صفحات مختارة

الحجاب والنقاب و”سياسة المدنية”

null
رجاء بن سلامة

ما زلت أعتبر حجاب النّساء رمزا غير إيجابيّ، ومازال يهولني تشييء جسد المرأة واختزال ما يمكن أن تصون به جسدها في قطعة قماش تخفي الشّعر، وإن كانت قطعة القماش هذه آتية من عالم الرّموز الدّينيّة، وما زال يهولني اعتبار هذا الشّيء الدّينيّ-الأنثويّ
رهانا يتوقّف عليه مصير الإسلام في عصرنا. وفي الوقت نفسه، يطرح علينا الحجاب تحدّيات وأسئلة جديدة، لم أنتبه إليها في السابق، وتطرح علينا بعض المظاهر من معيشه تناقضات من الأفضل أن نجعلها مصدر إثراء للتفكير وأشكلة للموضوع بدل تجنّبها لتكرار الكلام الذي تصيبه بالضّرورة لعنة اللّغة الخشبيّة. سأبيّن أولا هذه التّحدّيات والتناقضات، وسأطرح ثانيا بعض ما أراه موقفا إيطيقيّا ممكنا من هذه القضيّة التي أضحت “معضلة العصر” دون ادّعاء الإتيان بحلول وأجوبة نهائيّة أو مقنعة للجميع.

1. يجب أن نعترف بأنّ الحجاب ينتشر أحببنا أم كرهنا، ويجب أن نعترف بأنّ خطاباتنا المناهضة للحجاب أقلّ تأثيرا من الخطابات المدافعة عنه والحاثّة عليه، لأسباب كثيرة أوّلها طبعا اختلاف طبيعة الحجج، فحججنا ليست حجج سلطة، بما انّها لا تحيل إلى كلام إلهيّ أو نبويّ، وهي غير نابعة ممّن يمثّلون سلطة دينيّة، بما أنّنا لسنا شيوخا ولا مفتين ولا دعاة. وثاني هذه الأسباب طبيعة وسائل الإعلام المعتمدة، فنحن نكتب مقالات وأبحاثا ننشرها في صحف ومواقع قليلة الانتشار، ودعاة الحجاب لهم الفضائيّات بأنواعها، ولهم أيضا الصحف والمواقع الأكثر انتشارا، وتوجد عشرات المواقع المتخصّصة في نشر الحجاب بل والنّقاب. وهناك سبب آخر أريد لفت الانتباه إليه هو وجود معيش نفسيّ لدى المرأة المقبلة على التّحجّب أو المتحجّبة يصعب أن يمسّه الخطاب المناهض للحجاب. فهل ينفع الحديث عن مؤسّسة الحجاب وعن ارتباطه بالوضعيّة الدّونيّة للمرأة مثلا، وهل تنفع كلّ الحجج العقليّة والتّاريخيّة والنّظريّة مع امرأة تشعر بأنّها آثمة ما لم تتحجّب؟ عندما تكون الحاجة إلى الحجاب ذات طبيعة نفسيّة لاشعوريّة في جانب منها، فإنّ الخطاب العقلانيّ والنّظريّ يكاد يكون بلا جدوى.

وما زلت أذكر حادثة ذات دلالة على شدّة تأثير خطاب الحجاب في النّساء مهما كان السّياق الذي تعيش فيه المرأة. ففي سنة 2004 كنت أدرّس مسألة الحجاب في نطاق ماجستير الدّراسات النّسائيّة بالجامعة التّونسيّة، وكلّفت طالبة بتقديم بحث عن الحجاب في مواقع الأنترنيت. وبعد بضعة أسابيع، في أعقاب حصّة من الحصص فوجئت بهذه الطّالبة تأتيني لتقول لي ووجهها شاحب وفي صوتها رعدة، إنّها خائفة. إنّها خائفة من ارتداء الحجاب، ومن عجزها على مقاومة إغراء هذه المواقع بالتّحجّب عبر أساليب الوعظ والهداية، وعبر الأناشيد الدّينيّة التي تمجّد الحجاب وتعتبره الحلّ الوحيد لإنزال السّكينة على النّفس في الدّنيا وللنّجاة في الآخرة. أمسكت نفسي عن نصحها بعدم ارتداء الحجب وعن القيام بوظيفة الوعظ المضادّ، وطلبت منها أن تنجز البحث بقطع النّظر عن القرار الذي ستتّخذه والذي يتعلّق بحياتها الشّخصيّة. وفي النّهاية لم تتحجّب هذه الفتاة. لم تتحجّب إلاّ أنّها على أيّة حال امتحنت في قدرتها على اتّخاذ المسافة النّقديّة أو المعرفيّة الضّروريّة من الحجاب.

