التقرير السياسي الصادر عن المجلس الوطني لحزب الشعب الديمقراطي السوري
قدمت اللجنة المركزية تقريرها السياسي، أمام مندوبي الحزب إلى المجلس الوطني الذي انعقد في أواسط تشرين الثاني لعام 2007، وبعد النقاش سجلت الملاحظات عليه. ثم قامت اللجنة المركزية بإدخالها. وفيما يلي نص التقرير بعد إقراره:
أيها الرفاق الأعزاء!
كثيرة تلك المراجع والجهات التي تحدثت عن أعمال المؤتمر السادس لحزبنا، “نيسان 2005”. فالرسالة الداخلية التي وجهتها اللجنة المركزية إلى منظمات الحزب، وافتتاحية الرأي الخاصة به، والمقالات العديدة التي تناولته، ورسائل التحية، أفاضت في إبراز مواقفه الفكرية والسياسية والتنظيمية الجديدة وبيان أهميتها.
كذلك عبرت الأوساط السياسية المعارضة والشخصيات الديمقراطية المستقلة عن ارتياحها للطريقة التي اتبعها الحزب في التحضير للمؤتمر. وتوقفت عند مضامين وثائقه، ولا سيما المبادرة التي أطلقناها والداعية إلى مصالحة وطنية بين التيارات الأساسية لشعبنا، وإلى إقامة ائتلاف عريض يأخذ بيده مهمة التغيير الوطني الديمقراطي في سوريا.
ولعل المؤتمر الصحفي الذي عقدته قيادة الحزب، للإعلان عن عقد المؤتمر وشرح توجهاته وتوزيع وثائقه، والحضور الواسع لممثلي المعارضة وأوساط الرأي العام ورجال الصحافة والتلفزة، كان أبلغ تعبير عن ذلك الارتياح. فاعتبره الكثيرون خطوة نحو العلنية والتجديد، وعملاً يحتذى به، بوصفه مسعىً لتوحيد الصفوف وتحديد القواسم المشتركة للمعارضة السورية.
ويدخل في هذا المجال أيضاً، الاجتماعات الموسعة التي انعقدت في سائر المحافظات. فجرت حوارات معمقة تناولت مختلف القضايا التي تهم بلادنا، بين وفود اللجنة المركزية وجمهور الحزب وقواعده وحلفائه.
أيها الرفاق الأعزاء!
لا نود الإطالة في إطراء الذات. فحصيلتنا خلال السنتين والنصف الماضيتين مازالت متواضعة. فهي دون الطموح، بله دون ما خططنا له وسعينا لتحقيقه. هذه الحصيلة يمكن أن نلمسها على نحو واضح من ثنايا “تقرير اللجنة المركزية” المقدم إليكم. وربما نجد أمثلة شبيهة لها حين نستمع إلى تقارير بعض المنظمات.
هناك ثلاثة أمور رئيسية تتفاعل فيما بينها. لها، شئنا أم أبينا، تأثيرات على أداء الحزب وعلى مسيرته. نطمح في هذا الاجتماع أن نعالجها كي نصل إلى تقييم سليم، بدءً من اللجنة المركزية ومكاتبها، مروراً بلجان المحافظات، وانتهاء بأصغر هيئة في الحزب. ولنتمكن في النهاية من صياغة التوصيات والقرارات الضرورية، من أجل تجاوز مصاعبه وعثراته وتصويب أدائه. يمكن تحديد هذه الأمور بما يلي:
1- الوضع العام السوري والمؤثرات العربية والإقليمية والدولية عليه. وكيف تتجلى سياسات السلطة تجاه مجتمعها وتجاه تلك المؤثرات؟. وخاصة تجاه الحركة السياسية المعارضة.
2- حال المعارضة السورية بمختلف تلاوينها، في صراعها مع السلطة وفي ظل الأجواء المضطربة داخلياً وإقليمياً ودولياً.
3- أداء الحزب السياسي: ما مدى ما قدمته تجربة السنتين الماضيتين من صحة أو عدم صحة موضوعاته وبرنامجه السياسي. وكيف كان أداؤه منفرداً ومتحالفاً مع المعارضة السياسية، وماهي علاقاته مع منظمات المجتمع المدني. فهل أدى واجبه في تحقيق مهام المرحلة الحالية التي تمر بها سوريا؟ وما مدى ما قدمه النظام الداخلي الجديد من فوائد تتعلق بدمقرطة الحياة الحزبية الداخلية، وتطوير عملية بناء المنظمات، بما يخدم توثيق العلاقة مع المتعاطفين وجمهور الحزب وممثلي الرأي العام السوري.
البحث الأول
الوضع السياسي السوري
مابين أيار 2005 وأواسط تشرين الثاني 2007
لا يختلف المشهد السياسي السوري، من حيث الجوهر، عما كان عليه قبيل المؤتمر السادس لحزبنا. فالفصل الرابع من التقرير السياسي الذي عالج الأوضاع السورية العامة بين عامي “2000-2005″، تحت عنوان “رئيس جديد لنظام شائخ”، يؤكد أن الأزمات المركبة التي عاشتها سوريا على الصعد الداخلية والعربية والدولية لم تجد لها طريقاً إلى الحل. بل يمكن القول، إنها تفاقمت كثيراً. فأوضاع النظام تمضي في تدهور مستمر لا تودي به إلى الهلاك فحسب، بل سيعرض سوريا لمخاطر جسيمة كالتي حدثت وتحدث في المنطقة كالعراق ولبنان.
لا بأس هنا أن نستشهد ببعض ما جاء في هذا التقرير: (تميزت هذه المرحلة باعتراف السلطة مباشرة أو عبر إعلامها بـ: 1- وجود الأزمة العامة في البلاد. 2- المشاكل البنيوية للاقتصاد السوري. 3- تردي أوضاع القطاع العام وخسائره التي وصلت إلى خمسة وسبعين مليار ليرة سورية عام 2001. 4- الإخفاق في جذب الاستثمارات العربية والأجنبية. 5- استفحال مشكلة البطالة وعجز الدولة عن الإنفاق الاستثماري. 6- تراجع الموارد العامة للدخل الوطني)<!–[if !supportFootnotes]–>[1]<!–[endif]–>.
كما جاء في ختام هذا الفصل<!–[if !supportFootnotes]–>[2]<!–[endif]–> : (والآن بعد أربع سنوات… تبدو السلطة كمن يدير الأزمات، يراكمها ويفاقمها ولا يستطيع مقاربتها بحلول جديدة وجادة. فهي تمس مباشرة بنية النظام وطبيعته وطرائق عمله ومصيره. وهذا النظام وما يمثله صار نشازاً غير قابل للاستمرار في حياة السوريين وفي المنطقة. لقد أصبح شيئاً من الماضي. إنه لا يريد التغيير، بل عاجز عن فعل ذلك، في الوقت الذي يشكل التغيير قدر سوريا القادم).
1- الوضع الداخلي السوري:
لا يكفي تفسير سياسات السلطة الداخلية الرعناء، خلال السنتين الماضيتين، ببنية النظام وطبيعته الاستبدادية وحدهما. فعودته إلى القمع والتضييق على المعارضة بمختلف الأساليب، وتنامي دور المافيات في نهب البلاد، وتغول الفساد، وتخبطه في سياساته العربية والدولية، وسواها وسواها، لا يمكن تفسيرها من دون ربطها بالأوضاع الإقليمية التي تفجرت مع الاحتلال الأمريكي للعراق الذي شكل تهديداً مباشراً للنظام. فمارست الولايات المتحدة ضغوطاً مستمرة عليه، كان أقصاها آنذاك صدور قانون محاسبة سوريا. كما لا يمكن تفسيرها من دون ربطها بمغامراته في لبنان، بدءً من التمديد للحود ومقتل الحريري ومسلسل الاغتيالات والتفجيرات والانسحاب المذل منه، مروراً بالعدوان الإسرائيلي المدعوم أمريكياً في 12 تموز 2006، وتعطيل المجلس النيابي ومؤسسة الرئاسة والعديد من وزارات الدولة وتجميد الحياة العامة فيه، بأحداث نهر البارد في 20 أيار 2007، وانتهاء بتعطيل انتخاب رئيس جديد للبلاد.
ونظراً لتسارع الأحداث، خلال هذه الفترة وتزاحمها وتداخلها، صار من الصعب حين معالجتها فصلُ أي حدث، داخلي أو عربي أو إقليمي عن الآخر. لذا فضلنا الوقوف عند الظاهرات الأساسية الناجمة عنها. هنا نلحظ مثلاً:
أ- طغيان العاملين الدولي والإقليمي، وكذلك العامل اللبناني على الوضع السوري. هذا الأمر دفع السلطة السورية ومايزال إلى ردود أفعال متوترة ومتطرفة وغير عقلانية، تبعدها عن التعامل السليم سياسياً مع الأحداث، ويظهر بوضوح قلقها المتزايد على مصيرها. لذلك نراها تسعى إلى إبقاء جبهتها الداخلية هادئة، أو لنقل ممسوكة بقبضة حديدية، مُعرِضَةً عن إشراك الناس وقواهم الحية وتعبئتهم في مواجهة المخاطر الخارجية. كما نشهد تشدداً، ليس تجاه الخصوم والمعارضين فحسب، بل تجاه الشريك والحليف. ولا شك أن هذا آت من سوء العلاقات بين السلطة والمجتمع على مدى أكثر من أربعين عاماً، وفقدانها الثقة بحلفائها وأنصارها. هذا النهج الانعزالي أسسه وسار عليه الأسد الأب خلال حكمه الطويل من أجل الحفاظ على معادلة الداخل والخارج، بحيث ينقل أزماته إلى المحيط المجاور، معتمداً آنذاك على تناقضات المعسكرين الشرقي والغربي، عاملاً على تأمين أسباب الدعم والاستمرار من الخارج، متجاهلاً تهتك الأوضاع الداخلية المستمر. مثل هذا النهج لم يعد صالحاً في ظل المتغيرات الدولية الحالية. فلا يمكن النجاح في الحفاظ على الاستقلال الوطني، ومنع الأخطار الخارجية من دون الاعتماد على الشعب، ومن دون رضاه عن نظامه، وهذا هو سر أزمة النظام العميقة والدائمة.
ب- العزلة الشديدة التي يعانيها النظام من محيطه العربي، والتي تؤثر على الأوضاع الداخلية، ليست آتية من الضغوط الخارجية فقط، وإنما من سياساته الأنانية والضيقة التي لا تراعي مصالح النظام العربي، ولا يُعنى بالتنسيق مع أشقائه العرب. على العكس من ذلك، يفضل اللجوء إلى إيران والتحالف معها، لتخفيف الوطأة عنه. لكن السياسة الإيرانية، وخصوصاً بعد احتلال العراق، سارت بشكل تتعارض مع مصالح النظام العربي. وهذا ما نلمسه في سلوكها تجاه العراق ولبنان وفلسطين مؤخراً. إن هذه الحالة جعلت الوضع الإقليمي يميل إلى مزيد من التوتر والفوضى، الأمر الذي لا يساعد على إيجاد حل سياسي للبؤر المتفجرة، بما يخدم مصالح شعوب هذه المنطقة، ويبعد عنها التدخلات الخارجية، ويساعد، خصوصاً في العراق، على خروج المحتل منه، وبالتالي إيجاد مصالحة بين مكوناته الأساسية للحفاظ على وحدته شعباً ودولة.
جـ- خلال هذه الفترة نلحظ ظاهرة جديدة في إدارة الدولة، هي انتقال السلطة من يد الفرد إلى نواة الأسرة التي أمسكت بالقرار السياسي والأمني والاقتصادي. فالرئيس بشار يمثل داخلها رسمياً قيادة الدولة، أما اللواء آصف شوكت فأنيطت به إدارة الأجهزة الأمنية، ومحمد مخلوف (أبو رامي) أنيطت به إدارة الاقتصاد، أما القوة العسكرية الأساسية فأضحت بيد الشقيق العقيد ماهر الأسد. من هنا نشهد غياباً شبه تام للقيادة السياسية والإدارة الحكومية والمؤسسات التشريعية والتنفيذية الأخرى في الدولة. ونلحظ تقاسماً للسلطة لم يكن معهوداً أيام الأسد الأب. هذه الحالة الجديدة لم تفرضها ضرورات المواجهة الحادة مع محيطها الإقليمي والدولي، وإنما جاءت تعبيراً خفياً عن تعديلٍِِ في موازين قوى النظام الداخلية.
فليس الرئيسُ بشارُ الأسد صاحبَ القرار الوحيد، وإن بقي في واجهة هذه النواة بحكم منصبه الرسمي. لذلك يسجل عليه، حين يقدم الوعود للآخرين، عجزُه عن الوفاء بها دون موافقة تلك النواة. ولا داعي هنا لذكر الأمثلة العديدة التي أوقعته في ورطاتٍ مع الوسط السياسي والدبلوماسي العربي والدولي.
نلاحظ أيضاً تنامي دور الأجهزة الأمنية وتوسيع دائرة إشرافها على كثير من مفاصل حياة البلاد، بما فيها الإدارية والاقتصادية، حيث أصبحت مرجعية أساسية لتلك النواة، إضافة لكونها الأداة المنفذة.
ونلحظ أيضاً في هذا الإطار ليس فقط شكلانية دور حزب البعث، كما كان الأمر سابقاً فحسب، والذي انحصر فيما مضى بالدعاية السياسية والإيديولوجية للنظام، وأُعطِيَ بعض الصلاحيات ذات الصلة بالدولة، بل نشهد تهميشاً شديداًَ له في هذا الميدان، الذي أضحى في يد النواة وأجهزتها الأمنية. كذلك هي الحال مع الجبهة الوطنية التقدمية والمنظمات الشعبية. ولعلنا لاحظنا هذه الأمور بوضوح حين التحضير لانتخابات مجلس الشعب، وعلى نحو أوضح، أثناء التحضير للاستفتاء على رئاسة الجمهورية هذه السنة.
إن هذه النقلة الكبيرة، التي تميزت، كما أشرنا، في تضييق دائرة القرار، أخذت شرعيتها من قرارات وتوصيات مؤتمر حزب البعث العاشر الذي انعقد في 10/6/2006. هذا المؤتمر صفى أيضاً ما تبقى من طواقم الأسد الأب، وأعاد بناء المؤسسات القمعية. فأتى بعناصر من الضباط أكثرَ شباباً وأكثرَ طواعية وأقلَّ طموحاً. أما الأطقم الأخرى التي احتلت أمكنة الرعيل القديم، فلم تكن تملك الخبرة الإدارية ولا السياسية ولا القانونية التي امتازت بها الأطقم المزاحة. في الممارسة العملية شهدنا تردياً في أداء بيروقراطية الدولة، فازداد تسيب الإدارات، على مختلف اختصاصاتها، ونما الفساد واتسعت دائرته، وتفاقمت أزماتها، وخصوصاً الخدمية منها.
د- من البدع التي تَفضَّل علينا بها المؤتمر العاشر المذكور أعلاه، إفاضته عن الانتقال بالاقتصاد السوري من (الاقتصاد الاشتراكي) إلى (اقتصاد السوق الاجتماعي)، الذي يعني في آخر تحليل، إبقاء السلطة قابضة على الوضع الاقتصادي لخدمة مافياتها، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، تضليل المجتمع بأن (الدور الرعائي الاجتماعي) للدولة باقٍ.
لكن حزمة التشريعات والقوانين التي صدرت قبل المؤتمر وبعده تحت مُسمَّى تحرير السوق، لم تجد طريقها إلى التنفيذ، ما خلا تلك التي وضعت لتخدم مصالح المافيات ذات الصلة الوثيقة بالسلطة. وهكذا بقي الحديث عن اقتصاد السوق والإصلاح الاقتصادي حبراً على ورق. بمعنى أنه لم تنعكس إيجاباً تدابير السلطة وقوانينها الاقتصادية على حياة الناس، بل ازدادت الفوارق الاجتماعية عما كانت عليه أيام الأسد الأب. كما كان من نتائجها تردي الأحوال المعيشية لأغلبية الشعب السوري، حيث يعيش الآن حسب تقديرات بعض الاقتصاديين حوالي 75% من المجتمع عند مستوى خط الفقر، في حين كانت النسبة تتأرجح من 60 إلى 65%.
يشير تقرير مكتب التجارة الداخلية لوزارة التموين الصادر في 21/6/2007، أن أسعار المواد ارتفعت خلال هذا العام إلى ما نسبته 42.7%. وحسب تقدير بعض الاقتصاديين، أن القوة الشرائية للمواطنين انخفضت بما نسبته 37%. وإذا ما افترضنا أن ما أشار إليه الرئيس الأسد في خطاب القسم الثاني، من أن نسبة النمو في سوريا قد بلغت 5.1%، كان صحيحاً، إلا أنه لم يُدْخِل في حسبانه الزيادة السكانية السنوية البالغة 2.4%، عدا عن أن النسبة المذكورة بنيت على الأسعار الجارية. فبعملية حسابية بسيطة علينا أن نحذف من رقم الرئيس الزيادة السكانية ليبقى ما نسبته 2.7%. وإذا أخذنا بالاعتبار نسبة انخفاض القوة الشرائية نكون أمام نمو سلبي لدخل الفرد السوري. فهذا مؤشر إلى ازدياد حدة الفرز الاجتماعي واستئثار فئة قليلة جداً من المجتمع بالناتج القومي، الأمر الذي يدحض أي حديث عن الجانب الاجتماعي لاقتصاد السوق المزعوم، بل يؤكد أن اقتصادنا أضحى اقتصاداً مافيوياً.
هـ- من الأحداث الهامة صدور إعلان دمشق (16/10/2005). إن هذا الإعلان ارتبط بتردي أوضاع النظام، وازدياد قلقه نتيجة تداعيات مقتل الحريري، ومن ثم مقتل غازي كنعان الذي عرف عنه، أن لديه معلومات عن حيثيات هذه الجريمة، التي لم يكن راضياً عن وقوعها، الأمر الذي أدى إلى غيابه عن المسرح السياسي. كما جاء قبل أيام من تقديم رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس تقريره إلى مجلس الأمن الدولي، حيث وجَّهَ اتهامات لسوريين شاركوا فيها.
إن ما يميز حركة إعلان دمشق، أنها ضمت طيفاً واسعاً من أحزاب وقوى مجتمعنا والعديد من فعالياته الاجتماعية والسياسية والثقافية. منها أحزاب كردية من الجبهة والتحالف، والمنظمة الآثورية الديمقراطية وحزب المستقبل وحزب تحالف الوطنيين الأحرار في سوريا، إضافة إلى منظمات من المجتمع المدني مثل لجان إحياء المجتمع المدني وشخصيات وطنية مستقلة، وبعض الناشطين في مجال حقوق الإنسان. وفور إعلان وثيقة هذه الحركة انضمت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا إليها. وقد رحب مطلقو الإعلان بانضمامها. وما لبثت هذه الحركة أن أصبح لها امتدادات داخل الوطن وخارجه. وفيما بعد انضم حزب العمل الشيوعي إليه بعدد ترددات وانتقادات لبعض أفكار الوثيقة التأسيسية.
ومما له أهمية سياسية في هذه المرحلة، أن الإعلان شق الطريق شبه المسدود أمام المعارضة الديمقراطية بانضمام قوى عديدة لها وزن سياسي واجتماعي وثقافي، في الوقت الذي لم يستطع التجمع الوطني الديمقراطي خلال السنوات الماضية المديدة، أن يجمعها. إذ لم تعد طروحاته السياسية والفكرية قادرة على مواجهة المتغيرات التي تشهدها سوريا، ومجتمعاتنا العربية الأخرى.
من هنا ندرك الأسباب العميقة التي دفعت السلطة إلى ممارسة الضغوط على “اللجنة المؤقتة للإعلان” والشخصيات الجديدة، ومواجهة نشاطاتها، وقمع تحركاتها، بمختلف الأساليب، بما فيها الاستدعاء والمنع من السفر والاعتقال حتى وصل الأمر إلى التسريح التعسفي. فالأجهزة الأمنية تنوع أساليبها في مواجهة الإعلان، بغرض نسفه بشتى الوسائل، بما في ذلك تفكيكه من داخله أيضاً، لتبقى مسيطرة على حركة الشارع..
و – ازداد قمع السلطة حدة مع بوادر أزمة النظام المتعلقة بقضية اغتيال الحريري وتداعياتها. هذا القمع توسع في اتجاهات عديدة، وعرف ارتفاعا في الكم، وتنوعا في الكيف، شمل الأطياف التالية التي نعرضها بالترتيب وفقا لحجم الاعتقالات، وسويات القمع المختلفة التي طالتها: من يتهمون بحمل الفكر السلفي-الجهادي، الأكراد، المعارضة السورية الديمقراطية، ضحايا التقارير المغفلة، التي تتوفر معلومات قليلة عن أصحابها.
أما الاعتقالات على خلفية “السلفية الجهادية” فقد بقيت على وتيرتها المرتفعة، بالإضافة إلى حملات الاعتقال الكبيرة التي تشن بين حين وآخر في أوساط “الإسلاميين” الآخرين، والتي غالبا ما ترتبط بالظرف السياسي الإقليمي. على سبيل المثال، جرى اعتقال المئات في بعض المدن السورية مؤخرا، إثر الاتهامات التي وجهت للنظام بدعم حركة “فتح الإسلام” في لبنان. كما لوحظ خلال الفترة الماضية، ارتفاع معدل الأحكام الصادرة بحق هؤلاء عن محكمة أمن الدولة بشكل لافت، بالتزامن مع “السماح” لبعض المنظمات الحقوقية بالحصول على معلومات مفصلة عن هذه الأحكام، واستصدارها في بيانات صحفية تنشر في الإعلام، وهو ما لم يكن متاحاً قبل عام إلا بصعوبة كبيرة. وهذا يدعم فرضية استخدام هذه الاعتقالات وتلك الأحكام كرسالة سياسية موجهة للخصوم السياسيين إقليميا ودوليا.
وبالتزامن مع محاولات التأثير سلبا على العلاقة بين أطراف المعارضة السورية، من خلال محاولات أمنية ومبادرات “سياسية” من السلطة، استمرت حملات الاعتقال في أوساط الحركات القومية الكردية التي أخذت السلطة تستريب منها بسبب قرب مواقعها من الشمال العراقي أو ارتباطها بالأحزاب الكردية العراقية، وأيضا لما لمسته من قدرة هذه الحركة على التحشيد في الشارع واستنهاضه للمشاركة في أشكال الاحتجاج السلمي الجماعي، والتي انتهت في معظم الأحيان على شكل صدام بين المتظاهرين الأكراد والسلطة تم قمعه بعنف وحشي من قبل هذه الأخيرة.
وعلى صعيد المعارضة الوطنية الديمقراطية، فقد كان إغلاق منتدى جمال الأتاسي للحوار الوطني الديمقراطي، واعتقال أعضاء مجلس إدارته، منتصف عام 2005، نذيرا بتضييق هامش الحراك العام الضيق أصلا إلى حده الأدنى. وتوالت الاعتقالات الفردية إلى أن شنت السلطة حملتها ضد موقعي إعلان دمشق بيروت في أيار 2006، التي انتهت باعتقال عشرة موقعين والحكم على خمسة منهم بأحكام قاسية. وبدءا من ذلك التاريخ جرى استخدام مختلف الوسائل – فضلا عن الاعتقال- لإحكام الطوق على القوى الوطنية الديمقراطية والحد من حراكها قدر الإمكان. فتم فصل موظفين نشطاء من وظائهم، والتنكيل بعائلات النشطاء، وقيادة حملات التشهير الإعلامية ضدهم، ومنع أية اجتماعات علنية للقوى الديمقراطية، وإضافة عشرات الأسماء إلى قائمة الممنوعين من المغادرة …الخ.
بالإضافة إلى ذلك، تم استهداف الحراك الشبابي، حديث العهد بالعمل العام بقسوة ظاهرة، حيث اعتقل ثمانية شبان من فئات ومهن مختلفة، لهم نشاطات فكرية وثقافية متنوعةً، متطلعين إلى الحرية والحداثة، وتأسيس عمل ديمقراطي مستقل. فتعرضوا للتعذيب الشديد وحكم عليهم بأحكام قاسية تراوحت ما بين 5-7 سنوات. واعتبر هذا الحكم رسالة للشباب ضد أي نشاط محتمل. كما جرى استدعاء العديد من الشبان الذين كانوا يشاركون في حلقات حوارية شبابية مغلقة، وتهديدهم من أجل وقف أي نشاط لهم. وهناك العديد من حالات الاعتقال الفردية لشبان على أطراف الحراك الديمقراطي العام.
جدير بالملاحظة هنا أن الأغلبية العظمى من المعتقلين الشباب هم من خارج أحزاب ومنظمات القوى الديمقراطية السورية القائمة على الأرض. وهذا أمر طبيعي، لرغبة الجيل الشاب في خلق تجربته الخاصة من جهة، فإنه من جهة أخرى يعطي دلالات على عدم ثقة وقناعة الشباب بقوى الحراك القائم والافتقار إلى لغة التواصل والحوار بين الأجيال القديمة في المعارضة والأجيال الناشئة التي تحمل الهم العام. وقد ظهر بوضوح، ضعف التضامن مع هؤلاء الشباب على مختلف الصعد الإعلامية والقانونية والمادية والاجتماعية من المعارضة. لكن السلطة كانت أكثر”اهتماماً” بهم!، فقمعتهم على نحو أشد. فالأحكام القاسية بحقهم دليل على صحة ما نقول.
بالإضافة إلى الضحايا المباشرين لهذا القمع، فقد انعكست نتائجه على الحركة الحقوقية السورية التي شهدت خلال العامين الماضيين الكثير من الخلافات والتشظي وحملات التشهير المتبادلة، حتى كادت أن تصبح كل منظمة جزيرة معزولة عن الأخريات. فأثر سلباً إلى حد بعيد على أداء هذه الحركة وقدرتها على نصرة ضحايا الانتهاكات. وقد برز ذلك بشكل جلي أثناء أزمة معتقلي إعلان دمشق بيروت التي صاحبها لغط كبير في تعامل بعض النشطاء والمنظمات معها، تمثل أساساً في تصدي البعض لدور الوسيط بين المعتقل والسلطة، وتضارب الآراء ما بين اعتماد الجانب القانوني أو السياسي في الدفاع، وغير ذلك من عثرات. كما ظهر جليا الدور الذي تلعبه السلطة في تفكيك الحركة الحقوقية من الداخل عبر استزلام بعض النشطاء، ودفعهم للقيام بدور سلبي، يساهم في إضعاف الحركة، ومنعها من أداء دورها المفترض.
لم تقتصر السلبيات في التعامل مع حملات القمع المتكررة على المنظمات الحقوقية، بل امتدت لتشمل جميع تيارات المعارضة الوطنية.
على سبيل المثال ومقارنة باعتقالات “ربيع دمشق”، شهد تضامن تيارات المعارضة المختلفة مع معتقلي السنتين الأخيرتين، وأحد أبرز أشكاله حضور المحاكمات الذي يحمل دلالات عديدة إنسانية وحقوقية وسياسية، شهد تراجعا كبيرا من حيث الكم أولاً، وانتقائية في التضامن ثانياً، حيث غالبا ما اقتصر الحضور – مع استثناءات قليلة- على المقربين من المعتقل أو أفراد حزبه أو منظمته. وينطبق ذلك على التضامن مع معتقلي الأكراد، الذين يندر أن يحضر محاكماتهم نشطاء “عرب”. هذا بالإضافة إلى مواقف بعض “رموز” المعارضة وشخصياتها – وأحيانا أحزابها- من بعض المعتقلين، والذي تجلى بشكل سلبي للغاية، انطلاقا من خلاف في الرأي مع المعتقل، وهو ما ولد انطباعا سلبياً، وأكد محدودية فهم بعض الأطراف في المعارضة لمفاهيم الوطنية والديمقراطية وحقوق الإنسان وقبول الرأي الآخر المختلف معه.
