السوريون والمواطنة خلال قرن
موفق نيربية
تلفت الانتباه قصة المجتمع المدني في سورية، فهو ربّما ظهر حوالي عام 1908، على الأقل منذ انقلاب الاتّحاد والترقّي في استنبول، وبعد خمسين عاماً ابتدأت مسيرة عودته إلى وراء. الآن، بعد قرنٍ تماماً، لا يوجد مثلما كان في ذلك التاريخ البعيد من صحافة متنوعة وحرية تعبير وبناءٍ لحكم القانون وتأسيس للمواطنة.
في عام 1928 (منذ ثمانين عاماً) كان هنالك دستور اعتمد حقوق المواطنة الأساسية لجميع السكان بشكل صريح لا تشّله الاستثناءات المباشرة أو الخفية، انطلاقاً من تعريف المواطنة البسيط كعلاقة بين الدولة والأفراد، تحكمها الحقوق المشروعة… إلخ. وكانت سورية تحت الانتداب الفرنسي آنذاك. والانتداب هو استعمار «ممتاز» لبلد متطور سياسياً واقتصادياً، مما يجعله أهلاً للاستقلال مبدئياً، وذلك تعريف الانتداب من الفئة -أ- الذي حصرته عصبة الأمم آنذاك في سورية ولبنان وفلسطين والعراق فقط.
وقد اعتاد الفكر الوطني (والتربية والتعليم) على اعتبار عهد الانتداب فجوة في التاريخ لا يحكمها إلاّ وجود مستعمر غاصب غاشم وشعب يقاوم ولا يعيش إلاّ المقاومة، فلا يجوع ولا يتعلّم ولا يجتمع. أو باختصار، لا يتعايش مع «دولة» تتطور من عام إلى عام، ولا يشكّل أحزاباً، ولا ينشر صحفاً، ولا ينمو اقتصاداً… وهذا كلّه غير صحيح.
أهل هذه الفجوة أقرب إلى الأرض من غيرهم على كل حال، لأن هنالك من يعتبر الفجوة منذ بداية العهد العثماني في القرن السادس عشر، ومن يوسّعها حتى بداية العهد المملوكي، وآخر حتى خلافة المتوكّل العباسي، أو نهاية زمن الخلفاء الراشدين، أو الخليفتين الأولّين، أو وفاة الرسول العربي. فيكون تاريخنا الذي ملأنا الدنيا فخراً به فجوة كله إلا قليلا.
فلا توجد فجوة إذن، مهما كان تقييم الزمن المعني، وهنا خصوصاً نقصد زمن الاستعمار-الانتداب الفرنسي الذي استمرّ ربع قرن، أو أقل. كانت هنالك دولة تنشأ وتتطور، يديرها وسطاء ما بين سلطة الانتداب والمجتمع، وتتطور من خلالها القوانين وسلطة القضاء وأجهزة الدولة والمجتمع المدني. آنذاك ابتدأت المواطنة بالتبلور، من دون أن تكون خالصة. فهنالك مواطنون بالفعل، أو من الدرجة الأولى، ومواطنون مخدوشة مواطنتهم. لم تكن خدوش المواطنة تلك نتيجة مباشرة لسلطة الانتداب، بل لسلطة «الوسطاء» في الحكم والإدارة، أو لبعض المواطنين الخالصين. باحثة أميركية اسمها «إليزابيت تومبسون» نشرت في نهاية 1999 دراسة تحت عنوان «مواطنون استعماريون: حقوق جمهورية وامتيازات أبوية… والجندر في سورية ولبنان الفرنسيين»، أطلقت لقب «المواطن الكامل» بمعناه المعاصر تماماً -المختلف كلياً عن الرعية- على بعض سكان البلدين المعنيين، الذي يتمتع بكامل الحقوق الدستورية والحريات المرافقة، ولقب «المواطن التابع» على بقية السكان.
ذلك يعني أن «المواطنة» أخذت تنطبع على الجسم الاجتماعي، ليس من خلال الحياة البرلمانية وحدها، بل بالتفاعل ما بين الناس في المحاكم والدوائر الرسمية والمصالح المحدثة والمراكز الصحية والمدارس، بل في الشوارع أيضاً.
لكن هنالك تفاعل آخر كان يرافق ما يجري، فلم تعتمد فرنسا على الوسطاء المذكورين وحدهم، بل استسهلت الحكم عن طريق التحالف مع فئات متناقضة مع اتجاه التطور المرسوم. فبدلاً من أن تعمل على التحديث في التعليم والاجتماع، مالت إلى السهل الليّن وائتلفت مع قادة دينيين من الفئة الأكثر تخلّفاً وشعبوية. كما أنها أطلقت العنان للأبوية الفظة لتعاود النمو بعد أن تراجعت في فترة الحرب الكونية الأولى، حين ظهرت المرأة فيها قادرة على القيادة والحل والربط. لكن الأكثر أهمية لدينا هو اعتماد سلطة الانتداب على الإقطاع ورجاله، وعدم دفعها باتجاه الإصلاح الزراعي الذي يقتضيه واجبها «الانتدابي»، وتسهيلها للممارسة الإقطاعية وتهميش الفئة الاجتماعية الأكبر آنذاك: الفلاحين.
فمن الطبيعي أن تنمو لدى الفئات الشعبية في الريف مشاعر بالغة السخط على الانتداب والاستعمار، أو على الغريب عموماً. وردّ الفعل الطبيعي على التهميش والظلم ذاك هو الميل إلى تهميش كلّ ما يتصّل بالخصم: من الكتاب الفرنسي إلى المجتمع المدني والمواطنة. (كان أبي يذكر جيداً كيف أحرقوا الكتب الفرنسية في فناء المدارس يوم الاستقلال).
الأحزاب الوطنية التي ظهرت في أواخر الانتداب الفرنسي كانت ناطقة باسم الفلاحين. ومنذ «الجلاء» عاشت صراعاً مع النخبة السياسية-الليبرالية والإقطاعية في الوقت نفسه، التي كانت متعايشة مع الانتداب وعاملة من أجل الاستقلال في الوقت نفسه. لم يُحسم نهائياً بالانقلابات أواسط القرن، ولا بالوحدة الاندماجية مع مصر، ولم يُحسم نهائياً إلاّ في السبعينيات.
وتلك -ربما- حكاية تراجع المواطنة والمجتمع المدني وحجبهما في الأساس الذي استند إليه من لا يريد إلاّ استدامة الاستبداد.
* كاتب سوري