2. كانت معركتنا مع تغطية الرّأس، أي مع الخمار فحسب، فإذا بالنّقاب يطلع علينا وينتشر، بعد أن كان مقصورا على الصّيغة الوهّابيّة والفلكلوريّة في الوقت لنفسه لحجاب المرأة. هذه الصّيغة خرجت من بلدان الخليج وأخذت تغزو أوروبّا، وبلدانا مثل مصر، وليست تونس بمنأى عنها، كما قيل لي، وكما هو معروف من قدرة الهوس الدّينيّ والتّأثم الذي يستتبعه على التّوسع والامتداد. وليس النّقاب في رأيي نقلة كمّيّة في درجة إخفاء الجسد، بل هو نقلة نوعيّة تنتقل به المرأة من ذات لها وجه تعرف به إلى كائن هلاميّ لا يعرف، أو إلى شبح يراك ولا تراه.

3. الحجاب ليس فقط مشكلة راجعة إلى اقتحام الإسلام السّياسيّ للفضاء العامّ، وإلى اعتماده المنظوريّة وسيلة من وسائل السّيطرة على المجتمع ومن ثمّة على السّلطة، بل هو إضافة إلى ذلك مظهر من مظاهر التّديّن الفرديّ. بل هناك حالات فرديّة يكون الحجاب فيها للمرأة أداة فعّالة إلى حدّ ما لتجاوز أزمة ذاتيّة. أفكّر في الحالات التي تعرض على المحلّلين النّفسيّين، وأعطي مثالا لهذا حالة الفتاة التي اغتصبها عمّها وهي طفلة، ولم تشعر بشيء من الرّاحة إلاّ بعد أن تحجّبت وهي في سنّ المراهقة. فالمعيش النّفسيّ للمرأة أحيانا يفرض عليها هذا اللّجوء إلى درع مادّيّ واق، نتيجة هشاشة الدّروع الخياليّة والرّمزيّة، أو نتيجة انتهاك جسدها في لحظة ضعف وقصور وعنف لم تكن قادرة عن التّعبير عنه.

4. الحجاب آت من عالم الحريم، وعالم تمّت فيه مراقبة أجساد النّساء وحركاتهنّ عبر آليّات مختلفة للحجب : آليّة الحجاب الفضائيّ الذي يحول دون المرأة والعالم الخارجيّ، وآليّة الحجاب الأثوابيّ، وآليّة منع الخروج إلى المقابر أو إلى الحمّامات، وقد تفنّن فيها الفقهاء على مرّ القرون. ولكنّنا نرى في الوقت نفسه محجّبات يقتحمن الحياة العامّة، بل ويحملن لواء الدّفاع عن النّساء، مهما كان هذا الدّفاع محدودا بحدود المنظومة التّيولوجيّة الإسلاميّة القائمة على أفضليّة الرّجل على المرأة وقوامته عليها.

5. وصلت نسبة النّساء المحجّبات في بعض المجتمعات العربيّة إلى 95 بالمائة، وهو ما يدلّ كما ذكرت على نجاح الخطاب الحاثّ على الحجاب، ولكنّ الحجاب في الوقت نفسه، ولدى نسبة هامّة من المحجّبات قد زال منه الطّابع الدّينيّ وأصبح جزءا من العادات الاجتماعيّة. بل ربّما أصبح من حيل الضّعفاء للتّمرّد على الإكراهات الدينيّة. وقد رأيت هذا بعيني، رأيت محجّبات يعاقرن الجعة في بعض الأماكن العامّة، ولا أقول هذا من باب التّشهير، بل من باب توضيح الطّبيعة المفارقيّة للحجاب. فالحجاب أصبح دالاّ على الشّيء ونقيضه. إنّه يدلّ على ما في انتشار الحجاب من قدرة إكراهيّة، ويدلّ على قدرة النّساء على التّلاعب بالإكراهات الدّينيّة. ولنا أمثلة كثيرة على ذلك تظهر في الدّجينز الضّيّق مع الحجاب، أو الحجاب النّافي للحجاب والمتحوّل هو نفسه إلى زينة وأسلوب للإثارة. قد نرى في هذا نفاقا وتناقضا، ولكن قد نرى فيه قدرة على مقاومة الإكراهات بالخضوع إليها، أو عودة للمطرود من الباب إلى الدّخول من النّافذة. لسان حال الكثير من المحجّبات : ها أنّني اتحجّب درءا للفتنة كما يقولون، ولكن ها أنّني أضع حجابا فاتنا يجلب الأنظار. ولا يمكن للمرأة في الحقيقة إلاّ أن تحبّ الزّينة والحليّ والمظهر الجميل، نظرا إلى علاقتها بالإخصاء على نحو مخالف لعلاقة الرّجل به.