ز- هناك مسائل اجتماعية عديدة متفاقمة، قديمة وحديثة، ارتبطت بسياسات السلطة بعد انقلاب الثامن من آذار وحتى الآن، لكنها سارت نحو التفاقم منذ استلام حافظ الأسد السلطة. “راجع مقدمة التقرير السياسي، الصفحات 44 – 48 من كراس وثائق المؤتمر السادس”. وتزداد الآن تفاقماً بسبب تراكم الأزمات وتعقدها وتشابكها من مختلف نواحيها المعيشية والاجتماعية والسياسية. كذلك نشهد ظاهرة تغول الأجهزة القمعية مكان الدولة في كل شئون المجتمع، ونمو الفساد، ونهب المافيات، واستفحال سياسات التمييز بين المواطنين على أساس مذهبي وطائفي وإثني ومناطقي أيضاً، الأمر الذي يعمق الشرخ في النسيج الوطني للبلاد. إن العلاقات بين مكونات المجتمع والقوى السياسية المعارضة وبين السلطة وصلت إلى درجة من التأزم، لم يعد بالإمكان حلها بسهولة. فتناقضات السلطة في علاقاتها مع لبنان والنظام العربي والمجتمع الدولي والشرعية الدولية تداخلت مع الأزمة الداخلية القائمة، الأمر الذي قد يعرض بلادنا للمخاطر كالتي تعرض لها جيراننا العراقيون واللبنانيون. فكيف إذا أدخلنا إليها أيضاً مسائل الصراع العربي الإسرائيلي ودور إسرائيل العدواني والمخرب؟! وكذلك التدخل الإيراني السلبي في الشأن العربي، والذي نلمسه بوضوح في العراق ولبنان وفلسطين، كما أشرنا في بداية هذا التقرير؟!.
ح- لعل أكثر ما يقلق المواطنَ السوريَّ أموراً أربعةً: أولها) عجز النظام، بل إعراضه عن إيجاد الحلول الناجعة لهذه الأزمات. وثانيها) لجوؤه إلى العنف العاري لمواجهة أي اعتراض أو نقد لهذه الحالة المأزومة. فهو يجمع إلى جانب عنفه عجزَه وشيخوختَه، فانطبق عليه قول الشاعر: أسد علي وفي الحروب نعامة. وثالثها) أن المواطن، وإن كان يتعاطف مع المعارضة بقلبه، إلا أنه لا يجدها تأخذ بيده، فهو أمام حالة ضعف أخرى لا تشجعه على الانضمام إلى صفوفها، بل تثير فيه الإحباط واليأس والإعراض. وربما، حين يجد الأوضاع المتفجرة من حوله، يستكين ويرضى بما هو فيه من بؤس وفاقة ومعاناة. ورابعها) في حالات الإحباط هذه، يلجأ إلى ربه، عسى أن يخلصه من البلاء الذي يعيشه. هنا تتلقفه أوساط عديدة من أصحاب التوجهات الإسلامية المتنوعة، والتي في عدادها، من يتعاون مع السلطة، أو من يدعو إلى (العنف والعمل الجهادي)، تحت دعاوى كثيرة، منها أن كل التيارات التي مرت على المجتمع والسلطة قد فشلت في حل مشاكل المواطنين، كاللبراليين والقوميين والاشتراكيين. لقد انتشرت مراكز وتجمعات كثيرة على مستوى سوريا والمنطقة، فتشكلت نتيجة ذلك بؤر إرهابية في أفغانستان والعراق والصومال الخ…
ط- في ظروف تفجر الوضع في المنطقة، وخصوصاً بعد احتلال العراق، أخذت السلطة السورية تستغل هذه الحركات لترسلها إلى العراق أو لبنان، مشترطة على العابرين عدم العودة، وإلا تعرضوا إلى الاعتقال أو القتل. إن الغرض من هذا السلوك، تخفيف وطأة الضغط الدولي عليها، والحفاظ على دورها الإقليمي كقوة أساسية بإمكانها المساهمة في “إطفاء الحرائق”، وبالتالي، الدخول في مساومات إقليمية ودولية يجنب نظامها المخاطر التي تعرضت لها بعض البلدان، وبالتالي تُبقي الأزمة خارج حدودها.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا تلجأ السلطة إلى مثل هذه التنظيمات غير المأمونة الجانب. ألا يمكن في ظروف أخرى مغايرة حين تحتدم معركتها مع محيطها العربي والدولي وتفشل في سياساتها المغامرة، ألا يمكن لهذه التنظيمات التي تمتلك الخبرة في التخريب والتفجير وإثارة الفوضى، أن ترتد عليها، خصوصاً أن الجانب العقيدي لديها على نقيض في العمق مع سياساتها التقليدية التي سارت عليها؟. إن الإكثار من المغامرات غير المحسوبة لا يمكن في النهاية إلا أن ترتد على أصحابها. لذلك ستفشل السلطة في إعطاء سياساتها غطاءً إسلامياً كما فشلت في إعطائها غطاء قومياً ووطنياً في الوقت نفسه.
إن الكوارث التي أصابت العديد من المجتمعات العربية، كلبنان والجزائر والصومال والعراق وأخيراً فلسطين، ماهي إلا نتاج السياسات التي قامت على الظلم الاجتماعي والاضطهاد السياسي والنهب الاقتصادي من جانب حكام ضربوا عرض الحائط بمصالح مجتمعهم، واستخدموا العنف في مواجهته تحت شعارات زائفة، تمكنوا من تمزيق النسيج الوطني لمجتمعاتهم، فأرجعوه إلى مستوى ما دون الدولة دينياً وطائفياً وإثنياً بل وقوميا، وهذا ما سبب الصراعات الداخلية والحروب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد. ورغم أن بعض أولئك الحكام تمكنوا من إطالة أمد حكمهم بفضل هذه السياسة الخرقاء معتمدين على فئة من أبناء وطنهم ضد فئة أخرى، إلا أنهم في النهاية خرجوا من السلطة تاركين البلاد خراباً يباباً مستباحة من قوى النهب والإرهاب والفساد والتخلف، وجعلوها لقمة سائغة للقوى الإقليمية والدولية، وأطماعها ومخططاتها.
إن التجربة التاريخية التي مررنا بها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حين حصلنا على الاستقلال الوطني وبدأنا بإقامة الدولة الوطنية الحديثة، وحاولنا تجاوز حالة التخلف الموروثة تاريخياً، دخلت بلادنا العربية والشرق الأوسط عموماً في مآزق عديدة، جعلت المؤسسات الجديدة الناشئة عاجزة عن التنمية والتحديث، بسبب تخلف البنى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والموروث الثقيل من قرون الاستبداد والانحطاط، وبسبب الدور السلبي للخارج المتأثر بمصالحه الضيقة والمنحاز لإسرائيل، وبسبب الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، والصراع على مناطق النفوذ.
إن احتدام الصراع بين إسرائيل وبين البلدان العربية المجاورة وازدياد عدوانيتها “نشوء إسرائيل، هزيمة 48، حرب السويس56” وتعثر ولادة الدولة الوطنية الحديثة، دفع العسكر إلى سدة السلطة في سوريا ومصر والعراق. وتتالت عليهما على مدى نصف قرن أنظمة استبدادية قمعية همشت دور المجتمع، ووصل الوضع العربي بعد سلسلة من الانهيارات إلى ما وصلنا إليه الآن. فشلت تلك الأنظمة في تحقيق شعاراتها البراقة البديلة كالتحرير والوحدة العربية والاشتراكية والحرية، ووصل التمزق العربي إلى مدى بعيد طال نسجه الاجتماعية. في هذه الظروف المعقدة لا يمكن انتشال المجتمعات العربية من مستنقعها دون إعادة النظر بالمرحلة السابقة من كل جوانبها، بعد سقوط الأقنعة عن الأنظمة العسكرية الاستبدادية، وفقدان شرعيتها “الثورية” المدعاة.
إن التبدلات العميقة التي جرت على المستوى الدولي والمؤثرات الموضوعية للعولمة علينا، لا بد أن تدفعنا إلى إعادة النظر بالتجرية التاريخية التي مررنا بها خلال نصف القرن الماضي. فإذا قرأناها جيداً ستعيدنا من جديد إلى طرح مسائل الحرية والديمقراطية والتنمية والتحديث كأسس لا بد منها لبناء الدولة الوطنية الحديثة، والبحث عن الأشكال التي تقرب بين المجتمعات العربية التي فرقها حكامها، كخطوة أولى لتحقيق التقارب بين البلدان العربية وإزالة الحساسيات فيما بينها، بل ومحاربة نزعة العداء أيضاً التي تنامت بين بعضها البعض، وإعادة اللحمة إليها، وحل الخلافات مع دول الجوار، واعتبار صراعنا مع إسرائيل محكوما بالنهوض الوطني الشامل، وبميزان القوى الدولية والإقليمية، الذي اختل وما يزال مختلاً لصالحها، الأمر الذي يتطلب تغييراً جذرياً في المسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والمعرفية، لإنه صراع له بعد تاريخي وحضاري كبير.
2- مؤثرات النظام العربي والإقليمي والدولي على سوريا:
إن الأحداث التي تتالت على المنطقة العربية والشرق الأوسط، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانفراد الولايات المتحدة بزعامة العالم، وبعد تعرضها لأحداث 11 إيلول 2001، جعلت معظم الدول العربية المستبدة، ملكية كانت أم جمهورية، مكشوفة، تواجه ضغوطاً جمة من الولايات المتحدة وحلفائها لإعادة النظر بأوضاعها الداخلية، ومحاربة التنظيمات الإرهابية وتجفيف منابعها الفكرية ومصادر تمويلها، وتخفيف قبضتها القمعية تجاه مجتمعاتها ومعارضيها، وإعادة النظر بمناهجها الدراسية الدينية، خصوصاً في دول الخليج. ثم تتالت الأحداث على نحو دراماتيكي، انتهت باحتلال كل من أفغانستان والعراق.
جاءت نتائج احتلال العراق، مفاجئة للنظام العربي كله، لتضعه أمام حالة صعبة ومعقدة، جعلته أكثر انكشافاً. فأقلقت حكامه، وهزت بناه الداخلية المتكلسة منذ عقود من الزمن. وفتحت مجالاً لتناقضات إقليمية جديدة. فأضافت إلى صراعه التاريخي مع إسرائيل صراعاً خفياً مع الوجود العسكري الأمريكي الضخم داخل دولة نفطية ذات موقع إقليمي هام جداً، وتدخلاً إيرانياً أخذ يتعاظم في العراق، مع تعثر الإدارة الأمريكية فيه، ويستغل الأوضاع اللبنانية المتفاقمة، والوضع الفلسطيني المتمزق، الأمر الذي أدى تدريجاً إلى اصطفاف شيعي سني، أخذ ينتشر خارج العراق.
كما هدد الوجود الأمريكي في العراق سوريا بلداً وشعباً ونظاماً. فالإدارة الأمريكية كما أشرنا في هذا النقرير مارست ضغوطاً سياسية كبيرة على السلطة السورية، التي قدمت خدماتها وإمكاناتها المتوفرة لديها لمساعدة المحتل ضد الإرهاب، متنصلة من سياسات صدام، ومشيرة إلى صراعها القديم معه. لكن الولايات المتحدة لم تكتف بهذا القدر من الخدمات، بل مارست سياسة إملاء متشددة عليها، بغرض تحجيم دورها الإقليمي في العراق ولبنان وفلسطين، علماً أن هذا الدور الذي مارسته، لعقود طويلة، قام برعاية عربية ودولية وخصوصاً أمريكية.
فيما يلي أهم المؤثرات على الوضع السوري:
أ- لبنان:
يمكن القول أن أزمة لبنان مع السلطة السورية مازالت مستمرة. فهي تزداد تفاقماً يوماً عن يوم. ولعلها تعتبر القوة الأولى المعرقلة والمعادية لحرية واستقلال وسيادة لبنان. لقد خسرت ورقة هامة جداً في المعادلة العربية والإقليمية، إضافة إلى انكشافها تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، حيث كانت تحرِّك هذا الصراع من خلال الآخرين، لتبقي جبهتها هادئة في الجولان تحت مسمى “وحدة المسارين”. ومن ناحية أخرى، كانت أيضاً، تثير التوترات في المحيط الخارجي، وتنقل أزماتها إليها، لتبقي وضعها الداخلي المتردي والمأزوم بمنأىً عن أي تدخل أو مساءلة عربية كانت أم خارجية. وحاولت أن تبني في لبنان نظاماً أمنياً عسكرياً شبيهاً بنظامها، لكنها فشلت في نهاية المطاف.
1) رغم نجاح السلطة السورية في زعزعة استقرار لبنان، إلا أن تغييراً عميقاً حدث داخل المجتمع اللبناني وقواه الأساسية، قام على وعي أغلب قياداته للتجربة المريرة، التي تراكمت منذ تفجر الحرب الأهلية ودخول الجيش السوري إلى لبنان، وحتى مقتل الحريري. هذا الوعي أوصلها إلى ضرورة حل تناقضاتها بمعزل عن الوصاية السورية والتدخل الخارجي، وإعادة بناء الدولة اللبنانية وفق اتفاقية الطائف. إن هذا الأمر جعل عرى لقاء الطائفة المسيحية مع الطائفتين السنية والدرزية لا تنفصل، انطلاقاً من التوافق على أن: “لبنان كيان نهائي للبنانيين”. هذا التلاقي يفسر الصبر المر والصمود البطولي في مواجهة كل عمليات الاغتيال، والتفجيرات المتنقلة، والفتن المذهبية والطائفية، لغاية هذه االلحظة. وهكذا فالتعقل والحنكة السياسية، بإمكانهما مواجهة أشد وسائل العنف وكسب المتعاطفين في معركة غير متكافئة.
