تفجيرات دمشق: غموض بناء أم تعتيم مخيف؟
محمد فتوح
رغم أن الانفجار الذي وقع في دمشق في السابع والعشرين من الشهر الماضي لم يكن الأول من نوعه خلال الأعوام الماضية، إلا أنه يختلف من حيث أن هدفه لم يكن واضحاً، مثلما هو الحال في مثال الانفجار الذي استهدف القائد العسكري في حزب الله عماد مغنية في شباط (فبراير) الماضي. وهو بطبيعة الحال يختلف أيضاً عن الانفجارات السابقة التي قالت الحكومة السورية إنها استهدفت (في اثنين منها على الأقل) أبنية مهجورة.. لكن في مناطق حساسة في دمشق.
وليس عدد الضحايا المرتفع (31 قتيلاً وجريحاً حسب الرواية الرسمية) هو وحده ما يلفت النظر، ولكن أيضاً وقوع الانفجار بالقرب من مركز أمني مهم في سورية (فرع فلسطين) هو ما يدفع بالذهن للذهاب بعيداً في تحليل الأهداف المحتملة أو الجهات التي يمكن أن تكون وراء مثل هذه العملية.
ولا بد هنا من تسجيل ملاحظة عامة لكنها أساسية، وهي أن غالبية التفجيرات التي جرت في سورية خلال الفترة الماضية تشبه في طريقتها إلى حد كبير تلك التي يشهدها لبنان بين الحين والآخر. ووجه الشبه الآخر بين الحالتين أن أي جهة لا تعلن مسؤوليتها عن تنفيذ العمليات، خلافاً لما هو معهود في مثل هذه الحالات في مناطق أخرى من العالم.
وأمر ثالث يشد الانتباه، هو أنه في جميع الحالات في سورية لا نجد هناك أية رواية غير الرواية الرسمية؛ تُقدم من جانب الإعلام المستقل. وهذا مرده إلى أمرين: بسبب منع وسائل الإعلام الأجنبي من الوصول إلى مكان الحادث إلا بعد مرور وقت طويل، أو حتى منعه كلياً والاكتفاء بما تعلنه وسائل الإعلام الرسمي من معلومات مصدرها السلطات السورية، وأن شهود العيان في المنطقة يخشون من الإدلاء بشهاداتهم لوسائل الإعلام ناهيك عن تعرض مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية للمساءلة وربما الاعتقال والمحاكمة في حال تجرؤوا وقدموا تفاصيل أو معلومات بشكل يناقض ما تقدمه السلطات من معلومات. وفي كل الأحوال هناك شكوى عامة من ضعف الشفافية لدى أجهزة الدولة في سورية وهو ما يدفع دائماً للتردد في قبول الرواية الرسمية عما يجري في البلاد، ومنها التفجير الأخير.
ونذكّر هنا بأنه رغم توالي التفجيرات ‘والاختراقات الأمنية’ في سورية (ودمشق خصوصاً)، لم يجر الإعلان عن إجراء تحقيق انتهى إلى إقفال القضية إلا في حالة واحدة وهي تفجير المزة عام 2004. ولكن حتى في هذه الحالة تفاجأ السوريون بالإعلان عن انتهاء المحاكمة وصدور الأحكام دون أن يسمعوا سابقاً بما جرى من تحقيقات وبما تم التوصل إليه من نتائج، ودون أن يعلموا كيف تم اعتقال العدد الكبير من المتهمين. ولكل ذلك، تبقى جميع الاحتمالات بشأن التفجير الأخير على طريق المتحلق الجنوبي في دمشق مفتوحة، كما تظل كل النظريات تحظى بنسبة كبيرة من الواقعية وتبقى غير مستبعدة.
وعلى هذا يمكننا أن نتصور ثلاثة احتمالات لما جرى:
1- أن تكون العملية من تدبير جماعات مثل القاعدة. وهذا مرجح في حال استبعدنا عاملي ‘نظرية المؤامرة’ واحتمال أن تكون العملية ‘حادث عمل’.
وفي كل الأحوال، وإذا كان الهجوم من تدبير ‘جماعات تكفيرية’ حسب الوصف الرسمي السوري، أو جماعات مرتبطة بالقاعدة وفق التعبير الدارج في الإعلام العربي، فإنه في العادة يكون الانفجار قريباً في الهدف وليس على قارعة طريق عادي، لا سيما إذا كان التفجير انتحارياً. وكما نلاحظ في العراق مثلاً، أو غيره من البلدان التي تتكرر فيها عمليات التفجير عبر انتحاريين، يأتي انفجار السيارات الملغومة خارج مقرات معينة (مهمة وحساسة) مباشرة في حال لم تتمكن السيارة المفخخة من الدخول إليه. وبالتالي فإن من غير المحتمل أن تكون السيارة التي انفجرت في هذا المكان كانت معدة للتفجير – مثلاً – في منطقة السيدة زينب التي يرتادها الشيعة بكثافة، والتي تبعد عدة كيلومترات عن المنطقة التي وقع فيها الانفجار. والواقع أن هذه الرواية (التسريب) الرسمية تهدف إلى تعزيز الانطباع بأن الهجوم ذو طابع طائفي، عبر الإشارة إلى أن المنفذين هم من التكفيريين (السنة) والمستهدفون هم من الشيعة.
وبناء على ذلك، وإذا أخذنا بالتصريح الرسمي في سورية بأن المسؤولين عن الانفجار هم من التكفيريين، فإن المكان المستهدف لا بد أن يكون مركزاً مهماً كالمجمع الأمني الذي يضم أحد أهم وأقوى فروع الأمن في سورية، وهو فرع فلسطين التابع للمخابرات العسكرية. وما يعزز هذا الاتجاه أن الإعلام الرسمي تجاهل بشكل تام الإشارة إلى وجود مقرات أمنية في المنطقة التي هزها الانفجار رغم أن هذه المقرات تضررت بشكل كبير نتيجة الانفجار الذي جاء في موقع قريب جداً منها. وقد تمت إعادة بناء الجدران التي تهدمت بفعل الانفجار القوي.
وما يعزز فرضية وجود هدف كبير بحجم المركز الأمني في المكان هو ما تردد عن سقوط ضابط بحجم نائب رئيس فرع فلسطين (العميد عبد الكريم عباس إضافة إلى نجله) بين الضحايا، وهو ما حاولت السلطات الرد عليه عبر إشاعة أن ضابطاً في الجيش السوري برتبة عميد (هو جورج الغربي) قتل مع نجله حينما كانا يمران بالصدفة بسيارتهما في المكان لحظة الانفجار. وبالطبع لا يحمل ‘السبق الصحافي’ الذي سجله التلفزيون السوري في الكشف عن العملية الأخيرة أي أهمية تذكر، بالنظر إلى أن الإعلان الرسمي عن الحادث لم يقدم الصورة الكاملة، بدليل أنه ركز مثلاً على وجود مدرسة في محيط المكان وحاول تصوير بعض الأطفال المصابين، لكنه لم يعلن عن القائمة الكاملة بأسماء الضحايا الذين قالت السلطات إن عددهم بلغ 17 إضافة إلى عدد آخر يقل عنه قليلاً من المصابين، أو يقدم صورة ‘مقبولة’ ومكتملة لمكان الانفجار والمباني التي تحيط به. وفوق ذلك، لجأت السلطات إلى منع وسائل الإعلام العربية والأجنبية من الوصول إلى موقع الانفجار حتى مرور بضع ساعات، ما سمح للسلطات بتقديم روايتها للأحداث قبل أن تسمح للإعلام المستقل بتقديم روايته. وخلال هذه الفترة تمت إعادة ترتيب المنطقة ‘وطمس’ بعض المعالم، مثل إزالة بقايا السيارة المنفجرة أو ردم الحفرة التي أحدثها الانفجار، وهو ما أثار تساؤلات عن المغزى من إزالة ما يمثل – في مثل هذه الحالات – أهم عناصر التحقيق الميداني الأساسي. وهذا ما يقودنا إلى الاحتمالين الآخرين، وهما نظرية ‘صراع الأجهزة الأمنية’ وفرضية ‘حادث العمل’.
2- ما يثير احتمال ‘نظرية’ الصراع بين الأجهزة الأمنية هو ما تردد بشأن مقتل الضابط الذي سبق أن قابلته لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رفيق الحريري (العميد عبد الكريم عباس) وكان ينظر إليه كأحد الشهود/ المتهمين الرئيسيين في القضية، لا سيما أنه كان قد عمل سابقاً في لبنان. واللافت هنا أن العملية تأتي قبل شهرين من موعد تقديم التقرير النهائي للجنة قبل بدء مرحلة الادعاء والمحاكمة في القضية. وما يعزز هذا الاعتقاد هو ما صرح رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية من تأثر تحقيقات الوكالة الدولية حول النشاط النووي السوري بمقتل المسؤول الأمني الكبير في القصر الجمهوري (العميد محمد سليمان). ما يعني أن ذهاب مسؤول بحجم عباس أو سليمان يمكن أن يغير مجرى القضيتين الأساسيتين اللتين تواجهان النظام السوري في الوقت الراهن، أي مقتل الحريري والاتهامات بالسعي لإنشاء مفاعل نووي. وهذا هو ما يدعو للتفكير في احتمال صراع الأجهزة.
ولا يفيد هنا تحديد المسؤولية عن مثل هذه التفجيرات بإسرائيل رغم أنها مستفيدة ـ بلا شك ـ مما يجري في سورية، بل إنها اعترفت (ضمناً أو صراحة) بمسؤوليتها عن تفجيرات أو خروقات وقعت في الماضي. بيد أن من الواضح أن هناك في سورية من يعمل باستمرار على تحديد كثير من المشكلات الأمنية في البلاد بالمسؤولية الإسرائيلية وذلك ـ فيما يبدو ـ محاولة للهرب من البحث جدياً فيما يجري أو تحمل تبعاته. ولنتذكر هنا أن الجهات الرسمية في سورية (وحزب الله في لبنان) ألقت منذ اللحظات الأولى لاغتيال عماد مغنية بالمسوؤلية على إسرائيل، لكن السلطات السورية لم تعلن حتى الآن، وبعد مرور ثمانية أشهر، عن أية تفاصيل تتعلق بنتائج التحقيق، أو الكيفية التي حدث فيها اختراق أمني بهذا الحجم أدى إلى الكشف عن شخصية مغنية ومراقبة تحركاته قبل اغتياله، أو الأشخاص الذين نفذوا العملية. في حين أن كل ما يتعلق بهذا الشأن يخرج على شكل تسريبات إعلامية موجهة ومتناقضة في كثير من الأحيان.
3- رغم أن الرواية التي قدمتها جهات معارضة في شأن احتمال أن يكون انفجار دمشق ‘حادث عمل’، وهو وصف يستخدم حين تنفجر سيارة بأصحابها الذين كانوا يعدونها للتفجير في مكان آخر، ينقصها بعض التماسك، إلا أنها ليست مستبعدة تماماً. وتقول الرواية في هذا الصدد إن سيارة شحن صغيرة (بيك آب) انفجرت بعد خروجها من مرآب لفرع فلسطين حيث تم تجهيزها للانفجار في مكان آخر، ربما في العراق أو لبنان، حسب أصحاب هذا التصور.
الإشكالية في هذا التصور أنه لا يقدم تفسيراً عملياً لانفجار السيارة بالقرب من المقر الذي يفترض أنه تم تجهيزها فيه، رغم أنه في العادة تكون ‘حوادث العمل’ خلال تجهيز المتفجرات أو بالقرب من مكان الهدف حيث يحصل بعض الارتباك أو الضغط النفسي على منفذي الهجمات ما يؤدي إلى عدم إصابة الهدف بشكل مباشر. وهما الحالتان اللتان تحدث خلالهما ـ عادة – الأخطاء التي تؤدي إلى حدوث الانفجار غير المخطط له.
وبعد.. باستطاعة أي فرد أن يرسم الصورة التي يريد أو أن يضع التصور الذي يعتقد لما جرى (ويجري) في دمشق مؤخراً.. لكن يبقى أن السوريين الذين راعهم مشهد الدماء في عاصمتهم يريدون معرفة الحقيقة؛ لأن الأمر يتعلق بأمنهم ومستقبل بلدهم.
كاتب سوري مقيم في بريطانيا
القدس العربي