6. إذا سلّمنا بأنّ العلمانيّة هي صيغة للفصل بين الفضاء الخاصّ الذي لا تتدخّل فيه الدّولة والفضاء العامّ الذي يحقّق التّعايش السّلميّ بين المختلفين، إضافة إلى كونها صيغة للفصل بين السّياسة والدّين، فإنّ الحجاب يتحدّى هذا الفصل إذا فهم الخاصّ والعامّ على أنّهما يمثّلان دائرتين منفصلتين، فهو قرار شخصيّ يخصّ جسد المرأة وهو في الوقت نفسه علامة ظاهرة في الفضاء العامّ وفي مؤسّسات الدّولة، وهذا التّوتّر هو وجه من وجوه المصاعب المتعلّقة باستصدار قوانين المنع. ولذلك لم ينقسم المثقّفون في فرنسا كما انقسموا حول قانون منع الرّموز الدّينيّة في المؤسّسات التّربويّة. فهناك من رأى في منع الحجاب حماية لحياد الدّولة وللائكيّة التّعليم، وهناك من رأى فيه حماية لحقوق النّساء، لأنّها مهدّدة وتحتاج إلى قوانين تحميها، وهناك من اعتبر هذا القانون إجراء قمعيّا من شأنه أن يزيد في حدّة التّوتّر الطّائفيّ والأتنيّ وأن يخلق ضحايا وحانقين.

ما العمل إذن، إزاء معضلة الحجاب هذه : قدرته الهائلة على الانتشار والاستفحال، الدّوافع النّفسيّة العميقة التي تمتزج فيه بالدّوافع الدّينيّة، وازدواج استعمالاته ودلالته على عكسه أحيانا، والتباس الخاصّ والعامّ فيه؟ أيّ موقف إيطيقيّ وسياسيّ يمكن أن يقفه المثقّف إزاء هذه الظّاهرة؟ لا أعتقد أنّ الأمر يقتصر على الاختيار بين مناهضة الحجاب أو الدّعوة إليه. فهناك الموقف الشّخصيّ من الحجاب، وهناك إمكانيّة موضعته بحيث يتولّد منه موقف سياسيّ متعلّق بالفضاء العموميّ وبالمشترك. لا يمكن أن نبقى في مجال تحصيل الحاصل، بحيث نناهض الحجاب لأنّنا لا نريد الحجاب، بل لا بدّ من اعتماد مرجعيّة أخرى أكثر عموما ننطلق منها لبلورة موقف من الحجاب بمختلف صيغه.

هذه المرجعيّة تمسّ قلب السّياسيّ، أي العيش معا، والشّوق إلى العيش معا. إنّها ما يعبّر عنه أتيان باليبار Etienne Balibar بـ”سياسة المدنيّة” وما يعتبر العلمانيّة جزءا منه أو مظهرا من مظاهره. يقول باليبار في تعريف هذا المفهوم : “سياسة المدنيّة civilité هي سياسة شروط إمكان السّياسة. فكلّ تدخّل يتوق إلى الوقاية من أحد مسارات العنف أو إلى وضع حدّ له هو مثال عن سياسة المدنيّة. سياسة المدنيّة هي بمعنى من المعاني سياسة للاّعنف، إنّها مقاومة للعنف الذي يدمّر إمكان السّياسة نفسه. وهذه الوجهة في النّظر ليست متناقضة مع فكرة التّغيير الجذريّ للمجتمع وللعنف الذي يحمله في جنباته. ولكنّ فكرة تغيير المجتمع لا تلحّ بما فيه الكفاية على ضرورة المقاومة في مواجهة العنف.”