2) إن تحالف الطوائف الثلاث، المشار إليها، يجد صعوبة في لبننة حزب الله القابض على القرار السياسي للطائفة الشيعية. وهو في الوقت نفسه أسير مرجعية دينية وسياسية وتمويلية لإيران. كما تلتقي مصالحه مع النظام السوري لكون سوريا ممراً لوجستياً له. هذا عدا عن تعاطفه مع سياساته الأخرى، بحيث تجعله ذا وزن أكبر، وطرفاً متميزاً عن الأطراف الأخرى اللبنانية. إن الانسحاب السوري من لبنان، غير من وضعه في علاقته مع تلك الأطراف. إذ كانت سوريا الحامية والراعية له، تجاه بقية الطوائف. فتطبيق اتفاق الطائف في ظل الظروف الجديدة، وخصوصاً بعد عدوان 12 تموز2006، والتوافق على النقاط السبع معه التي كانت الأساس في صدور القرار 1701، يحجمه ويحرمه من الامتيازات التي تمتع بها بصفته قوة مقاومة صمدت أمام إسرائيل. فهو يسعى للحصول على حق الفيتو، من خلال استحوازه على ما سمي بالثلث المعطل في الوزارة، وبالتوافق معه حين البحث عن رئيس جديد للجمهورية، بحيث يكون قريباً منه أو على شاكلة “لحود”. بهاتين الطريقتين يستطيع تغيير صيغة الطائف في الممارسة العملية. فتغيير هذا الاتفاق رسمياً يحتاج إلى موافقة جميع ممثلي الطوائف الموقعة عليه، بل يؤدي إذا ما فُرِضَ على الآخرين بالقوة إلى الحرب الأهلية.
فالواقع اللبناني كما يراه المراقبون يقر أن حزب الله يدير دولة خارج الدولة اللبنانية، هي أقوى منها عسكرياً وتمويلياً، وهو في الوقت ذاته، يسعى إلى مصادرة قرار الحكومة اللبنانية لمصلحته، بجعل قرار الحرب والسلم بيده، وبإمساكه حق الفيتو على القرارات الحكومية التي يعترض عليها. بكلام آخر يريد حزب الله أن يشارك الدولة في شئونها كافة، ويحتفظ بدولته في آن معاً.
3) إن الأحداث التي افتعلتها خلايا فتح الإسلام في طرابلس ثم في مخيم نهر البارد، كانت الأخطر على لبنان. إذ جاءت بعد فشل اعتصام حزب الله وحلفائه في قلب بيروت، الذي استهدف إسقاط الحكومة الشرعية، والذي أدى إلى استقطاب سني شيعي، كاد أن يشعل فتنة كبيرة، لم تكن آنذاك في مصلحة إيران والنظام العربي. لم تكن أصابع النظام السوري بعيدة عن تلك الأحداث، وهيأ لها كل عناصر النجاح بما فيها، تصدير مجموعات إرهابية، أغلبها من الأصوليين الإسلاميين المنتمين لجنسيات عربية مختلفة، يرتبط بعضها بتنظيم القاعدة. كان الغرض الأساسي منها، إقامة إمارة إسلامية في الشمال اللبناني، وخلق صراعات غير محسوبة لبنانية فلسطينية، وتقسيم ابناء المذهب السني، وإبقاء الأجواء مضطربة، الأمر الذي يسهل فيما بعد تبرير إقامة دولة إسلامية شيعية فيه. ولعل أهم هدف للسلطة السورية من إغراق لبنان في الفوضى هو خلق المبررات التي تظهر عجز اللبنانيين عن توفير الأمن لأنفسهم، مما يستدعي عودة سوريا إلى لبنان لفرض هذا الهدف.
كما جاءت هذه الأحداث متزامنة مع قرار مجلس الأمن بإنشاء المحكمة الدولية ذي الرقم 1757، بحيث لا يبقى في لبنان سلطة شرعية قادرة على تنفيذ ما هو مطلوب منها بشان هذه المحكمة.
لم يكن في حسبان المخططين لهذه المؤامرة الكبيرة، أن يظهر تضامن شعبي لبناني كبير، دعم الحكومة والجيش في مواجهة تلك القوى الإرهابية المدججة بالأسلحة المتنوعة والتقنيات والذخائر والمؤن. كما لم يكن في حسبانهم أن ينجح الجيش اللبناني في التصدي لهم، فكانوا يراهنون على فشله بسبب ضعف بنيته العسكرية وفقره في عتاده. ومع أن هذه المعركة قد انتهت، فمازال هناك إمكانية لإثارة بؤر إرهابية كامنة ومتحفزة أخرى وجاهزة للتحرك إذا ما طُلِبَ منها ذلك. لكن هذا الانتصار أضعف معنويات وسمعة قوى حزب الله وحلفائه، بحيث لا تستطيع أن تفجر الوضع من جديد دون إعادة حساباتها، ودون الأخذ بالاعتبار التضامن الدولي والعربي مع اللبنانيين ضد فتح الإسلام. ومن المسائل الخطيرة التي أفرزتها هذه الأحداث، ما حصل عليه الأمن اللبناني من أدلة ومعطيات عن الدور الكبير للمخابرات السورية فيها. فهي من الأهمية بمكان، بحيث لا تلقي الأضواء على دورها المكشوف في هذه الأحداث فحسب، وإنما على المعلومات التي أفاد بها الموقوفون من الإرهابيين، عن بعض الجرائم المرتكبة سابقاً. وهي في الوقت نفسه تسهم في مساعدة المحققيين في تلك الجرائم للوصول إلى الحقيقة.
4) إن هذا العرض للوضع اللبناني، يجعلنا أمام بلد أضحى ساحة للصراعات والتنافس على النفوذ بين المحور الإيراني- السوري وبين “دول الاعتدال العربي” والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. بحيث نجد صعوبة في إيجاد حلول للمسألة اللبنانية بدون توافق الأطراف المذكورة. فأصبحت أكثر تعقيداً، وصارت القوى الداخلية رهينه لها، فلا تستطيع بقواها الذاتية الوصول إلى التوافق. والدليل على ذلك أن الجامعة العربية بعدما قدمت مبادرة معقولة للأطراف المتنازعة، وجدت نفسها مضطرة للاتصال بإيران وسوريا والسعودية، للمساهمة في تذليل تلك الصعوبات. لكن التطورات اللاحقة للجهود الدولية التي مثلها الدور الفرنسي لم تصل إلى نتيجة، بل على العكس زادت الأمور تعقيداً بين الأطراف اللبنانية المتنازعة جعلت إمكانية الوصول إلى انتخاب رئيس بالتوافق صعباً. ويلاحظ هنا رغبة لدى بعض الأطراف الدولية في الضغط على السلطة السورية من أجل المشاركة لإيجاد حل ترضاه سوريا. لكن السوريين كما يلاحظ من تصريحات قادتهم، يميلون إلى المراوغة وتكرار عبارة “نوافق على ما يتوافق عليه اللبنانيون“.
5) أخيراً يعتبر التمديد لرئاسة لحود، فاتحة للقرارات الدولية الضاغطة على سوريا بغرض إخراجها من لبنان “القرار رقم 1559”. لكن الاصرار السوري على البقاء فيه، وضع نفسه بدائرة الاتهام بارتكاب جريمة اغتيال الحريري، وما تبعها من اغتيالات وتفجيرات كثيرة، كان آخرها مؤامرة فتح الإسلام.
لم يتوقع النظام السوري ردود الفعل الواسعة ضد ممارساته في لبنان، والتضامن العربي والدولي معه، والذي قاد إلى تشكيل “لجنة تقصي الحقائق الدولية” القرار 1595. لقد وصف تقريرها؛ تلك الجريمة بالجريمة السياسية، ووجهت الاتهام للجهات الأمنية السورية اللبنانية، وأوصت بتشكيل لجنة تحقيق دولية. وهكذا أصبح النظام السوري موضع اتهام.
لقد صدرت ثمانية تقارير عن تلك اللجنة. كلها تشير، بهذه الدرجة أو تلك، إلى مسئولية النظام السوري تجاه هذه الجرائم، وضرورة التعاون معها للوصول إلى الحقيقة. وفي القرار 1636، دعا مجلس الأمن سوريا إلى التعاون تحت طائلة التهديد بتطبيق الفصل السابع. هذه السلسلة من التقارير والقرارات الصادرة عنه والضغوط الدولية المختلفة عليه، والتي استمرت على ما يزيد عن السنتين، جعلت النظام قلقاً ومرتبكاً. ومع ظهور الكثير من الحقائق عن هذه الجريمة، أخذ سلوكه يميل إلى الممانعة والعناد، حتى وصل مؤخراً إلى اتخاذ قرار برفض التعاون مع المحكمة التي هي في طور التشكيل، حيث صرح وزير الخارجية وليد المعلم أن “لا علاقة لنا بهذه المحكمة، ونحن غير معنيين بها“.
6) إن استمرار سلوك السلطة في دفع لبنان إلى الانفجار، والمترافق مع الإعلان عن مقاطعة المحكمة الدولية، والمتوقع أن تمارس مهامها في العام القادم، سيجعل النظام في أوج صدامه مع المجتمع الدولي، ومع النظام العربي المتعاطف مع لبنان والمؤيد للمحكمة الدولية، الأمر الذي يضعه موضع التهديد المباشر بموجب الفصل السابع. هذا التهديد من الصعب تلمس مداه، أو تلمس القرارات التي ستصدر عن مجلس الأمن التي قد تصل إلى درجة استخدام القوة، كما جرى مع يوغوسلافيا. ولا شك أن قطع الجسور في مثل هذه الحالة سيفقد سوريا أية إمكانية للتعاطف معها. ولا شك أيضاً أن هذه الحالة الحرجة جداً للنظام، ستنعكس على الأوضاع السورية الداخلية سلباً، سواء أكان ذلك من سلوك السلطة أو من نتائج قرارات مجلس الأمن. والسؤال الأساسي المطروح الآن، مما تبقى من وقت قصير، هل يمكن أن تتحقق معجزة ما، توفر على سوريا كارثة، كالتي حصلت لبلدانٍٍ، حكامها عاندوا قرارات الشرعية الدولية؟!.
ب- العراق
1) اشتغل النظام السوري بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وخصوصاً بعد المطالب الأمريكية التي قدمها وزير خارجيتها السابق كولن باول، وصدور قانون محاسبة سوريا، اشتغل على لعبة مزدوجة. فهو من جهة استمر على تقديم المعلومات الأمنية، وساعد على تسليم بعض القادة البعثيين الفارين إلى سوريا، ومن جهة ثانية، سهل وساعد على تسلل الإرهابيين إلى الداخل العراقي، وأقام مراكز تجميع وتدريب لهم، إضافة إلى إقامة صلات مع بعض شيوخ العشائر. كل ذلك بهدف إشعار الأمريكيين، أن التفاوض مع سوريا لتهدئة الأوضاع العراقية ثمنه الإعتراف بدورها الإقليمي.
2) هناك مقاربتان مختلفتان للحليفين الإيراني والسوري في الشأن العراقي. فالإيرانيون سهلوا للأمريكان احتلال العراق كما فعلوا في أفغانستان. فالقضاء على النظام الصدامي يخلصهم من عدو تاريخي، شكل سداً أمام محاولات مد نفوذهم إلى البلدان العربية. كما فتح مجالاً للتدخل في الشئون العراقية الداخلية، اعتماداً على نفوذهم في التنظيمات والميليشيات الموالية لهم.
أما السلطة السورية فكانت قلقة جداً من التهديد الذي يشكله الوجود العسكري الأمريكي على امتداد حدوده الشرقية، عدا عن أن سقوط البعث العراقي نذير شؤم للنظام البعثي المتبقي في سوريا. فالمصلحة السورية اقتضت عرقلة الاحتلال ومنعه ما أمكن من بسط سيطرته على العراق.
فالتوجه الإيراني عمل على توطيد مواقع الشيعة الموالين لها، فسيطرت على أجهزة الأمن والجيش والنفط والكثير من إدارات الدولة. كما قوى الميليشيات الشيعية الموالية، وأسس ميليشيات أخرى، من أجل إحكام قبضتهم على مفاصل الدولة لتحديد مستقبل العراق. كما يلعب دوراً في إثارة التناقضات بين قيادات الميليشيات الطامحة إلى توسيع دوائر نفوذها كالتيار الصدري وتيار الحكيم. بهذه الطريقة يبقى الجانب الإيراني مرجعية أساسية لحل الخلافات والصراعات فيما بين هذه الأطراف.
ومن الأمور الخطيرة التي يدفع بها الجانب الإيراني بشكل غير مباشر، تطبيق بند من الدستور متنازع عليه، ألا وهو إقامة فدرالية مكونة من ثلاثة أقاليم: في الجنوب الشيعي، والوسط السني، والشمال الكردي، الأمر الذي قد يؤدي في ظروف الاحتلال وتعارض المصالح الضيقة بين مكوناته الأساسية إلى مزيد من الصراع والعنف الطائفي والقومي يؤدي إلى تفكك العراق. لكن النظام السوري يقف ضد هذا التوجه، لسبب رئيسي أن تفكك العراق، يؤدي إلى قيام دولة كردية في الشمال العراقي، سوف يدفع بغلاة القوميين الأكراد إلى الدعوة لقيام ما يسمونه “كردستان الغربية” شمال سوريا. فهذا الأمر موضوعياً مستبعد، لا تسمح به الظروف الإقليمية، بسبب رفض تركيا وإيران وسوريا قيام دولة كردية على أجزاء من أراضيها.
3) إن أزمة الاحتلال الأمريكي للعراق، تعود إلى عوامل عديدة أمريكية وداخلية وعربية وإقليمية ودولية. تفاعلت كلها في إضعاف سياسة بوش تجاه العراق والمنطقة، وهذا ما دفعه بعد انتصار الديمقراطيين في الكونجرس وصدور تقرير هاملتون – بيكر إلى إعطاء دور أكبر للدبلوماسية الأمريكية في معالجة الأزمة العراقية. من هنا انفتح الطريق نحو تحركات متنوعة تجاه دول الجوار العراقي خصوصاً إيران وسوريا، لإشراكهما في إيجاد مخارج سياسية من شأنها توفير مصالحة داخلية بين مكونات الشعب العراقي، ترسي الأساس لاستتباب الوضع الأمني فيه، وتعزل القوى الإرهابية كالقاعدة والصداميين، وتضع حداً للميليشيات الشيعية.
أتاحت التداعيات أعلاه إمكانية للنظام السوري بفتح ثغرة في جدار العزل المفروض عليها من قبل أمريكا، بدءً من إتاحة الفرصة لها حضور مؤتمر دول الجوار العراقي في شرم الشيخ، ومن ثم لقاء وليد المعلم وكوندوليزا رايس. وكان هذا اللقاء الأول على هذا المستوى منذ سحب السفيرة الأمريكية من دمشق. ومازال الطرح الأمريكي ذاته قائماً على أن يبقى الدور السوري منحصراً في ضبط حدودها مع العراق، ومنع تسلل الإرهابيين، وإقفال مراكز التجمع والتدريب، ومعالجة شئون اللاجئين العراقيين في سوريا.
لكن الأمريكان يجدون أن لإيران دوراً أكثر أهمية في تخفيف الوطأة عليهم في العراق، لذلك اتجهوا إلى مفاوضات مباشرة معهم على مستوى سفيريهما في بغداد. أثارت اللقاءات الأمريكية الإيرانية والأمريكية السورية، هواجس الحليفين تجاه بعضهما البعض، مخافة أن يعقد أحدهما صفقة مع الأمريكيين على حساب الآخر.
ج- فلسطين
1) أدى فوز حماس في الانتخابات التشريعية (كانون الثاني 2006) إلى تطورات دراماتيكية حادة في الوضع الفلسطيني، وخصوصاً بين حماس وفتح التي لم تتقبل هذه الهزيمة. كان رد فعل السلطة السورية لهذا الفوز ترحيباً حاراً، بسبب عمق علاقاتها مع قيادات حماس المتنفذة والمقيمة في دمشق، والعداء الذي كان يكنه حافظ الأسد لياسر عرفات، الذي رفض أن يجعل القرار الفلسطيني بيده. لكن الأمر الأهم يكمن في أن حليفاً جديداً (حركة حماس) انضم إلى المحور السوري الإيراني. هذا الحليف أضحى في السلطة الفلسطينية الشرعية، حيث بالإمكان التنسيق معه في مسائل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بما يخدم مصالح هذا المحور.
2) كانت ردود الأفعال العربية والإسرائيلية والأوروبية والأمريكية سلبية ضد أول حكومة شكلتها حماس منفردة. نتج عنها جملة من العراقيل أمام استلامها السلطة، أبرزها فرض حصار اقتصادي وسياسي ودبلوماسي عليها. فاوقفت إسرائيل توريد ما جبته من ضرائب مستحقة للسلطة الفلسطينية، واشترطت للتعامل مع الحكومة الجديدة الاعتراف بها وبما وُقِّع من اتفاقات معها. ورفضت أيضاً الدول العربية “المعتدلة” (الأردن، مصر، السعودية) التعاون بإيجابية مع الحكومة، ووصل الأمر إلى حد عدم استقبال رئيسها في عواصم البلدان الثلاثة. فدفع حماساً إلى الارتماء أكثر فأكثر في المحور السوري الإيراني للحفاظ على الدعم السياسي والمالي واللوجيستي.
3) جاء اتفاق مكة لإيجاد تسوية سياسية تضع حداً لتفاقم الوضع الفلسطيني الداخلي في الصراع على السلطة بين فتح وحماس، الذي وصل إلى مستوى اقتتال ميلشياتهما. فذهب ضحيته مئات القتلى وآلاف الجرحى. وقد نص الاتفاق على إقامة حكومة وحدة وطنية، والعمل على إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، واعتبار الدم الفلسطيني محرماً عليهما. لم تساعد الأطراف الخارجية على تطبيق هذا الاتفاق، حيث استمرت في مقاطعتها لوزراء حماس في حكومة الوحدة الوطنية الوليدة، كما استمر الحصار على حماس، وبقيت الأمور المالية محصورة بيد رئيس السلطة محمود عباس. وتابع الجيش الإسرائيلي توغلاته واغتيالاته لكوادر حماس في غزة. أدت كل هذه التطورات إلى تقوية الجناح المتشدد فيها، فلم يجد، بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على توقيع الاتفاق، نتائج على الأرض، فبقيت محاصرة داخل غزة، لا بل ضعفت سلطتها الشرعية. وهذا ما دفعها إلى الانقلاب على الاتفاق، والسيطرة على القطاع، وإنهاء وجود مؤسسات الرئاسة الفلسطينية، بما فيها مقرات الأمن الوقائي، والوجود المسلح لحركة فتح. في المقابل لم يعترف عباس بهذا الانقلاب، واعتبره خروجاً على الشرعية. فحل حكومة الوحدة الوطنية وشكل حكومة مؤقتة برئاسة سلام فياض، ودعا إلى انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة.
4) لا يمكن تفسير انقلاب حماس بالصراع على السلطة وحده. علينا أن نربطه بالوضع الإقليمي المتفجر. لقد جاء بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين بالعراق، وأحداث نهر البارد في لبنان، والاجتماع الذي انعقد في دمشق وضم مسئولين من إيران وحزب الله وحماس وبعض الفصائل الفلسطينية، هذا عدا عن خطاب الرئيس بشار الأسد، بمناسبة اللقاء مع الإعلاميين الذي هدد فيه بانفجار شامل للمنطقة.
5) باعتقادنا أن كلام حماس عن فساد السلطة وأجهزتها الأمنية والفلتان الأمني والأداء السياسي للرئاسة في التعاطي مع التسوية ومختلف القضايا مع المحتل الإسرائيلي وحليفته الولايات المتحدة، لا يعطيها مبرراً مقنعاً لانقلابها، فهي تتحمل مسئولية كبرى تجاه قضية أكبر، وهي ضرورة وحدة الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال. إن تداعيات الأحداث الأخيرة، تكرس الانقسام السياسي والجغرافي على ما تبقى من أرض فلسطين، بسبب من التدابير الإقصائية التي قامت بها كل من حركتي فتح وحماس، والتي تؤدي إلى ضياع القضية الفلسطينية وقيام دولتين ضعيفتين تحت سيطرة الدولة الإسرائيلية.
6) لم يعترف بانقلاب حماس سوى إيران وسوريا، التي دعت إلى الحوار بين الأطراف المتنازعة باعتباره مدخلاً لأي محادثات من أجل التسوية الفلسطينية الإسرائيلية. في المقابل انصبت الجهود العربية والدولية والإسرائيلية لدعم عباس وحكومته في رام الله، فسلمت إسرائيل جزء من مستحقات الفلسطينيين المالية إلى عباس، وأفرجت عن أسرى معظمهم من فتح. وتوجت هذه الجهود بمبادرة بوش الأخيرة، لعقد اجتماع دولي في آنابوليس قبل نهاية العام لإيجاد حل دائم للقضية الفلسطينية بإقامة دولتين على أرض فلسطين التاريخية.
7) من أجل إعادة توحيد الضفة والقطاع، لا بد من حوار بين فتح وحماس، تشارك فيه جميع التنظيمات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة. وعليه أن يأخذ بالاعتبار مصلحة الشعب الفلسطيني العليا أولاً، وضرورة تخلي حماس عن طروحاتها العقائدية وإعطائها الأهمية للعمل السياسي خصوصاً بعد وصولها إلى السلطة. وعليها أيضاً أن تعتذر من الشعب الفلسطيني وعائلات الضحايا عما ارتكبته ميليشياتها. وعلى فتح أن تدرك أنها ليست الجهة الوحيدة المحتكرة لتمثيل الفلسطينيين. ولا بد أن تطهر تنظيمها من الفاسدين والمترهلين، وتتدارك أخطاءها وتجديد شبابها.
8) إن المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا تتطلب بذل الجهود من أجل عودة الوحدة إلى الصف الفلسطيني في مواجهة إسرائيل التي تستغل هي والولايات المتحدة هذا الصراع لتصفية القضية الفلسطينية، من خلال المشاريع المشبوهة، التي لا تأخذ بعين الاعتبار المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة على الأراضي المحتلة بعدوان حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشريف وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وإن أي سياسة أخرى تكرس الانقسام الفلسطيني، وتقيم كيانات مجتزأة لأي سبب كان، ستقود حتماً إلى استمرار معاناة الشعب الفلسطيني، وتبعده عن تحقيق أهدافه المشروعة.
د- النظام الدولي والعربي ودول الجوار:
1- كشفت الحرب العراقية حدود القوة الأمريكية، بمعنى أن الولايات المتحدة بقوتها العسكرية الطاغية، وإن احتلت العراق خلال ثلاثة أسابيع، إلا أنها بعد أكثر من أربع سنوات، لم تتمكن من تحويل انتصارها العسكري على النظام السابق إلى انتصار سياسي. وهذا ما سبب لها إشكالات كبيرة داخلها وعلى المستوى الدولي والإقليمي. وبسببها، اضطرت الإدارة الأمريكية إلى اتباع سياسات جديدة من شأنها أن تحفظ هيبتها، وتشرك لاعبين دوليين آخرين، كانت لهم مواقف متنوعة إزاء العراق، داعمة من جهة، أو متحفظة أو معارضة من جهة أخرى، لإيجاد حلول لأزمات المنطقة (العراق وفلسطين ولبنان). لكن هؤلاء لا يجدون مصلحة في إلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة. فمصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والنفطية وخصوصاً الأمنية ، تتشابك معها. فهؤلاء جميعاً لهم مصلحة في إبقاء العمل المشترك، وإن بطرق أخرى، ضد الحركات الإسلامية المتطرفة.
2- ما نلحظه الآن من التحركات الدولية الأخيرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أن الاتجاه العام يميل أكثر فأكثر نحو العمل السياسي والدبلوماسي لمعالجة قضايا العراق والمنطقة بما فيها تسوية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
لكن المسألة الأساسية لدى هؤلاء تتعلق بالموقف من إيران. ولعل الموقف من الملف النووي الإيراني هو الأكثر أهمية لدى المجموعة الدولية التي أعطت الترويكا الأوروبية ومجلس الأمن مضافاً إليها ألمانيا تفويضاً في إيجاد حلول سلمية بالاستناد إلى حزمة الحوافز المقدمة من مجموعة الدول (5+1)، علماً أن الحديث عن استخدام القوة مازال مستمراً، كأحد أشكال الضغط العسكري لتسهيل هذه العملية. وكذلك تحديد المصالح الإيرانية في منطقة الخليج، ووضع حد للتدخل بالشئون الداخلية لدول المنطقة.
المسألة الهامة الثانية إيجاد تهدئة للوضع العراقي المتأزم وتوفير أجواء المصالحة بين الأطراف العراقية المتصارعة، عن طريق إشراك دول الجوار وخاصة إيران وسوريا. وهذا ماتحقق في اجتماع شرم الشيخ 4/5/2007، الذي عقد على مستوى وزراء خارجية الدول المجاورة للعراق ومصر والبحرين والدول دائمة العضوية في مجلس الامن والدول الثماني، وبمشاركة الامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي وجامعة الدول العربية والاتحاد الاوروبي والذي دعى إلى “مساعدة الشعب العراقي وحكومته في البناء على التقدم الذي حققته الحكومة والبرلمان الوطنيين، ودعم جهودهما في تقوية (الروح) الوطنية والاستقرار الداخلي وتحقيق المصالحة الوطنية وتعزيز استقلال العراق وسيادته.
وكذلك كان اجتماع وزيرة الخارجية رايس مع وزير الخارجية وليد المعلم مخصصاً لبحث الشأن العراقي فقط، دون التطرق إلى الملفات الأخرى. ثم عقد اجتماعان في بغداد على مستوى سفيري أمريكا وإيران في العراق، وفي دمشق اجتمعت اللجنة الأمنية المنبثقة عن مؤتمر شرم الشيخ بغياب السعودية في 8/8/2007، وبحثت مسائل ضبط الحدود بالأساس. ثم تبعها مؤتمر لدول الجوار العراقي في اسطنبول في تشرين الثاني 2007.
ومن التوجهات الجديدة أيضاً إعطاء دور هام للأمم المتحدة في إنجاح العملية السياسية في العراق، تمثلت في إصدار مجلس الأمن القرار رقم 1770 بتاريخ 10/8/2007، الذي يزيد مسئوليات بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، ويطالب التفويض الجديد لمجلس الأمن البعثة بتقديم “المشورة والدعم والمساعدة للعراقيين”، و”دفع حوارهم السياسي الشامل والمصالحة الوطنية قدماً”، ومراجعة دستورهم وترسيم حدود المناطق، وتنظيم إحصاء رسمي للسكان. وستعمل البعثة أيضاً على دعم المباحثات بين العراق وجيرانه بخصوص أمن الحدود والطاقة واللاجئين، والمساعدة على عودة الملايين الذين فروا من العنف، فضلاً عن تنسيق جهود إعادة الإعمار والمعونة والمساعدة في دعم الإصلاح الاقتصادي.
ومن أجل تسوية القضية الفلسطينية، فقد اقترح الرئيس الأمريكي جورج بوش، في خطابه بمناسبة الذكرى الخامسة لإعلان ما يعرف بـ”رؤية بوش” للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بقيام دولتين على الأرض الفلسطينية 16/7/2007، عَقد اجتماع دولي في آنابوليس يضم (أطراف الصراع والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن والأمم المتحدة و”دول الاعتدال العربي”)، برئاسة رايس لإيجاد حل لها قائم على رؤيته في قيام دولتين قبل نهاية العام الحالي. بهذه المقاربة يكون بوش قد أخذ بتوصية هاملتون بيكر الداعية إلى تسوية القضية الفلسطينية لتسهيل المسألة العراقية.
وهناك تحركات ومبادرات عربية وفرنسية تجري بالتنسيق مع الولايات المتحدة لتمرير الاستحقاق الرئاسي بانتخاب رئيس متوافق عليه من جميع الأطراف في لبنان، والعمل على إيجاد حلول متوازنة تحفظ للبنان استقلاله وسيادته وحريته.
3- ومن المتغيرات الجديدة في معالجة مشاكل الشرق الأوسط، عودة الولايات المتحدة إلى سياسة الاحتواء واستخدام بعض من استراتيجيات الحرب الباردة، حيث تعمل على إنشاء حلف من “دول الاعتدال العربي” المكونة من دول مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى مصر والأردن (6+2)، لمواجهة “إيران وسوريا وحزب الله وحركة حماس وتنظيم القاعدة”، وفق تعبير رايس، تحت شعار مكافحة الإرهاب: أي استخدام القرار الدولي رقم 1373 عام 2004، المفعل تحت الفصل السابع. قام بتسويق هذه المهمة كل من رايس ووزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس خلال زيارتهما للمنطقة في 30/7/2007، ترافق ذلك مع الاعلان عن مساعدات عسكرية ضخمة لكل من مصر وإسرائيل 13 مليار دولار للأولى و30 مليار دولار للثانية، وصفقات تسليحية لدول الخليج وخاصة السعودية بقيمة 20 مليار دولار. هذا الدعم العسكري يتضمن توريد آخر منجزات التكنلوجيا العسكرية الأمريكية ذات الطبيعة الهجومية، بما فيها أنظمة السيطرة والاتصال والقنابل الذكية الموجهة من الأقمار الصناعية. فقدرات هذا الحلف العسكرية ستتفوق على الجيش الإيراني الذي لا يملك سوى قدرات عسكرية دفاعية متخلفة عن التكنلوجيا الحديثة.
سوف نشهد سباقاً للتسلح، لا تستطيع إيران تحمل تكلفته لأنه سيرهق موازنتها ويزيد من مصاعبها ويخلق اضطراباً في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، هذاعداعن تأثير الحصار والعقوبات الاقتصادية الواقعة عليها.
وبناء عليه نرى هناك مراحل قد قطعت في هذا الحلف حيث انتقل من مرحلة الاعداد السياسي والدبلوماسي إلى مرحلة عقد الاتفاقات العسكرية. فالإدارة الأمريكية راهناً تعمل على تفعيل دوره بشتى الوسائل والأساليب بموازاة الضغط الأمريكي المتنوع.
4- نتيجة ما سبق تتجه المنطقة نحو استقطاب إقليمي معزز بدعم أمريكي وأوروبي، مما يجعل الحلف الإيراني السوري وملحقاتهما أمام منعطف خطير، تقل الخيارات أمامه. وقد سبق أن استخدم بعضها كتأجيج البؤر المتفجرة في المنطقة (العراق، لبنان، فلسطين)، أو لجأ إلى المناورات لكسب الوقت (إمكانية تغيير السياسة الفرنسية بعد شيراك)، لكن نتائجها على أرض الواقع لم تظهر، كما يأمل في تغيير السياسة الأمريكية بعد بوش.
فسوريا إذا ليست خارج نتائج حالة الاستقطاب هذه، هي أيضاً على مفترق طرق: فإما مجابهة غير محسوبة تجعلها في عين الإعصار، أو القبول بسياسة الاحتواء، التي تحمل في طياتها خيارات بالغة الصعوبة ومصيرية على النظام، مثل الانفكاك عن إيران والتخلي عن دورها الإقليمي، وبالتالي الانكفاء إلى الداخل. ولعل أخطر ما في الأمر، أن سوريا في هذه المعادلة الخطيرة تبقى الحلقة الأضعف في هذا الصراع، ويرجح المراقبون احتمال أن توجه الضربة الأولى لها. ولا يمكن تفسير رسائلها الدبلوماسية إلى أمريكا التي تطلب فيها تحويل المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال الحريري إلى محكمة جنائية عادية، أي حل مشكلتها المستعصية مع المحكمة الدولية، إلا بإدراكها لهذه الأخطار المهددة لوجودها. وفي هذ الإطار يمكن فهم أيضاً الرسائل السورية إلى إسرائيل حول معاودة المفاوضات دون شرط مسبقة.
5- إن المقاربة الأمريكية الجديدة لقضايا الشرق الأوسط والقائمة على سياسة بناء حلف من”دول الاعتدال العربي” لاحتواء المحور الإيراني السوري وملحقاته، والتي تعني فيما يتعلق بدول الحلف تركيز الاهتمام على استقرار وأمن هذه الدول على حساب الاصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة. أي أننا سنشهد في المرحلة القادمة الإهمال، إن لم يكن سحب موضوعة الديمقراطية من التداول. وسوف تقع هذه المهمة، مهمة التغيير الديمقراطي على عاتق المعارضة الديمقراطية في هذه الدول.
البحث الثاني
حال المعارضة السورية
هناك مسائل حساسة تضغط على أوضاع البلاد مجتمعاً وسلطةً ومعارضةً. إنها بحاجة إلى حلول جادة من شأنها إذا تحققت، كلياً أو جزئياً، أن تسهم في تخفيف الأزمات التي تعانيها وتدفع سفينة البلاد إلى بر الأمان. من هذه المسائل:
1- أخذ الخط البياني للمعارضة السورية، خلال السنتين والنصف الماضيتين، يهبط بعد أن كان صاعداً، بعد وفاة حافظ الأسد. فالمصاعب التي واجهتها السلطة في محيطها العربي والإقليمي والدولي، واستفحال أزمتها، وتنامي عزلتها، انعكست سلباً على الداخل (سلطة ومجتمعاً ومعارضة). فعادت إلى ممارساتها باستخدام شتى أشكال الضغط والتنكيل ضد الأوساط الإسلامية، والشبابية، والمعارضة الديمقراطية الخ.. (إقرأ الفقرة هـ من البحث الأول).
لكننا شهدنا أيضاً صعوداً مميزاً لهذا المسار، حين تلاقت أغلب تجمعات المعارضة وبعض شخصياتها البارزة في ائتلاف (إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي)، وأصدر وثيقته البرنامجية الهامة (16/10/2005). لكن هذا (الإعلان) مالبث أن واجه العراقيل من داخله ومن خارجه، بعد أشهر من قيامه. فعاد خطها البياني ينحدر من جديد.
2- من الأسباب الهامة لتعثر المعارضة، هي أن سوريا تعاني من أزمة شاملة مزمنة لفَّت الجميع، ثم تعمقت تدريجاً مع نظام حافظ الأسد إثر تسلمه السلطة. كان من أهم مظاهرها تمزق النسيج الاجتماعي والوطني، نتيجة التمييز بين المواطنين والإرهاب والفساد الذي عممه. وهذا ما أدى إلى الافتراق السياسي والاجتماعي بين النظام والمجتمع من جهة، وبينه وبين المعارضة من جهة ثانية. ورغم مرور أكثر من خمس وثلاثين سنة على هذه الحالة المعممة، لم تستطع، لا السلطة ولا أية قوة سياسية أو اجتماعية حلَّ هذه الإشكالية الكبرى، وإعادة اللحمة الوطنية إلى المجتمع. بل يمكن القول أن هذه الحالة تزداد عمقاً وتعقيداً.
ومهما قيل عن مسئولية السلطة في تدهور أوضاع البلاد وفقدان الثقة بها، إلا أن المعارضة أضحت بالتالي، موضع انتقاد وشك من جانب المجتمع الذي لا يجد في طروحاتها وسلوكها ما يجعلها تلبي حاجاته وآماله في مستقبل أفضل. وهكذا يجد المواطنون أنفسهم في مواجهة شبه منفردة مع المستبدين والفَسَدة. ورغم استمرار هذه الحالة التي نعاني منها ، يبقى المجتمع المجالَ الحيويَّ لكل جماعة أو حزب أو فئة كي يتكئ عليه في مواجهة النظام الاستبدادي. فهو الجهة الأساس لأية معارضة قائمة أو قادمة. ولن تنجح مالم تجِدْ الأشكال الملائمة لتعبئة قواه الفاعلة.
3- مع تفاقم ضغط الوضع العربي والإقليمي والدولي من مختلف جوانبه العسكرية والسياسية والاقتصادية على أوضاعنا السورية، برز الحديث عن الموقف من (الخارج)، أو لنقل، “معادلة الداخل والخارج”. من المؤسف القول، أننا لم نصل بعد إلى حل لهذا الإشكال. فالعلاقة مع الخارج كانت حكراً للسلطة بصفتها ممثلة لمصالح البلاد العليا. فكانت انطلاقاً من هذا التصور تتصرف على هواها، وتمنع المعترضين من نقد سياساتها الخارجية. بل كانت تتهم من يقيم علاقات معه بالخيانة، وتزج البعض في السجن. ولا شك أن سياسة كهذه، تقود إلى عزل مجتمعنا عن العالم الخارجي، وإبقائه جاهلاً عما يدور حوله، وبالتالي، يسهل عليها تضليل الرأي العام، بتقديم المعلومات غير الصحيحة، والإدعاء أن سياساتها الخارجية هي السياسة الصحيحة.
لكن مع اندفاع السلطة في مغامرات وصراعات مع المحيط الخارجي، جعلها طرفاً مؤججاً للبؤر المشتعلة في لبنان والعراق وفلسطين. فلم تعد البلاد في منأىً عنها. فأدت إلى تهديد أمن ومصالح المجتمع برمته. وكان لا بد أن يزداد القلق على مصير البلاد واستقلالها، وبالتالي، لا بد للمجتمع من أن يتخذ المواقف المناسبة التي تحفظ أمنه ومصالحه، وتبعده عن المخاطر الداهمة.
بكل أسف لا نلحظ موقفاً سليماً تجاه هذه المعادلة من المعارضة، بل نجد هروباً من بعض أطرافها لمعالجتها، إما بسبب جمودها الفكري والسياسي وعدم تمثلها للمتغيرات التي يشهدها زماننا الحالي، أو مخافة غضب السلطة عليها. إن إحدى نقاط الاحتكاك القوية التي نشهدها داخل صفوف التجمع الوطني الديمقراطي، هي في العجز عن الوصول إلى موقف موحد. وهذه المسألة مثارة أيضاً، وإن بدرجة أقل، داخل إعلان دمشق. ومثالها الفاقع قضية د. كمال اللبواني الذي اتهمته السلطة بالعلاقة مع العدو، بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية وأودعته السجن وحكمت عليه باثنتي عشرة سنة.
هناك موقفان متناقضان من هذه المسألة: الأول، يجد في الخارج عدواً كالولايات المتحدة وحلفائها بسبب سياساتها تجاه القضية الفلسطينية وانحيازها الدائم لإسرائيل، وتجاه احتلال العراق مؤخراً، وطريقة تعاطيها في الحلول لهاتين المسألتين. الثاني، لا يجد خلاصاً من الأنظمة الاستبدادية المتسلطة إلا بالاستعانة بالخارج القادر وحده على التغيير. وسبب هذا الموقف ما يلمسه أصحاب هذا الرأي من انسداد لأفق التغيير اعتماداً على قوى الداخل.
باعتقادنا أن هذين الموقفين غير سليمين عموماً وإن كنا نجد بعض التبرير لهما انطلاقاً من رؤى قديمة، لكن علينا أن نعالج هذه المسألة في ضوء المتغيرات التي أفرزتها ظاهرات العولمة، والتي في مقدمها انفتاح مكونات العالم على بعضها البعض في شتى المجالات، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر بمسائل مختلفة بدءً من مفهوم الدولة القومية صاحبة السيادة إلى النشاط الاقتصادي المفتوح (منظمة التجارة العالمية)، وانتهاء بدور المنظمات الدولية المتعاظم والذي يجعل من مسألة الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية سمة من سماتها. من هنا نرى أن الداخل أصبح مرتبطاً عضوياً بالخارج. فإن أي سياسة تُرسَم انطلاقاً من مصالح بلادنا لا بد أن يكون لهذا الخارج شأن نأخذه بعين الاعتبار، فنحن لا نجد في الخارج خصوماً وأعداء فقط، وإنما نجد فيه أنصاراً يتعاطفون مع قضايانا. فالخارج إذا متعدد لتنوع مصالحه في المنطقة. من هنا لا يمكن أن تستقيم لنا سياسة من أجل إنهاء الاستبداد وإقامة الديمقراطية دون توثيق علاقاتنا معه ومع أعلى مستوياته المتمثل بالمنظمات الدولية والقوى والفعاليات التي رائدها الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وحل تناقضات الدول بشكل سلمي. ومنعاً لأي التباس، حين تتحرك المعارضة تجاه الخارج، عليها أن تقيم صلاتها بشكل جماعي، وتحافظ على استقلاليتها، وأن تمارس سياساتها علانيةً، بصفتها قوة ثالثة حريصة على الاستقلال الوطني واستعادة الجولان المحتل والخلاص من الاستبداد وإقامة النظام الوطني الديمقراطي.
4- في مواجهة سعي السلطة لحصار المعارضة وتفريق صفوفها وتصفيتها، نرى أن المسألة الأساسية من أجل إحباط مراميها، الانخراط في الأوساط الاجتماعية المتضررة من الاستبداد والفساد، واتباع السياسات التي من شأنها توسيع صفوف المعارضة باطراد، وضم أكبر طيف مجتمعي إليها، انطلاقاً من المشتركات التي يمكن اكتشافها في الدوائر الاقتصادية والثقافية والدينية والأهلية والشبابية، ومعرفة همومها وهواجسها وقلقها وآمالها المستقبلية، وصياغة كل ذلك بتعابير واضحة ومفهومة لا تحتمل اللبس، وبلورتها في مطالب محددة تشكل رزمة واحدة، هي أساس العمل في ضم الأنصار إليها داخلياً وخارجياًُ.
لا شك أن الوثيقة التي أصدرها “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي” والتي تعتبر برنامجه السياسي، مازالت صالحة في جوهرها للتعاطي معها بصفتها معبرة عن حاجة المجتمع، وضرورة التأكيد على الالتزام بها باعتبارها القاسم المشترك للقاء قوى “الإعلان”. لكنها تبقى غير كافية إذا لم ترفق بصياغة القضايا التي أشرنا إليها آنفاً، لتصبح ملحقات لها، تخص كل فئة من فئات مجتمعنا المتضررة. ولا شك أن هذه المسألة، ينبغي أن تثار في هيئات “الإعلان”، وتوضع الخطط العملية من أجل تحقيقها.
فيما يلي وقفة سريعة عند أهم القوى والتيارات الناشطة في الحقل السياسي السوري.
1) حال التيارات الإسلامية الظاهرة والكامنة:
لكي نلقي ضوءً على حال هذه التيارات، لا بد من عودة إلى الماضي الذي تميز بالصراع بين جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، بصفتهم القوة المنظمة والمسيسة والمحركة للشارع المتدين، وبين نظام حافظ الأسد. لقد اتسم هذا الصراع بالعنف العاري، الذي انتهى إلى تصفية واسعة للتنظيم داخل سوريا ولجوء أعداد كبيرة من منتسبيه إلى الخارج. كان أخطر ما ارتكبه هذا النظام، كرد على أعمال العنف، التصفيات الجسدية التي شملت ألوف المواطنين استناداً إلى القانون رقم 49 الذي ينص على الحكم بالإعدام لمنتسبي هذه الجماعة، ومجازر حماه عام 1982 (راجع كراس وثائق المؤتمر السادس ص 94 و 95). لقد كانت نتائج هذا الصراع كارثية على مجتمعنا، أبرزها تمزق النسيج الاجتماعي السوري، ونزع السياسة عن المجتمع. ومازلنا نشهد آثارها المدمرة وتفاعلاتها على الحياة السياسية والاجتماعية حتى الآن.
إن مسألة علاقة السلطة مع التيارات الدينية ورجال الدين، أخذت حيزاً هاما في سياسات حافظ الأسد اللاحقة، حيث ركز اهتمامه على إيجاد بدائل للإخوان المسلمين في الوسط المتدين، يتمكن من خلالها ضبط الشارع الإسلامي السني. فاستخدم شتى وسائل الترغيب والترهيب لتحقيق هذا الهدف.
أ- الإسلام الرسمي: وُضِعت وزارة الأوقاف ومؤسسة الإفتاء، وبمساعدة من مفتي الجمهورية الشيخ أحمد كفتارو آنذاك، تحت الإشراف الأمني المباشر. وفرضت السلطة على رجال الدين العاملين في هذه الوزارة وعلى خطباء المساجد التقيد بالتعليمات الآتية منها، وأهمها إلزامهم بخطب مكتوبة لإلقائها أيام الجمع والدعاء للرئيس في نهاية كل خطبة، وهكذا أصبح لهذه المؤسسة دور سياسي موجِّه، بما يناسب مواقف السلطة، كما فرض عليهم السلوك ذاته في مناسبات رمضان، والأعياد وليلة القدر والإسراء والمعراج الخ..
وقام النظام بدعم ورعاية مميزة لمؤسسة كفتارو، الذي تعاون مع حافظ الأسد منذ استلامه السلطة. وتحولت المدرسة الشرعية العاملة تحت إشرافه في جامع النور إلى أكاديمية، تستقطب الدارسين للعلوم الدينية من داخل سوريا وخارجها. وقد جذبت أوساطاً واسعة من الشباب ومن مختلف الفئات الاجتماعية، وتفرع عنها مؤسسات متنوعة الأغراض، منها الخيري والاجتماعي والاقتصادي. فتأمنت لها موارد وإعانات جمة من مصادر عديدة.
ب- الإسلام الشعبي: يدخل في هذا الإطار نشاط كفتارو الديني أيضاً. فأسس تنظيم القبيسيات النسائي الذي يعد بالآلاف. وأشرف على “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن“.
كما تنشط في هذا الوسط مؤسسات عديدة في أغلب المحافظات، تعمل جميعها تحت مظلة الدولة. ففي حلب توجد مؤسسات تعمل بإشراف وتوجيه الشيخ أبو الهدى الحسيني. ولعل أكبر هذه المؤسسات، التي تدخل تحت هذا الوصف، تلك التي أسسها الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الذي تخلى عن جماعة الإخوان المسلمين إثر الاعتقالات الواسعة التي شملته خلال أحداث السبعينات، وأعاد حافظ الأسد اعتباره، بعد الإفراج عنه، وترك له حرية النشاط الديني. اقتصر نشاطه على الدعوة والهداية للإسلام بأسلوب تقليدي وهادئ، فاستطاع أن يجذب أوساطاً شعبية واسعة، تسترشد به كعالم ورائد لها.
ومن مظاهر انتشار هذا الاتجاه، ما نلاحظه مؤخراً من رغبة السلطة بتوسيع تمثيل رموزه في مؤسسات النظام كمجلس الشعب، حيث دخله ستة نواب في الانتخابات الأخيرة. كذلك سهلت له القيام بأنشطة اجتماعية واقتصادية. وأتاحت له الفرصة للظهور في وسائل الإعلام المختلفة. إن أبرز شخصيات هذا الاتجاه النائب محمد حبش.
إن شخصيات هذا الاتجاه في نشاطها الإسلامي والسياسي والاجتماعي تبدو، من خلال طروحاتها، كجماعة وسطية متنورة، ومتفهمة لأوضاع البلاد، وما يحيق بها من أخطار، تدعو للتعقل والالتفاف حول النظام بصفته حافظاً لأمن البلاد واستقراره. وهي بهذه المعاني، كأنها بديل لجماعة الإخوان المسلمين، الذين يسعون لاسترجاع دورهم من خلال طروحاتهم الجديدة، النابذة للعنف، والداعية إلى حل مشاكل البلاد بالطرق السلمية وبما يتم التوافق عليه.
ج- الإسلام المتطرف: إن المنبع الأساسي لهذا الاتجاه آت من التجمعات الإسلامية التي أشرنا إليها أي الإسلام الرسمي والشعبي. لكن ما يميز هؤلاء أن أغلبهم من أوساط الشباب، وخصوصاً من البيئة الفقيرة. لعل أزمتهم التي تدفعهم إلى التطرف أنهم بما يحملون من تربية دينية مثالية، يصطدمون بكل ظاهرات التفسخ والفساد وتفكك المجتمع وانحلاله الناجم عن سلوك النظام التسلطي الاستبدادي، كما يجدون في السياسات الدولية وخصوصاً الأمريكية المتبعة في المنطقة موقفاً معادياً للإسلام وداعماً للعدو الإسرائيلي، في الوقت الذي لا يرون في مواقف الأنظمة العربية إلا استسلاماً وهرباً من مواجهة هذه الحالة. هذا عدا عن القناعة التي أشرنا إليها سابقاً، بأن كل التيارات الليبرالية والقومية والإشتراكية قد فشلت وهزمت في مواجهة هؤلاء الأعداء. فإزاء هذا الواقع المعاش يرون أن الإسلام هو الحل، لكنهم يختلفون وفق فهمهم الديني في الأساليب الواجب اتباعها. لذلك نراهم في الممارسة العملية يتوزعون إلى تجمعات متعددة، منها السلفي الذي يدعو إلى التمثل بالسلف الصالح وبناء دولة الخلافة، ومنها الأصولي الذي يدعو إلى أصول الشريعة والتمسك بها بشكل صارم. ومنها أيضاً الجهادي الذي يعتبر المجتمع مجتمعاً جاهلياً لابد من إعادته إلى الإسلام (بحد السيف)، وبالتالي يعتبرون أن الجهاد فرض عين على كل مسلم.
إن هذه التجمعات المتطرفة، تنتشر وتنتظم على نحو عشوائي ومبعثر وعفوي كالفطر. لذلك سرعان ما تكتشفها الأجهزة الأمنية التي تحاول إقامة صلة سرية مع (أمرائها)، بغرض تدريب عناصرها وتوظيفهم بما يخدم خططها، أو قمعهم إن وجدت خطراً منها. فهذه الأجهزة تهتم بها على المستوى المحلي والعربي والإسلامي اهتماماً كبيراً لحاجتها إليهم في ظروف احتدام الصراع الحاد في المنطقة، كي ينفذ أمراؤهم ما تطلبه منهم.
د- جماعة الإخوان المسلمين: بإمكاننا القول، إن هذه الجماعة منذ عام 2002، وحتى عام 2004، قدمت العديد من المواقف السياسية التي تتلاقى مع طروحات الحركة الديمقراطية المعارضة بخطها العام (مؤتمر لندن 2002 – المشروع الحضاري لسوريا المستقبل آب 2004 – المشروع السياسي لسوريا المستقبل ك1 2004). وبصرف النظر عن مستوى هذا الطرح ومدى قبوله من هذا الطرف المعارض أو ذاك، فلا يمكننا إلا أن نعتبر مواقفهم الجديدة انعطافاً هاماً، قياساً على مواقفهم القديمة. إنها تساعد على التلاقي معهم في برنامج تغييري مشترك. وهذا ما حصل فعلاً عندما أعلنت هذه الجماعة انضمامها إلى “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”. وبانضمامها هذا اكتمل لقاء التيارات السياسية الأساسية للمجتمع السوري.
من الصعب الآن تقدير مدى النفوذ الذي تتمتع به الجماعة داخل سوريا. وهذا أمر مفهوم بسبب استمرار إرهاب السلطة لعناصرها وإشهار سيف القانون 49 على رؤوسهم. فهي لا تتمتع حتى بالحرية المحدودة جداً لباقي القوى المعارضة. لذلك يبقى نشاطها الخارجي هو الظاهر والأبرز. ونحن نعتقد أن هذه الجماعة بطروحاتها الجديدة، إذا توفرت لسوريا أجواء من الحرية، فلا بد أن يكون لها شأن مهم في الوسط الإسلامي على مختلف تياراته. كما لا بد أن يتعمق الحوار ويتسع بينها وبين المعارضة الديمقراطية لمعالجة الالتباسات والهواجس التي تطرحها أوساط سياسية معارضة، انطلاقاً من رؤيتها الايديولوجية القديمة المعادية للتيارات الدينية. وتأكيداً لصحة ما نقول، عن عدم رغبة البعض بتقوية التحالف مع هذه الجماعة، الاعتراض على سلوكها في إقامة “جبهة الخلاص الوطني” في بروكسل وإخراجها من “الإعلان”، علماً أن هذا البعض، يسمح لنفسه بإقامة تحالفات على المستوى الداخلي والعربي مع أنصار النظام أو مع أصحاب طروحات تصب في خدمة النظام.
هـ- حركة التشيع: ظاهرة التشيع ارتبطت مع نجاح الثورة الإيرانية (1979)، ونشوء مركز إسلامي شيعي في إيران منافس للمركز الإسلامي السني في المملكة العربية السعودية. إن أهم ما يميز العمل التبشيري لهذا المركز أنه جمع إلى جانب الدعوة المذهبية دعوات سياسية مزاودة تحت إسم الإسلام. ولم تقتصر دعوتهم على سوريا فقط، وإنما انتشرت في أغلب البلدان الإسلامية. لكن الإيرانيين بسبب تقاربهم السياسي مع نظام حافظ الأسد وجدوا مجالاً للنشاط المذهبي داخل المجتمع السوري، وسرعان ما أخذت تنتشر الدعوات التبشيرية مع توطد العلاقات بين السلطتين السورية والإيرانية إثر حرب الخليج الأولى.
كان شقيق الرئيس السابق جميل الأسد من أوائل الناشطين في هذا المجال. فأسس “جمعية المرتضى” أوائل الثمانينات، داخل الطائفة العلوية. ولم يكن همه التبشير للمذهب الشيعي، بمقدار ما كان يرمي من وراء ذلك تحقيق مكاسب سياسية ومالية، وإيجاد تقارب بين الطائفتين. لكن حافظ الأسد لم يكن مشجعاً لهذا السلوك مخافة إضعاف ولاءات الطائفة تجاه النظام وتحولها إلى خارج البلاد، وكذلك مخافة أن تكون القوى المتشيعة بديلاً من البعث. فسياسته آنذاك كانت تحرص على جعل علاقات سوريا العربية والإقليمية متوازنة. فانتشار التشيع في سوريا قد يخل بعلاقاته مع السعودية وإيران. فأقدم على حل هذه الجمعية في العام 1984، وحظر نشاطها قانونيا بقرار من رئيس مجلس الوزراء آنذاك عبد الرؤوف الكسم.
لكن المبشرين الإيرانيين سرعان ما اتسع نشاطهم بعد وفاة حافظ الأسد، وأخذ يتنامى مع تعمق التحالف الرسمي السوري الإيراني، والذي كان من مظاهره غض النظر عن نشاط المركز الثقافي الإيراني، تحت إشراف السفير، وعن الوافدين من إيران والعراق من أصحاب المرجعية الخمينية القائمة على ولاية الفقيه التي يمثلها حالياً خامئني. وبسبب من ما يرصد من أموال طائلة لهذا الغرض، تمكنوا من إنشاء الكثير من الحسينيات والحوزات وتوسيع المقامات المقدسة عند الطائفة الشيعية. لقد بلغت إغراءاتهم المالية لرجال الدين وللمواطنين إلى مستوى تشكيل جمعيات خيرية ومؤسسات صحية، بما في ذلك دفع راتب شهري للمتشيع.
لقد تفاوتت ردود الفعل السلبية تجاه هذا الحراك في الوسط الإسلامي وفي مختلف المحافظات. فجمعية علماء دمشق أرسلت بعض أعضائها إلى إيران، للاحتجاج على ما يجري في سوريا وبيان مخاطر نشر التشيع في الأوساط الشعبية، وأبدت مخاوفها من ردود أفعال معادية تجاه الطائفة الشيعية السورية، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى فتنة تتنامى بين المسلمين، لكن بعض رجال الدين يقللون من أهمية هذا التشيع، وآخرون، كمفتي الجمهورية الشيخ أحمد بدر الدين حسون ومحمد حبش الموالين للسلطة، ينكرون وجوده.
