بايبس ضدّ أوباما: لا مزايدة تشفي الغليل
صبحي حديدي
ليس غريباً، ولا هو في باب الجديد، أن يختلف المرشحان للرئاسة الأمريكية في عشرات الملفات الداخلية والخارجية، على اختلاف قضاياها الإقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية؛ وأن يتباريا، في الآن ذاته، حول الإعراب عن عشق الدولة العبرية، وتشكيك واحدهما في مقدار وفاء الآخر بتعهداته حول تلبية احتياجاتها، وضمان أمنها وقوّة شوكتها.
ومنذ الأيام الأولى لتأكيد فوزهما ببطاقة ترشيح، سارع المرشح الجمهوري جون ماكين، مثل المرشح الديمقراطي باراك أوباما، إلى خوض هذه المعركة المبكرة، فتساجلا على صفحات مجلة ‘أتلانتيك’ الأمريكية اليمينية، عن طريق الحوار مع الصحافي جيفري غولدبرغ، لتحديد الأفضل بينهما في تأييد إسرائيل. أوباما لم يفوّت الفرصة لإقناع القرّاء بأنّ نواياه صادقة كلّ الصدق في مساندة الدولة العبرية واليهود عموماً؛ وماكين قال إنه ليس مضطراً حتى لتبيان مواقفه في هذا المضمار، لأنها معروفة للقاصي والداني، وكانت وتظلّ تحصيل حاصل طبيعي في كامل مسار حياته السياسية.
إزاء هذه الحال، وبالنظر إلى طول باع السناتور ماكين في تأييد الدولة العبرية بالقياس إلى السناتور أوباما حديث العهد بهذا الواجب المقدّس، لم يجد الأخير مناصاً من المزايدة على ماكين، في مضمار يجعل السباق يتجاوز تأييد إسرائيل إلى مغازلة الفكرة الصهيونية، ضمن سياقات تربوية وأخلاقية: ‘حين أتأمل الفكرة الصهيونية، أجدني أتذكّر كيف تشكلت مشاعري تجاه إسرائيل وأنا يافع، بل وأنا طفل أيضاً في الواقع (…) وأنا أقول دائماً أنّ تكويني الفكري تمّ على أيدي أساتذة وكتّاب يهود، رغم أنني لم أنتبه إلى الأمر في حينه. ويستوي في صناعة حساسيتي تلك أناس لاهوتيون أو فيليب روث أو بعض الكتّاب الأكثر شعبية مثل ليون أوريس’. وأمّا ‘الفكر اليهودي’، هكذا لا على أيّ تعيين، فقد علّم أوباما أنّ لكلّ فعل عواقبه الأخلاقية التي يتوجب احتسابها، وهو السبب في أنّ حملته تغصّ بالحديث عن الواجبات والنواهي، ممّا يرهق كاهل مساعديه ومستشاريه!
غير أنّ هذا كله لم يطرب أسماع صهيوني مخضرم مثل دانييل بايبس، فسارع من جانبه إلى نبش تصريح قديم للمرشّح الديمقراطي يقول فيه إنّ معاناة الفلسطينيين فاقت كلّ معاناة: ‘حقاً، يا سعادة السناتور؟’ يسأل بايبس، في نبرة سخرية سوف تمهّد سريعاً لنبرة الإبتزاز: ‘لقد عانى اليهود طيلة 2000 سنة، في حين أنّ ‘الفلسطينيين’، بوصفهم إثنية منفصلة عن العرب، لم يكن لهم وجود أصلاً قبل 1964. ستة ملايين يهودي قُتلوا خلال أقلّ من عقد. فهل عانى ‘الفلسطينيون’ من أيّ محرقة’؟ لا يكفي، إذاً، أن توضع صفة الفلسطيني بين أهلّة للتشكيك في صحة التسمية أو في توفّرها أساساً، بل يتوجب أيضاً أن يقول بايبس إنّ هذه ‘الإثنية’ رأت النور بعد عام 1964… فقط!
وبايبس، الذي يصرّ على تسمية المرشح الديمقراطي باسمه الثلاثي باراك حسين أوباما للتذكير بأصوله المسلمة، كرّس شطراً كبيراً من كتابات للبرهنة على أنّ الأخير مسلم، من صلب مسلم، وذهب في هذا إلى حدّ اقتباس سجلات المدرسة الأندونيسية التي درس فيها أوباما (سنة 1968، أي حين كان في سنّ الثامنة)، باسم باري سويتورو، التلميذ المسلم. ورغم اعتراف بايبس بأنه لا إكراه في الدين تبعاً للشريعة الإسلامية، وأنّ المسؤولين في حملة أوباما أثبتوا أنّ المدرسة تلك كانت تنسب ديانة التلميذ إلى ديانة أبيه، فإنّ تهمة إسلام أوباما ما تزال الشغل الشاغل الثاني عند بايبس، بعد المهمة الأولى المتمثلة في تأثيم مواقف المرشح الديمقراطي من حقوق الفلسطينيين.
وقبل سنوات أعلن بايبس أنه عاجز عن فهم النفسية التي تجعل الآباء الفلسطينيين يبتهجون لأنّ أبناءهم استشهدوا في عمليات جهادية. ومن أجل المزيد من تدعيم الحجّة، أحال قارىء مقالته تلك إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش، الذي كانت قد أصابته الحيرة بدوره إزاء نفسية الآباء الفلسطينيين فأعلن أنه عاجز عن فهمها. المرء، بالطبع، يعرف أنّ بايبس على علم تامّ بأسباب ابتهاج الآباء الفلسطينيين، وكذلك بالأسباب التي تجعله يزعم الجهل بتلك الأسباب. وهذا، في كلّ حال، تفصيل لم يعد يرتدي أهمية حين يتّصل الأمر برجل مثل بايبس تحديداً: ليكودي عريق، وبوق أمريكي موضوع في خدمة الصهيونية علانية وليس سرّاً، وتلميذ رديء لأسوأ تقاليد الإستشراق السياسي كما أرسي دعائمها برنارد لويس.
إنه يعرف، تماماً كما يعرف بوش ويعرف أيّ إسرائيلي وكلّ فلسطيني، أنّ التاريخ لم يعرف احتلالاً عسكرياً آمناً وهانىء البال ونظيفاً وخالياً من الدماء، مدنية كانت أم عسكرية، بريئة أم مذنبة. المدهش في معرفة بايبس وجهله، وهذا دليل إضافي على الرثاثة والإدقاع والإنحطاط في تحليلاته السياسية إسوة بتلك السوسيو ـ إستشراقية، أنه يرحّل نزعة الفلسطينيين الإستشهادية إلى منطقة أخرى لا تنتعش إلا في بال أمثاله. الفلسطيني، في قناعته، لا يستشهد في سياق فعل مقاومة ضدّ احتلال عسكري استيطاني عنصري، لأنه ما من احتلال في ضمير بايبس، والدولة العبرية موجودة بين ظهرانيها، في أرضها، في يهودا والسامرة.
الفلسطيني يستشهد لأنه إنما يواصل تقاليد الذود عن العرض (الـ Ird في لغة بايبس!)، بوصفه أحد أعرق مقدّسات الشرق، وهو في استشهاده هذا لا يختلف عن الأخ الذي يقتل أخته، والأب الذي يقتل ابنته، وابن العمّ الذي يقتل ابنة عمّه… غسلاً للعار. وهكذا فإنّ أيّ استشهادي فلسطيني لا يختلف عن الأب المصري الذي قتل ابنته الحامل غير المتزوجة، ثمّ قطّع جسدها ثمانية قطع، وألقاها في بالوعة الحمّام! هذا الذود عن العرض هو الجانب السلبي الذي، وفقاً لتحليلات بايبس الخارقة، يكمل الوجه الثاني من العملة: الوجه الإيجابي المتمثّل في إسباغ الشرف (أو الـ Sharaf عند المستشرق الضليع في الفصحى!)، على الأسرة التي يستشهد أحد أبنائها: ‘شكل الشرف الإيجابي ينطوي على توطيد موقع العائلة عن طريق اتخاذ خطوات تضمن لها الإطراء والسمعة، ولا شيء يجلب المجد للعائلة مثل استعدادها للتضحية بأحد أبنائها’.