والأسئلة التي يمكن أن نطرحها انطلاقا من هذا المفهوم هي : ما هي مكامن العنف النّابعة من الحجاب أو من مناهضة الحجاب؟ ما الذي يتعلّق بالحجاب ويمكن أن يكون متسبّبا في الألم بالنّسبة إلى الفرد وفي تدمير السّياسيّ بالنّسبة إلى المجموعة؟ كيف يتخلّى كلّ عن عنفه دون أن يتخلّى عن اختلافه؟ ثمّ ما هو دور الدّولة في سياسة المدنيّة هذه؟

أوّل ما يمكن أن نفعله انطلاقا من أطيقا سياسة المدنيّة هو أن لا نؤيّد أي حلّ استئصاليّ أو أمنيّ يلقي بالمحجّبات في البحر، أو يلقي برغبة المحجّبات في التّحجّب عرض الحائط، أو يحتقرهنّ على أنّهنّ جاهلات ومتعصّبات، أو يمتنع عن اعتبارهنّ ذوات وعن الاستماع إليهنّ عندما يتحدّثن عن معيش جسدهنّ. يمكن أن نسعى إلى أن تنزع المحجّبات حجبهنّ بأنفسهنّ، كما فعلت مناضلات العشرينات في القرن الماضي في ما عرف بمعركة الحجاب والسّفور، يمكن أن نعمل على خلق التّراكم الثّقافيّ والتّربويّ الذي يجعل المرأة تصون جسدها دون حاجة إلى حاجز مادّيّ، ولكن لا يمكن أن نؤيّد انتزاع الحجاب بالقوّة. العنف لا يؤدّي إلاّ إلى العنف، والحلول البوليسيّة والاستئصاليّة لا يمكن إلاّ أن تؤجّج الإصرار وتنتج الضّحايا، وتنتج تبعا لذلك شرعيّة للقضيّة لا انطلاقا من القضيّة في حدّ ذاتها بل انطلاقا من تعرّضَ أصحابها إلى العنف.

ولكنّ هذا الموقف النّابذ للعنف ضدّ المحجّبات غير كاف. فما رأيناه من تعقّد معيش الحجاب واستعمالاته يمكن أن يجعلنا نفكّ الارتباط الآليّ بين الحجاب والإسلام السّياسيّ، وبين الحجاب والتّعصّب، لأنّ التّأثّم باب من أبواب التّعصّب، ولكنّه لا يفضي دائما إليه، بل يمكن أن يبقى في دائرة الذّات نفسها، فلا تسقطه على تجارب الغير عبر أساليب التّفسيق أو الوعظ والهداية. لكنّ ما رأيناه ونراه من قابليّة الحجاب إلى أن يستفحل ويتوسّع يجعلنا منتبهين إلى العنف المرتبط بخيار الحجاب نفسه.

فهناك صيغتان للتّحجّب تمثّلان مكمنا من مكامن العنف، وتستدعيان سنّ القوانين بدل المنشورات التي لا تفرض الاحترام، وتستدعيان تدخّل الدّولة باعتبارها ثالثا يمكن أن يحدّ من بعض مظاهر الإفراط المولّد للعنف، وأعني بهاتين الصّيغتين المولّدتين للعنف والألم : فرض الحجاب على الأطفال والنّقاب. ففرض الحجاب على البنات يحول دون نموّهنّ الطّبيعيّ وحركتهنّ التّلقائيّة، وهو مخالف لما يعرف في أدبيّات حقوق الطّفل بـ”المصلحة الفضلى للطّفل” وهي مصلحة قد تكون مخالفة لإرادة الأبوين. أمّا النّقاب فهو انتهاك لحقّ المرأة في أن تكون لها هويّة محدّدة وفي أن يكون لها ظهور كسائر البشر. إنّه إذا لم يقصد منه التّحيّل وإخفاء الهويّة نوع من القتل أو الانتحار الاجتماعيّين، لا يقلّ خطورة عن القتل أو الانتحار الواقعيّين، ويستوجب التّدخّل لإنقاذ القتيل، لأنّ جسد الإنسان ليس ملكا له وحده، ولأنّ الحياة والحقّ في الحياة من جهة، ومنع الألم من جهة أخرى من المقاصد الأساسيّة لسياسة المدنيّة وللسّياسيّ.

ومن مظاهر العنف الملتبسة بالحجاب أنّ انتشاره قد يهدّد الحقّ في عدم التّحجّب والحقّ في نزع الحجاب كما نراه من خلال أمثلة كثيرة قريبة منّا. فالحجاب قد يتحوّل إلى فريضة لا تفرضها الدّولة كما في بعض البلدان بل يفرضها المجتمع. ثمّ إنّ الحجاب رغم تعدّد استعمالاته الفرديّة وطابعها المفارقيّ كثيرا ما تصحبه ثقافة تكرّس أنماطا علائقيّة منافية لحقوق المرأة، منها الدّعوة إلى تعدّد الزّوجات وطاعة المرأة زوجها، وغير ذلك من الأمور المنافية للمساواة والكرامة البشريّة.

فإذا كانت العلمانيّة صيغة من صيغ الفصل بين السّياسيّ والدّينيّ، وبين القانونيّ والدّينيّ، وأداة لتحقيق “سياسة المدنيّة” لأنّها المبدأ الذي يوحّد بين كلّ المختلفين ويساوي بينهم رغم اختلافهم، ويحول دون العنف النّاجم عن الاختلاف، ويحوّل العنف إل حوار وجدل، فإنّ صيغة العلمانيّة الملائمة لنا هي تلك التي تجعل الدّولة حامية لمبدإ المساواة كما تكفله القوانين المدنيّة الوضعيّة. فالعلمانيّة هي أن تتكفّل الدّولة بتطوير وحماية المكاسب المدنيّة والقوانين المساوية بين المسلم وغير المسلم وبين المؤمن وغير المؤمن وبين النّساء والرّجال. والعلمانيّة في الوقت نفسه هي أن تضمن الدّولة وجود مجال خاصّ يمارس فيه المواطنون معتقداتهم وآراءهم الخاصّة. وتبعا لذلك فإنّ العلمانيّة لا تعني نزع حجاب النّساء بالقوّة، ولكنّها تعني مراقبة الشّخصيّ الدّينيّ عندما يتحوّل إلى خطر يهدّد إمكانيّة الفصل بين الدّينيّ الشّخصيّ والمشترك وعندما يهدّد القوانين المدنيّة القائمة على المساواة والحرّيّة.

إنّ الفضاء العموميّ خلافا للمعتقد السّائد ليس فضاء مادّيا، ليس الخارج في مقابل الدّاخل الحميميّ. الفضاء العموميّ هو مجال المشترك، والعلمانيّة هي المبدأ الذي يجعل الذّات تفسح داخلها مجالا لقبول المشترك، وتكون على استعداد لتجميد اختلافها للنّهوض بعبء المشترك القائم على السّياسيّ المقاوم للعنف. إنّها قدرة على التّضاعف وعلى قبول المختلف دون التّنازل عن الاختلاف. ولذلك يمكن للمؤمن أن يكون علمانيّا، بل يمكن للمحجّبة أن تكون علمانيّة إذا رأت في حجابها خيارا شخصيّا ولم تنتهج منهج الوعظ والوصاية على الآخرين لتفرض نموذج الحجاب. يمكن لها أن تكون علمانيّة إذا استبطنت داخلها الفصل بين العامّ والخاصّ وأفسحت داخلها مجالا للعموميّ المشترك.

فالعلمانيّة بما هي مظهر من مظاهر سياسة المدنيّة ليست فقط تنظيمات وقوانين ومبادئ فصل، بل إنّها ثقافة ووضعيّة للذّات وللمواطن، وهي ليست فكرة مثاليّة، بل نتيجة مستخلصة من تجارب في العنف بأنواعه : عنف تدمير أجساد المختلفين كما في الحروب الدّينيّة والطّائقيّة، وعنف التّمييز بين المختلفين كما في القوانين المستلهمة من الفقه الإسلاميّ أو غيره من المنظومات الدّينيّة. إنّها المبدأ الذي يحمي الأديان والمعتقدات ويحمي من الأديان والمعتقدات في الوقت نفسه.

محاضرة ألقيت في تونس بمناسبة اليوم العالمي للمرأة

تاريخ النشر: 2008-03-14

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى