ثمة ثياب تجول حول العالم
روبرتو خوارّوث
يعتبر روبرتو خوارّوث من اهم شعراء النصف الثاني من القرن العشرين في الارجنتين. تُرجمت اعماله الى اكثر من 20 لغة. وقد تلاحقت مجموعاته منذ انطلاقها الاول عام 1958 موسومة بعنوان واحد ملغز ومقتضب ومرقّم: “شعر عمودي اول”، ثم ثان فثالث الخ… كذلك جاءت قصائده مرقمة بحسب تسلسلها في كل مجموعة. وأظن ان الشاعر تفرد عالميا، بحسب علمي، في تقديم عمله طوال سنوات عدة بهذه البساطة. الا ان الحاحه هذا، على هذه الغفلية لا شك في أنه غني بالأبعاد في حد ذاته. الواقع أنه أثار الكثير من التأويلات. فالكلمة الشعرية هنا، تكسب حضورها، في اللاإسم، وفي اللاوجه، وترتبط بهما بعناد. كما ان مشروع خوارّوث الشعري هو ايضا ذو طبيعة فريدة. فمن المعروف أن الشعر شعر، والفكر فكر. ولكل منهما شروطه. ويبدو لي أن القارىء سيلاحظ بسهولة غلبة الفكر على الشعر عند خوارّوث. واحيانا تجيء قصيدته شديدة التوتر، بحيث يتطلب التقاطها جهدا من التركيز. الفكر اذاً، هو سيد الموقف الشعري لديه. لكنه فكر مشرب بالشعر. لا هو بالفكر الصرف، ولا بالشعر الصرف. ولعل هذا التلاحم الهجين الذي قيّض لخوارّوث أن يقوم به، هو سر شعريته. لقد أُعطي له ان يسلك طريقا شعريا في صميم الفكر. ان خوارّوث يفكر. ولكن باستخدام ادوات الشعر التقليدية: الايقاع، الوزن، الغناء، الصور. انه يفكر ولكن بوسائل شعرية. انه يفكر. ولكن كشاعر دفع نفسه في مغامرة الفكر. وهكذا تزاوج الشعر والفكر لديه. فكانت حصيلة ذلك، بنية جديدة، يتشكل فيها الفكر ولكن شعريا، والشعر فكريا. بدون ان تعوزهما الغنائية برغم أمارات الجفاف. وكل ذلك باستمرار في حركة “عمودية” وهذه الحركة هي مزدوجة: من اعلى الى اسفل. ومن اسفل الى اعلى. الاولى، تنطلق نحو العمق في نوع من الحفر حتى بلوغ لب الاشياء وغالباً الهاوية التي تضمّها. يقول الشاعر في غير مكان: “نعم، ثمة عمق./(…)/ لكنه حيث يبدأ الجانب الآخر، / التماثلي لهذا الجانب/ ربما المكرر/ ربما هذا المكرر وقرينه،/ ربما هذا القرين”. ان خوارّوث يسأل العالم انطلاقا من هذا البعد العمقي. وهذا البعد هو اول عمودية للقصيدة: من اعلى هذا العالم الى اسفله. اما بشأن حركته الثانية من اسفل الى اعلى، وهي الحركة التي تشيّد فاننا في نهاية المطاف، نحن هدفها. نحن الذين ننتصب مرتعشين وحائرين “وحيدين وعراة” في هذا الدوار الملازم.
-1-
أخال في هذه اللحظة
أن لا أحد ربما يفكر فيّ في العالم،
وأنني وحدي أفكر فيّ،
وإن قدِّر أن اموت الآن،
فلن يفكر فيّ احد، حتى أناي.
هنا تبدأ الهاوية،
كشأني اذ استغرق في النوم.
أنا عضدي الخاص بي وأنتزعه مني.
وأستمر في توشية كل الاشياء بالغياب.
لذلك ربما
التفكير في احد ما
يعني انقاذه
(المجموعة 1 – القصيدة 9)
-2-
أحياناً توقظني يداي.
إنهما تصنعان او تنقضان شيئاً ما بدوني.
حين أنام،
ثمة شيء مفرط في إنسانيته،
شيء ملموس كظهر انسان او جيبه.
اسمعهما في أثناء نومي،
منهمكتين في عملهما في الخارج،
وحين أفتح عينيّ أجدهما ثانية هادئتين.
وتصوّرت أنني قد أكون انساناً
بفضل ما تفعلانه
بحركتهما، وليس بحركتي،
وبالههما وليس بإلهي،
وبموتهما، إن كانتا ايضاً تموتان.
أنا لا اعرف أن أصنع انساناً.
ربما يداي تستطيعان ذلك إذ انام،
وما ان يتم انجازه
سوف توقظانني كلياً
وتعرضانه عليّ.
(المجموعة 1- القصيدة 19)
-3-
ثمة ثياب تدوم أكثر من الحبّ.
ثمة ثياب تبدأ مع الموت
وتقوم بجولة حول العالم
والعالمين.
ثمة ثياب بدلاً من أن تبلى
تصير أجدّ باستمرار.
ثمة ثياب للتعرّي.
ثمة ثياب عمودية.
سقوط الانسان
يجعلها منتصبة.
(المجموعة 1 – القصيدة 23)
-4-
فيما انت تقوم بهذا العمل او ذاك،
ثمة انسان في هذه اللحظة يصارع الموت.
فيما أنت تلمّع حذاءك
فيما أنت تستسلم للحقد،
فيما أنت تكتب رسالة طويلة
الى حبك الوحيد او غير الوحيد.
وحتى إن توصلت الى عدم القيام بشيء،
فثمة من يصارع الموت آنئذ
محاولاً عبثا ان يستجمع كل الزوايا،
ومحاولا عبثا ان لا يحدّق في الجدار.
وحتى لو كنت تصارع انت الموت الآن،
فثمة آخر يصارعه في هذا الآن،
برغم رغبتك الشرعية
في الموت في لحظة حصرية.
لذلك، حين تُسأل عن هذا العالم،
أجب ببساطة: ثمة من يصارع الموت الآن.
(المجموعة 1- القصيدة 37)
-5-
الفم في يد
والموت في أخرى،
أستعلم الصمت
أزرعه شامات،
اطالبه بضمانات للصراخ،
وأقدّر له حصته من الاجابة
شيء ما كأنه حيوان ضخم حزين
يتعرى اذذاك في صوتي،
لكنه يكتشف أنه كان عارياً.
بينما
احدى يديّ ظلت فارغة.
ولم اعرف قط أيهما.
(المجموعة 1- القصيدة 64)
-6-
الحجر نهد متشنج
حيث مناورة الطائر المفتوحة في خطر،
لكنه ايضاً ذاكرة مفتوحة
حيث قبضة الطائر المطبقة
تنحلّ كتهديد غير متوقع.
لا بد من وجود نقطة ارتكاز
تتعطل فيها تعاقبات النسيان،
وتستذكر الاشكال.
(المجموعة 2- القصيدة 17)
-7-
الموت وجهة نظر اخرى
قمر الأموات اقدم
ولا يُحدث ايّ مد وجزْر.
وجهة نظرك ايضاً هي اخرى
قمر الحياة كان افتى،
وكان هو نفسه المد والجزر.
وبين القمرين،
قبل الموت وبعد الحياة،
لنا نظرة جانحة
قرب بحر لا بداية له.
(المجموعة 2- القصيدة 19)
-8-
ترسم الحياة شجرة
والموت يرسم أخرى.
ترسم الحياة عشّاً
والموت ينسخه.
ترسم الحياة عصفوراً
كي يسكن العشّ
والموت في الحال
يرسم عصفوراً آخر.
يدٌ لا ترسم شيئاً
تتنزّه بين كل الرسوم
ومن وقتٍ الى آخر تُغيّر مكانها.
مثلاً:
يحتلّ عصفورُ الحياة
عشَّ الموت
على الشجرة التي رسمتها الحياة.
في أوقاتٍ أخرى
اليد التي لا ترسم شيئاً
تمحو رسماً من المجموعة.
مثلاً:
تحمل شجرةُ الموت
عشَّ الموت
ولكن لا يحتله طائر.
وفي أوقات أخرى
اليد نفسها
التي لا ترسم شيئاً
تتحوّل الى صورة زائدة،
بشكل عصفور،
بشكل شجرة،
وبشكل عش.
وآنذاك، فقط آنذاك،
لا شيء ينقص ولا يزيد.
مثلاً:
يحتل طائران
عشّ الحياة
على شجرة الموت.
أو ترسم شجرةُ الحياة
عشّين يسكنهما طائر واحد.
أو يسكن طائرٌ وحيد
عشّاً واحداً
على شجرة الحياة
وشجرة الموت.
(المجموعة 4 – القصيدة 1)
-9-
الكلمات روافع صغيرة،
لكننا لم نعثر بعد على نقطة ارتكازها.
نضعها بعضاً فوق بعض
وينهار البنيان.
نضعها على وجه الفكر
ويلتهمها قِناعه.
نضعها على نهر الحب
فتمضي مع النهر.
ونستمر نبحث عن مجموعها
في رافعة واحدة،
ولكن بدون معرفتنا ماذا نشاء رفعه،
هل هي الحياة أم الموت
هل هو فعل الكلام بالذات
أم الدائرة المغلقة لوجودنا البشري.
(المجموعة 4- القصيدة 46)
-10-
ترسم العين على السقف الأبيض
خطّاً رقيقاً أسود.
السقف يتقبّل وهم العين
ويكتسي السواد.
اذذاك يمّحي الخطّ
وتغمض العين.
وهكذا تولد الوحدة.
(المجموعة 5- القصيدة 11)
-11-
كل يدٍ تضع غيمتها
في سماء مختلفة.
لكنها ذات يوم تجد غيمتها
في سماء الجميع.
إذذاك فقط يمكنها أن تصبح ثانية
قطعةً من الارض الموعودة
التي كانتها قبل أن تكون يداً.
وإذذاك فقط ستمطر
غيمتها عليها.
(المجموعة 5- القصيدة 17)
-12-
انتزع الكلام من موضع الكلام
وضعْه حيث ما لا يتكلم:
الأزمنة المستَنفَدة،
الانتظارات البِلا إسم،
الانسجامات التي لم تُدرك قطّ،
الحالات المستعجلة المهملة،
والأنهار المعلّقة.
إعمل على أن يختار الكلامُ
المشروبَ المنسيّ
لما ليس الكلام،
بل خَرَسٌ ينتظر
عند حافة الصمت،
في محيط الوردة،
في الظل شبه الفارغ للانسان.
وهكذا، وقد اختُصِر العالم،
إفتح الفضاء الجديد كلياً
حيث الكلام ليس فقط
أمارة للكلام
ولكن ايضاً للصمت،
مسلك الكائن السليم،
الصيغة لكي تقول أو لا تقول،
محمّلاً بالمعنى
كإله على الكتفين.
وربما قفا إله،
وربما سالبه،
أو ربما مثاله.
(المجموعة 12- القصيدة 1)
-13-
دورياً،
تجب مناداة الاشياء،
للتأكد مرّة أخرى من حضورها.
يجب أن نعرف
إن تكن الاشجار لا تزال هناك،
إن تكن الطيور والازهار
تتابع مباراتها غير المعقولة،
إن تكن الاضواء الخفية
لا تزال تغذّي جذر الضياء،
إن يكن جيران الانسان
لا يزالون يذكرون الانسان،
إن يكن الله
قد تخلّى عن فضائه لبديل،
إن يكن اسمك هو اسمك
أم اصبح اسمي،
إن يكن الانسان قد أنهى تدرّبه
على أن يرى نفسه من الخارج.
وفي أثناء المناداة
يجب تجنّب الخطأ:
فلا شيء يمكن أن يُدعى باسم آخر.
يجب ألاّ يحل شيء محل شيء غائب.
(المجموعة 12- القصيدة 3)
-14-
ثمة شذرات من الكلمات
في داخل كل الاشياء،
كبقايا بذار قديم.
للعثور عليها
تجب استعادة الخطوة الاولى
للبداية أو النهاية.
وبدءاً من نسيان الاسماء
يجري التدرّب ثانية على تهجئة الكلمات،
ولكن بدءاً من قفا الحروف.
ربما نكتشف حينذاك
أن لا ضرورة لتكملة تلك الشذرات،
لأن كل شذرة هي كلمة تامّة،
كلمة لغة منسيّة.
ومن الممكن حتى أن نجد في كل شيء
نصاً كاملاً،
نصاً مصوناً ومحميّاً
لا ضرورة لقراءته كي نفهمه.
(المجموعة 12- القصيدة 6)
-15-
القصيدة تستدعي الدخان
لتُشعل المصباح.
النيران المطفأة
أحسن وقود
للنيران الجديدة.
فالشعلة لا تلتهب
الاّ بماضيها.
(المجموعة 12- القصيدة 7)
-16-
ثمة إسراف في الكتابة.
على كل شيء كُتب شيء ما،
لا نقرأه الا نصف قراءة.
كل شيء هو طِرس
لا يمّحي الاّ جزئياً
ثم يضاعف طبقات الكتابة.
حتى الصمت كُتب عليه.
لا يمكننا
أن نمحو حرفاً واحداً.
ولا يمكننا ايضاً
أن لا نكتب فوقه.
ولكن ثمة تسوية ممكنة:
الكتابة نحو الداخل.
فهناك، نسبياً،
المكتوب أقل بكثير.
(المجموعة 12- القصيدة 21)
-17-
ثمة نداءات تدعوني اليك
فيما أنت لا تدعوني.
نداءاتك في الامس
التي طغت على ماء الزمان،
ونداءاتك في الغد
التي لن أسمعها ربما في الغد،
نداءاتك التي أبتكرها بدون علمي
إذ تصبح الوحدة شرسة
أو نداءاتك
التي لا تصدر عنك ولا عنّي،
كما لو كان بيننا منطقة حرة
تعمل لحسابها الخاص،
منطقة أوجدناها تقريباً بدون إرادتنا
كي تنطق باسمك
وربما ايضاً باسمي
بدون حاجة الى كلينا.
في كل حال،
أنا محوط بنداءاتك بدونك،
كجزيرة في البحر
أو برج في الريح العابرة.
هل تبقى نداءاتك تدعوني
إذ نغيب كلانا؟
الفم الفارغ لا حاجة له الى أحد
كي يتابع نداءه.
(المجموعة 12- القصيدة 75)
– 18 –
الثلاثة لا تشبه الأربعة
لكن هذه تحتوي تلك.
الحياة لا تشبه الموت
لكن الموت يحتوي الحياة.
وأنت لا تشبهني
لكنني أحتويك.
ربما من الأفضل
أن نغيّر الاحتمالات
بحيث تحتوي الثلاثةُ الأربعة،
وتحتوي الحياةُ الموت
وأن تحتويني أنت.
أو ان يكون الكلّ مساوياً للكل
ولا شيء يحتوي شيئاً.
(المجموعة 13- القصيدة 14)
– 19 –
قصيدة واحدة تنقذ يوماً واحداً.
فهل يمكن قصائد عدة
أن تنقذ الحياة كلها؟
أو تكفي قصيدة واحدة؟
كل ما يُنقذ
يطرح هذه المعضلة.
وحلها هو مفتاح
المصادفة لأنقاذ الذات.
(المجموعة 13- القصيدة 21)
– 20 –
ثمة غرقٌ في المرآة.
كل يوم نغوص أكثر
في مائها الصافي.
الى أن يأتي يوم
يُحطّم فيه الغرق الزائد
المرآة من الداخل.
(المجموعة 13- القصيدة 27)
– 21 –
اليوم لم أفعل شيئاً
ولكن حدثت فيّ أشياء كثيرة.
طيور لا وجود لها
عثرت على عشها.
ربما توجد أشباح
التقت بأجسامها.
توجد كلمات
استعادت صمتها.
فأنْ لا نفعل شيئاً
يُنقذ أحياناً توازن العالم،
إذ ندرك أن أيّ شيء أيضاً يُرجّح
كفة الميزان الفارغة.
(المجموعة 13- القصيدة 52)
– 22 –
السهاد رقاد آخر.
فهل يكون الرقاد سهاداً آخر؟
ربما السهاد والرّقاد
ليسا سوى نظرتين
لرؤية واحدة، سوى
صورتين جانبيتين لوجه
لا تُحصى صوره الجانبية،
سوى جانبين لجرم كثير السطوح لا متناهٍ
يُدوّم في ريح لا متناهية.
ربما الموت جانب آخر.
والجنون آخر.
ولكن ما قد يحدث
لو الريح مرةً
كفّت عن الهبوب؟
هل كان الجرم الملموم على ذاته
يستمر يدوّم ويدوّم في العدم؟
أم كان توقّف في الأخير
وأضحت جوانبه جانباً واحداً؟
(المجموعة 13- القصيدة 54)
– 23 –
أرغب أحياناً في محو أشعاري
لأكتب قصيدة للمرة الأولى.
كلّ ما كتبتُ لم يمنحني
الشعور بأني كتبتُها.
كذلك لا يكفي أننا حيينا:
دائماً تبدأ الآن الحياة.
(المجموعة 13- القصيدة 65)
– 24 –
كل شيء يُرخي ظله،
حتى اللامرئيّ.
ظلّ الفكر
يخيط شقوق
الواقعِ المحتمل.
ظلّ الكلمات
يقول ما لا تقوله الكلمات.
ظلّ غيابك
ينسج عبارات الحنان
الشاردة في الريح.
كلّ ظلّ يُطلق أيضاً ظلا آخر،
كما لو ان الأشكال لم تتوصل
الى إنجاز المشهد
الذي عيوننا في حاجة إليه.
وآجلاً أم عاجلاً،
حتى على العيون نفسها أن تُقدّم
حصتها من الظلّ
(المجموعة 13- القصيدة 66)
(من مجموعات: Poesia Vertical)
التقديم والترجمة: هنري فريد صعب