على هامش الأزمة الأميركية: النهايات والعودات
ياسين الحاج صالح
بين أول أيلول (سبتمبر) لجورج بوش عام 2001 وأيلوله الأخير هذا العـــام تغيرت أميركا والعالم كثيرا. نعلم ما جرى بعد أيلول الأول: اندفعت الولايات المتحدة بغرور وشعور ذاتــــي بالحق إلى احتلال أفغانستان ثم العراق، وأعلنت ما يشبــــه حالة طوارئ عالمية مكنتها من التصرف على هواها فـــي «الــــحرب علـــــى الإرهاب»، وتصرفت بصورة انفرادية أو أحادية الجانب دون مراعاة أقرب شركائها في أوروبا والعالم وفي ازدراء تام للمؤسسات الدولية والرأي العام العالمي، وشرَعت لنفسها توجيه ضربات استباقية ضد أي خطر تقدره هي. نعرف أيضا بعض ما جرى بين الأيلولين: علقت القوة الغازية في العراق، البلد الذي احتلته ضد إرادة الأمم المتحدة وبعض شركائها وقطاعات واسعة من الرأي العام العالمي، وتخلت عمليا عن «البوشية»، أي مذهب الضربات الاستباقية المقررة بصورة أحادية، وقبل ذلك تخلت عمليا أيضا عن خطط «نقل الديموقراطية» إلى الشرق الأوسط.
وإن كنا لا نعلم ما قد يترتب على تلاقي الأزمة المالية والاقتصادية العالمية مع إخفاق البوشية ومع قدوم إدارة جديدة قد تكون «ديموقراطية»، إلا أن العودة إلى المدرسة الواقعية في السياسة الدولية تبدو أمرا مرجحا، ومثلها الاهتمام بسياسة التحالفات التقليدية، التحالف الغربي بخاصة. وفي أساس هذين التحولين ثمة تراجع للعناصر الإيديولوجية في تحديد السياسات الأميركية، الداخلية منها والخارجية، أعني الثقة العمياء بالسياسات النيوليبرالية وفضائل السوق من جهة، والسعي إلى تعميم النموذج الأميركي عالميا تحت راية تعميم الديموقراطية من جهة ثانية.
ورغم أنه ليس ثمة رابط مباشر بين الأزمة الأخيرة وسلسلة التفاعلات التي تلت أيلول الأول، إلا أن حالة الطوارئ الاقتصادية التي مثلتها «خطة بولسون» (تخصيص 700 مليار دولا لشراء خسائر المصارف وإنقاذ النظام المصرفي) ستدفن نهائيا حالة الطوارئ العالمية التي رمز اليها مذهب الضربات الاستباقية. لا يرتد هذا التقدير فقط إلى قلة الموارد التي يمكن تخصيصها لتمويل نشر قوات وخطط حربية إضافية، ولا إلى ميل مرجح من قبل الرأي العام والهيئات التشريعية الأميركية إلى معارضة خطط وسياسات من هذا القبيل، وإنما كذلك إلى تدهور حاد وغير ظرفي على الأرجح في الثقة بسياسات تمزج بين النيوليبرالية والامبريالية، ويبدو أنها تجد تربة خصبة في أوساط الحزب الجمهوري بصورة خاصة. وإذا صح ما يتداول في الأسابيع الأخيرة من ثبات تخلف المرشح الجمهوري ماكين عن المرشح الديموقراطي أوباما في استطلاعات الرأي الخاصة بسلوك الناخبين المحتمل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، يكون المرشح الجمهوري أول ضحايا الأزمة المالية الأميركية والعالمية.
هــــل يسعنا القـــول إذاً إن مـــوجـــــة التمـــــدد الأميركي العالمي التي تلت أيلول الأول لبوش ستعقبها موجــــة انكفــــاء تتلو أيلوله الأخير؟ يحسن بالمرء أن يقاوم إغراء التنبؤ بالمستقبل، سيما وأن وقائع الأزمة الأخيرة ما انفكت تنبسط أمامنا، في بؤرتها الأميركية وخارجها. أما مسارعة بعضنا إلى الاحتفال بالأزمة الأميركية وبناء آمال قيامية عليها، وبعض آخرين منا إلى التقليل من شأنها واستعجال التعافي الأميركي منها، فيبدو أقرب إلى فولكلور عربي عريق، أوثق صلة باستبطاننا موقف المتفرج السلبي الذي يصفق أو يبتئس، لكنه عاجز عن المبادرة واقتحام الميدان ليلعب بين اللاعبين.
انكفاء الأميركيين، إن حصل، خبر طيب لأنه يحرر التنوع العالمي المقموع، وقد يسهم في تعجيل ارتسام «نظام عالمي بلا أقطاب» حسب تعبير ريتشارد هاس. بيد أن المرشحين لاستفادة أعظمية منه هم القوى الدولية الناشطة والمستقلة، مثل إيران. بالمقابل، لا تلوح في الأفق احتمالات لاستفادة أية أطراف عربية منها. هذا يعود إلى تفضيل الدول العربية الاندراج في خطط ومشاريع الآخرين، الأميركيين أولا، على تطوير خطط ومشاريع مستقلة. وهذا بدوره متصل بنسق أولوياتها القبلي أو العصبوي وما قبل القومي، أعني تأمين الذات والبقاء في السلطة.
والانكفاء الأميركي مرغوب بعد لما قد يكون له من تأثير محرر فكريا. فطوال عقدين من السنين فرضت إيديولوجية النهايات حضورا قمعيا مكثفا في المجال الإيديولوجي الدولي. لقد أمكن أن يظهر ويشتهر مثقفون يعلنون بكل جدية نهاية التاريخ، بعد أن كانت تقررت نهاية الإيديولوجية و»نهاية السرديات الكبرى»… وما كان يسهل الاعتراض على هذه الأطروحات لأنها كانت تبدو مسنودة من «اتجاه التاريخ» في العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة. ما قد يكون محررا فكريا هو تبدل اتجاهات الحركة التاريخية، وما قد تدخله من اضطراب وتعدد وشك في قلب الأفكار المهيمنة.
لكن قد تكون إيديولوجية العودة هي المرشحة اليوم للحلول محل إيديولوجية النهايات. كانت «عودة الدين» تزامنت مع «نهاية السرديات الكبرى»، والأرجح أننا سنسمع كثيرا عن عودة الاقتصاد وعودة الماركسية، وربما الشيوعية… في الشهور وربما السنوات القادمة. بيد أن إيديولوجية العودة ليست إلا عودة للإيديولوجية، لمرحلة سابقة من التطور الفكري والسياسي، ترهن التحرر الإنساني بعقائد خلاصية كبرى، لا تعد بالحرية مستقبلا ألا بثمن التخلي عن الحرية واستقلال العقل والضمير الآن.
هنا أيضا لا نستفيد من تحولات الهيمنة الفكرية على الصعيد الدولي إلا بقدر ما نعمل على تطوير أهليتنا على التفكير المستقل، أي التنبه إلى شروطنا الفعلية، ودون توهم وجود إكسير إيديولوجي شاف، يضمن تناوله معرفة معصومة. أي كذلك دون التصفيق للعودات والاكتئاب للنهايات، أو العكس. لا شيء في هذا الموقف مختلف عن موقف المتفرج السلبي الذي لاحظناه على الصعيد السياسي. موقف الوكالة في الحالين. العودة إلى ما قبل نهاية الحرب الباردة سياسيا وفكريا ليست ممتنعة فقط، وإنما هي غير مرغوبة كذلك. رجعية أيضا. لقد كنا تابعين وقتها. لكن هل سينكفئ الأميركيون بفعل الأزمة الأخيرة أم لا؟ هذا ليس مهماً البتة إلا للمتفرجين. ما يهم المتفرجين ليس مهماً.
خاص – صفحات سورية –