إذا قتل إسرائيلي عشرين فلسطينياً، فإنه مختلّ العقل؛ أمّا إذا جرح فلسطيني إسرائيلياً، في حادث سيارة مثلاً وليس في عملية إنتحارية، فإنه إرهابي. هذا التنميط الإسرائيلي ـ الغربي قياسي وشائع منذ زمن طويل، ولكنّ الجديد الذي يضيفه بايبس هو أنّ الإرهابي ذاك لا يقتل من أجل قضية عادلة أو نبيلة، أو مقاومة لاحتلال عسكري استيطاني عنصري، أو دفاعاً عن قناعات سياسية ـ عقائدية، أو حتى ثأراً من عدوّ اغتال صديقاً أو قريباً أو أباً أو أمّاً أو أخاً أو أختاً. إنه يقتل… ذوداً عن ‘العرض’، ودفاعاً عن ‘الشرف’!
هل هنالك أيّ حظّ في أن تكون العمليات الإستشهادية أفعال مقاومة طبيعية ضدّ الإحتلال، حين تتوجه إلى قوّات الإحتلال تحديداً؟ كلا، بالطبع. هل هي، في الحدود الدنيا، ردّ فعل طبيعي على ممارسة الدولة العبرية للعنف في أفظع أشكاله، ضدّ المدنيين والعزّل؟ كلا، بالطبع أيضاً، لأنّ الدولة العبرية هي التي تدافع عن مدنييها العزّل (!) ضدّ الإرهاب الفلسطيني. وهل يوجّه بايبس أيّ لوم، مهما كان ضئيلاً خجولاً متواضعاً، إلى الآلة العسكرية الإسرائيلية؟ فتشوا في مئات المقالات التي ينشرها في عشرات الدوريات الصهيونية أو المتعاطفة مع الصهيونية، فضلاً عن موقعه الشخصي على الإنترنيت، ولن تعثروا على كلمة واحدة في هذا المعنى. هل تقتصر كشوفات بايبس السوسيو ـ إستشراقية هذه على الفلسطينيين وحدهم؟ كلا، لأنهم في نظره جزء لا يتجزأ من ثقافة عنف أكبر وأوسع، هي ثقافة الإرهاب الأمّ، أو أمّ ثقافات الإرهاب: الإسلام!
عشية حرب الخليج الثانية، 1991، أنذر بايبس العالم بقدوم ‘جائحة الإسلام’، وحملت إحدى مقالاته العنوان الدراماتيكي المستمدّ من ثقافة مرابطة الجيوش الإسلامية أمام أسوار فيينا قبل مئات السنين: ‘المسلمون قادمون!’، وجاء فيها: ‘هنالك أساس واقعي للخوف من الإسلام. فمنذ موقعة أجنادين سنة 634 وحتى حرب السويس سنة 1956، كان العداء العسكري هو المهيمن على العلاقة المسيحية ـ الإسلامية. وفي واقع الأمر لم يتوصّل الأوروبيون إلى بناء دولتهم إلا عن طريق طرد المسلمين، بدءاً من استعادة إسبانيا في مطلع القرن الثاني عشر وحتى حرب استقلال ألبانيا سنة 1912’.
لكنّ بيت القصيد عند بايبس كان ويظلّ ‘الإرهاب الإسلامي’، وعنه يقول: ‘تجب الإشارة إلى أنّ المسلمين دخلوا في غيبوبة خلال القرنين الماضيين، وهي محنة أهل الله الذين وجدوا أنفسهم في أسفل الركام. التوترات كانت هائلة والنتائج بالغة الألم، ولا غرو أنّ بلاد الإسلام تضمّ معظم الإرهابيين والحجم الأقلّ من الديمقراطيات في العالم’. ولكي لا نقع في سوء فهم يجعلنا نظنّ أنّ الإرهاب مقيم في دار الإسلام وحدها، يتابع بايبس إيضاح المشهد هكذا: ‘مجتمعات أوروبا غير مهيأة لهذه الهجرات الواسعة من سُمر الوجوه الذين يطبخون أطعمة غريبة ويلتزمون بمعايير مختلفة للصحة والحياة. المهاجرون المسلمون يحملون معهم شوفينية خاصة تعرقل اندماجهم في التيار العام لمجتمعات أوروبا الغربية. إنهم، في عبارة أخرى، يهددون فيينا من داخلها أكثر من تهديدهم لها عند البوابات’.
في هذه الأيام يقول بايبس إنّ 10 إلى 15′ من مسلمي العالم هم إسلاميون متحزّبون (كان، بعد ثلاثة أيام على هزّة 11/9، قد أعلن أنّ النسبة ذاتها هي لـ ‘الإسلاميين المتحمسين’)، الأمر الذي يجعل هؤلاء قرابة 150 مليون إسلامي، متحزّب أو متحمس، من جهة أولى؛ ولكن يجعلهم، في رأيه، أقلية بالقياس إلى المسلمين غير الإسلاميين، من جهة ثانية، وهؤلاء أكثرية يمكن الركون إليها في وجه ‘الشمولية (التوتاليتارية) الإسلامية’! وكما أنه لم يكترث بإطلاع قارئه على ما اعتمد من طرائق إحصائية في التوصل إلى رقم الـ 150 مليون إسلامي متحزّب، فإنّ بايبس لا يجد أيّ سبب يدعوه الى تفسير هذا المصطلح السياسي العجيب: الشمولية الإسلامية.
وفي العودة إلى سباق أوباما لخطب ودّ الدولة العبرية، ما الذي يمكن أن يشفي غليل بايبس إذا كان حديث المرشح الديمقراطي عن دولة فلسطينية ‘منفصلة’ ومستقلة’ قد جعل بايبس يتميّز غيظاً، فيتهم أوباما بأنه إنما يقترح ‘وصفة لتدمير إسرائيل’؟ ثمّ لماذا اقتراح دولة فلسطينية أصلاً، إذا كانت مثل هذه الدولة قائمة بالفعل اليوم، في قناعته، ليس في الضفة الغربية وقطاع غزة بالطبع، بل في… الأردن، حيث نسبة الفلسطينيين تتجاوز 77’!
والثابت أنّ خطاب بايبس تغيّر، بعد أكثر من عقدين، نحو الأسوأ وبات أكثر ضحالة وسطحية وسوء طوية. ومن حيث المبدأ فإنّ الأمريكي هو آخر من يحقّ له الحديث عن عنف معمّم أو مستأصل في النفوس، وليست الولايات المتحدة سوى حاضنة العنف وصانعة العنف، منذ مذابح الهنود الحمر وحتى حرب إبادة العراقيين، مروراً بقنبلة هيروشيما ومذابح فييتنام. كذلك فإنّ أوروبا المعاصرة، خارج أمريكا، ليست أقلّ باعاً في ممارسة العنف المعمّم المجّاني، وعلى بايبس أن يتجاسر فيسوق اعتبارات أخرى غير ‘الشرف’ و’العرض’ من أجل تفسير سيول الدماء وأكوام الجثث.
ذلك لأنه ليس جاهلاً، بل يتجاهل عامداً، لكي يجهّل.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –