم القدرة على الزواج»، من غير ان يلحظوا مثلا ان بعض المتحرشين يتزوجون فريستهم «عرفيا»، أي «في الحلال»، احيانا…، او ان الفتيات والنساء يعانَين من نفس «البطالة والاغتراب». أو ان «الاسباب» نفسها كمثل «أسباب» اخرى لظواهر اخرى… بمثابة النتائج.
التلفزيون شارك في الاهتمام بالظاهرة. فأطلق كليباً مصوّراً عن التحرش بالسائحات الاجنبيات. تحتجّ فيه واحدة منهن على كثرة التحرش الجنسي في مصر. ودرس الكليب: «السياحة اهم دعائم الاقتصاد الوطني… فلا تطفّشوا السائحات!». والضمني في الدرس: ان غير السائحات فحسب… هن المرشحات لمصير الفريسة.
مركـــز حقوق المرأة المصرية يهتم بهذه الظاهرة ويطلق الورش والحملات «التوعوية» ضد التحرش. فضلا عن دراسة استطلاعية حول انواع التحرش ونسبته. ومجموعة «انا مش مُوزَّة!» على «الفايس- بوك» في زاوية القضايا العادلة (أنا لست مُوزَّة). و»المُوزَّة» من ابسط عبارات التحرش ذات المضامين الغريزية، والذائعة في كل الاوساط والمجالات؛ حتى في الدراما. ومن الجديــد ايـــضا: انه بـــات من المألوف ان تشاهد سيدة او فتاة تخلع «الشبْشبْ» في كورنيش النيل لتضرب به احد المتحرشين…
لكن كل ردود الفعل هذه تبدو هزيلة امام استفحال ظاهرة التحرش، واستباحة جسد المرأة وروحها في الشارع. واحد من متفرعاتها: إنعدام الحمية لدى شهود الواقائع هذه… بل لومهم احياناً الضحية على «خروجها…». بحيث ان أية امرأة تمشي في الشارع او في اي مكان عام مثل اللص الذي يتوخى امكانية القبض عليه… من الخلف او من اليمين او من الشمال. وهذا جهد نفسي تبذله المرأة المصرية يوميا لتكون قادرة على الخروج الى الدكان او الطبيب او الأهل او العمل او الدراسة… الخ.
الآن: فلنغير المنظار قليلا. ولنتذكر، ليتذكر كل من تجاوز الستين او اقل قليلا من العمر. في الخمسينات والستينات، عندما كانت النساء سافرات، يلبسن الفساتين الكاشفة والكعوب العالية (كما في افلام الأبيض والأسود)، لم تكن عبارة «تحرّش جنسي»، بل «مغازلة»… هي التي تغطي التفاعل بين النساء والرجال في المكان العام. كأن يقال لسيدة عابرة للرصيف «يا حلو!»، أو»يا جميل!»، أو «يا صباح الورد!». هذه العبارات تبخّرت اليوم، كما اختفى الغزل؛ وسادت البذاءة والغريزية. وأقلها «يا مُوزَّة!».
ما الذي تغير الآن عن الخمسينات والستينات؟ على صعيد مشهد الشارع، او اي مكان عام آخر؟ شيء اساسي: كانت النساء سافرات… ثم شيئا فشيئا صرنَ اليوم، بغالبيتهن العظمى، محجّبات. واقلية متنامية بينهن منقبات.
ماذا كانت حجة الداعين الى الحجاب، وما زالت؟ «تحجبي… تحفظي عرضك. تصوني نفسك. تكوني من الطاهرات. تكسبين قوة واحتراما. تحجبي… (او… «تنقّبي») ويصير بوسعك الخروج من البيت… هذا ما يقوله الشارع، ويكرّره الدعاة وخطباء المسجد… حتى بعد الاعتداء على المحجبات والمنقبات. لكن الذي حصل ويتفاقم حصوله هو العكس تماماً: كلما زادت نسبة الحجاب، ومعه النقاب، ارتفع سعار الشارع، وتحول الى مكان للذئاب المتربّصين بالفريسة. والمدهش ان هذا التلازم بين الحجاب والتحرش، يأتي ضمن تلازم أعرض، بين زيادة مظاهر التدين الحالي وإستمرار تدهور الاخلاق وإنحطاطها. هل من تلازم اوضح؟
نعم. ليس في الزمان فحسب. بل في المكان ايضاً. اين تحصل النسبة الاعلى من التحرش الجنسي؟ في وسط البلد. في شارع «الاسعاف» تحديداً حيث تلاحظ الصحافية علا عادل (الفجر، العدد 132) انها: «المنطقة التي يفضلها الملتحون (أعداء غير المجبات)، هي ايضا اشهر مناطق التحرش الجنسي في القاهرة». وهذا ينطبق تقريبا على جميع الأحياء: كلما زاد الحجاب في الحيّ، زادَ التحرّش الجنسي…
هل التلازم بين التدين الحالي والتحرش علاقة طردية؟ ما هو هذا التدين؟ من اي نوع هو؟ ما هي مضامينه؟ اخلاقه؟ على ماذا يربّي؟ اي نمط من العلاقة يقميها بين النساء والرجال؟
اننا بازاء ظاهرة خطيرة، تفيد طلائعها عن توحّش ما يمسك بتلابيب المجتمع بإسم التديّن. والويل من توّحش المجتمع… ومن حرب الجميع ضد الجميع.
الحياة – 12/10/08