يبدو أن سياسة التشيع التي تنهجها إيران في سوريا، هي جزء من سياسة عامة لسلطة الملالي المتحكمة في إيران، والتي تنتشر في معظم البلدان الإسلامية، لكن اهتمامها منصب أكثر في البلدان العربية. ولا شك أن مثل هذه السياسة قادت وتقود إلى التفرقة المذهبية بين أبناء البلد الواحد. وما نشاهده في العراق ولبنان من احتقان وصراع أبلغ دليل على ذلك.
2) تجمعات الخارج:
تكونت أغلب التجمعات السياسية المعارضة في الخارج مع تطور الصراع الداخلي مع السلطة، الذي يعود تاريخه إلى عام 1963. لكن دائرتها اتسعت كثيراً منذ أواسط سبعينات القرن الماضي بعد تبلور المعارضتين الديمقراطية والإسلامية المسلحة. لكن النظام حسم هذا الصراع بالعنف المتوحش بين عامي 1980 – 1982 لصالحه. وبسبب الإرهاب الأسود هاجر الألوف من قيادات وقواعد الأحزاب إلى البلدان العربية والأوروبية والأمريكتين. فظهرت تنظيمات سياسية لأغلب الأحزاب السورية في المهجر وتشكلت تحالفات على مدى ثلاثين عاماً، بعضها انقرض وبعضها الآخر بقي محافظاً على وجود رمزي، صلته بالداخل ضعيفة عموماً. من المؤسف القول أن هذه التنظيمات ضعيفة ومعزولة، وأسيرة لعالم مضى. فلا تقيم علاقات وثيقة مع المهاجرين السوريين المتواجدين هناك. وهم يعانون أيضاً من مضايقات السلطة في صلتهم مع بلدهم. كما لا تقوم بالدعاية الكافية لقضية بلدهم في المجتمعات التي يعيشون في كنفها.
إن الحراك السياسي لمعارضة الخارج، آخذ في التعبير عن مواقفه السياسية المتنوعة تدريجاً بعد وفاة حافظ الأسد. ولعل أهم ملاحظة يمكن تسجيلها، أن القاسم المشترك له، يدور حول الحرية والديمقراطية والخلاص من الاستبداد. ورغم ذلك من الصعب الحديث عن مدى تقارب معارضات الخارج، كما جرى في الداخل (إعلان دمشق). وبالمقابل يبدو أن الإعلان يجد مصاعب كثيرة، (ذاتية وسلطوية)، في سد هذه الثغرة الضرورية له من أجل وحدة المعارضة داخل الوطن وخارجه.
أ- تجمعات إعلان دمشق: بعد إشهار إعلان دمشق انضم إليه أحزاب وتجمعات وشخصيات سياسية عديدة. لعل أبرزها جماعة الإخوان المسلمين، وبسبب وجود تنظيمات لبعض أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي، ازداد التحرك من أجل تتنظيم هيئات داعمة للإعلان في فرنسا وألمانيا وكندا وبلدان أخرى. فيما يلي بعض هذه التجمعات: تجمع البعثيين الديمقراطيين الوحدويين، ينطق باسمهم د. حبيب حداد، المجلس الوطني السوري في واشنطن، تجمع الأحرار الوطني الديمقراطي شيكاغو، التجمع السوري الديمقراطي في كندا، يضم عشرين شخصية سورية مهاجرة، اللجنة السورية لحقوق الإنسان في لندن، حزب الحداثة والديمقراطية في ألمانيا، الجالية السورية في مدريد، حركة العدالة والبناء، الحركة الديمقراطية السيريانية في ألمانيا، ينطق باسمها جان عنتر، التجمع من أجل سوريا في فرنسا، ينطق باسمه فهد المصري.
ب- جبهة الخلاص الوطني في سوريا: نشأت هذه الجبهة بعد انشقاق نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام وسفره إلى باريس، وقيامه بنشاط علني معارض في أواخر عام 2005. ونتيجة لقاءاته مع بعض القوى والشخصيات السورية المعارضة، انعقد مؤتمر في بروكسل (آذار 2006) بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمات وشخصيات أخرى لم يعلن عنها رسمياً.
لم تخرج الوثيقة التأسيسية لهذه الجبهة عن مضامين إعلان دمشق، وإن كانت لهجتها تتسم بالشدة. وفي بياناتها اللاحقة كانت تحرض المواطنين على الاعتصام والتظاهر والعصيان المدني. وكانت توحي بأن هذا النظام قد أضحى قاب قوسين أو أدنى من السقوط، معولة على المحكمة الدولية بشأن مقتل الحريري وعقابيلها. وقد لاقى هذا التحرك دعماً وتشجيعاً من أوساط عربية وأجنبية متعددة، فتحت لهم مؤسساتها الإعلامية. لكن تأثيرها على الداخل كان ضعيفاً، لأن خداماً كان أحد قادة هذا النظام، ولأنه اكتفى آنذاك بنقد عهد بشار، متجنباً عهد حافظ الأسد، ونقد دوره بصفته أحد المسئولين عن الآثار السلبية التي لحقت بالبلاد. لكن نشاط هذه الجبهة أخذ يتعثر في الخارج. كما دفع بعض الأطراف المنضمة إليها إلى الانسحاب منها.
لاقى قيام هذه الجبهة ردود أفعال متعددة، أبرزها الانزعاج الشديد للسلطة السورية، التي استخدمت كل وسائل التشهير بها وبخدام واتهمتهم بالعمالة للأجنبي. ربما يعود هذا الهجوم إلى القلق الشديد الذي كانت تعانيه السلطة نتيجة مصاعبها الإقليمية والدولية. ومارست أيضاً ضغوطاً على المعارضة، من أجل طرد الإخوان المسلمين من الإعلان، والتشهير بخدام. لكنها لم تستجب لهذا الطلب. فتصرف البعض منفرداً، مستجيباً لها، مبرراً تصريحاته، بأن الإخوان بانتقالهم إلى جبهة الخلاص المشبوهة، لم يعد ممكناً قبولهم داخل الإعلان. ورغم أن خداماً لم يكن مقبولاً من أغلب الأوساط المعارضة، باعتباره واحداً من أعمدة نظام حافظ الأسد، إلا أن انشقاقه عن السلطة ظاهرة مرحب بها من جانب المعارضة، هذا أولاً، وثانياً؛ لا ينبغي أن يكون لدينا أوهام لاحتكار العمل المعارض، فالمجتمع هو الأساس وهو الذي يفرز معارضات عديدة، ليس بالضرورة أن تتلاقى في جبهة واحدة، وبالتالي، فالنشاط المعارض للنظام متعدد المراكز والأهداف والوجوه. ومن المؤسف أن هذه الرؤية مقلقة لبعض قادة المعارضة بسبب أنايتهم الحزبية والأوهام، التي يحملونها عن دور أحزابهم في المرحلة القادمة.
3) التجمع الوطني الديمقراطي:
ضم تقرير “اللجنة المركزية” ملحقاً تحت عنوان التحالفات والعمل الوطني المشترك 2005 – 2006، تحدث فيه بإسهاب عن أحوال ونشاط هذا التجمع. كما أشار إلى دوره مع الآخرين في تأسيس ائتلاف “إعلان دمشق”. ومنعاً للتكرار، نرجو الاطلاع على هذا الملحق. لكن لا بأس هنا من الكلام ولو بإيجاز عن أهم الملاحظات على هذا التجمع كما نراها:
أ- لم يستطع التجمع حتى الآن أن يكون موضع استقطاب للمعارضة السورية، وقوة جذب للنخب السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية. ويعود ذلك إلى عجزه حتى الآن عن طرح برنامج سياسي، يطور وثيقته التأسيسية الصادرة عام 1980، ويستجيب لمتطلبات المرحلة التي نعيشها. وقد سبق أن عالجنا في وثائق ومقالات عديدة أسباب عجزه وتخلفه، والتي تتلخص في عدم مراجعته لتجربته الطويلة. هذه المرحلة تتطلب إعادة النظر في العديد من طروحاته الفكرية والاجتماعية والسياسية، في ضوء المتغيرات الداخلية والخارجية الحادة، التي شهدناها منذ التسعينات وحتى الآن. إضافة لذلك ما نلحظه من تردد حين معالجة المواقف السياسية تجاه النظام. فيكتفي بالنقد الخفيف، ويبقي سقفه دون المستوى المطلوب. وغالباً ما يعوض عن مواقفه الضعيفة بالتركيز على الأوضاع الخارجية، بجعلها في المقام الأول، متغاضياً عن الدور السلبي للنظام تجاهها.
ب- ومن المؤسف القول أننا بعد قيام “إعلان دمشق” لاحظنا قلقاً لدى بعض قوى التجمع من تراجع دوره في الحياة السياسية، علماً أن كل أحزابه منخرطة فيه. لكن الحقيقة تكمن ليس في هذه المخاوف، وإنما في رغبة البعض بجعل دور التجمع دوراً قائداً “للإعلان”، وإبقائه أسيراً له. معللين هذه المواقف بأن لقاء الأحزاب استراتيجي ولقاء قوى “الإعلان” تكتيكي. فهل يراد من هذه الرغبة نقل أمراضه ومصاعبه إلى الوليد الجديد. فالانصاف يلزمنا القول أن دور التجمع ينبغي أن يصب في صالح الإعلان وليس العكس. إن الحديث عن الدور القائد للتجمع يذكرنا بما فعله حافظ الأسد بجعل حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع والذي كانت نتيجته كارثية على حياتنا السياسية. فالإعلان الذي جمع تيارات واسعة من مجتمعنا هو المرشح ليكون الإطار الملائم للحركة الديمقراطية في الظروف الحالية.
جـ- من أجل الوصول إلى توافق حول المسائل المختلف عليها، نحتاج إلى حوار معمق من جديد، تطرح فيه القواسم المشتركة بين أحزاب التجمع، والاتفاق على تحديد نقاط الاختلاف، في ما له علاقة بالداخل أو الخارج، بغرض الوصول إلى مواقف مشتركة إن أمكن، أو ترك الحرية لهذا الحزب أو ذاك ليعبر عن وجهة نظره الخاصة بالوسائل التي يراها مناسبة، دون إكراه أو تشهير للآخرين.
4) إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي:
كذلك تضمن ملحق “التحالفات والعمل الوطني المشترك 2005 – 2006” شروحاً عن الحوارات التمهيدية التي سبقت “الإعلان”، وما تلاها عن وثيقته والقوى والشخصيات التي وقعت عليه، وأجواء الدعم الذي أحيط به من الداخل والخارج، بما فيها الانتقادات العديدة التي صدرت عن بعض التجمعات والشخصيات. وتضمن أيضاً الملابسات التي دفعت اللجنة المؤقتة للإعلان لإصدار بيان توضيحي تضمن العديد من النقاط المعترض عليها (ص3 و 4 و 5 من الملحق).
أ- لعل أبرز ملاحظة يمكن الوقوف عندها أن وثيقة الإعلان قد حصرت بالدرجة الأولى مواقف الموقعين عليها بالشأن السوري والذي تلخص في تحميل النظام التسلطي مسئولية تردي أوضاع البلاد وعجزه عن إجراء الإصلاح السياسي، ناهيك عن الإصلاحات الأخرى الاقتصادية والإدارية والاجتماعية وغيرها. وخلصت إلى نتيجة مؤداها الدعوة إلى القطع مع النظام والنضال من أجل إقامة النظام الوطني الديمقراطي.
ب- لأول مرة في ظل هذا العهد تتلاقى أغلب تيارات مجتمعنا، حيث ضمت الليبراليين والقومين والإسلاميين والاشتراكيين واليساريين، وبذلك ينفتح الطريق أمام الإعلان بتحوله إلى حركة شعبية تضم في صفوفها فئات متنوعة لم يسبق لها أن انضوت تحت لواء الأحزاب التقليدية، بما فيها أحزاب التجمع. وبهذا المعنى أضحى صعباً على البعض الرهان على حوار مع السلطة.
جـ- حظي ائتلاف إعلان دمشق باهتمام عربي ودولي، ولأول مرة يجري الحديث عن حركة ديمقراطية معارضة تظهر داخل البلاد حاملة معها آمالاً واعدة، خصوصاً أن نشاطها لم ينحصر في المحافظات السورية فحسب بل انتقل إلى أوساط سورية مهاجرة قبلت الانضمام إليه وكان لها نشاط مفيد في التعاطي مع بعض المواطنين السوريين الذين انجذبوا إلى هذا الحراك.
د- إذا أردنا أن نجري مقارنة بين حراك التجمع الوطني الديمقراطي والحراك الذي قام به الإعلان فإن مستوى دوائر الأخير كانت أوسع بكثير من دوائر الأول. لكن التطورات اللاحقة جعلت الإعلان يراوح في مكانه بسبب محاولات بعض قوى التجمع لتعديل مواقفه استناداً إلى التوضيحات التي صدرت بعد الإعلان دون أن يطلع عليها العديد من القوى بما فيها لجنتنا المركزية. فهي إحدى نقاط الاحتكاك التي تحتاج إلى معالجة، واتخاذ موقف بشأنها، وقد لا يتحقق هذا الأمر إلا من خلال عقد المجلس الوطني الموسع الجاري الإعداد له.
هـ- ومن الصعوبات التي يواجهها الإعلان سعي السلطة الحثيث لشله وتفكيكه من خلال ممارسة الضغوط على شخصياته واعتقال بعضهم، كما جرى في العام الماضي إثر التوقيع على إعلان دمشق بيروت. ومن المسائل التي يمكن أن تلعب دوراً سلبياً بإضعافه من داخله ظهور تباينات عديدة كمسألة الإقرار بتمزق النسيج المجتمعي والاحتقان الناجم عنه، وما يمكن أن يحمل في طياته من تفجرات ليست في صالح أي فئة من مكونات مجتمعنا. إن ما يقلقنا من سلوك السلطة، أنها إما هي طرف مثير لها، أو مهمل لنتائجها. ومن المؤسف أن تبقى موضع تجاهل وهرب من معالجتها.
وهناك مسائل أخرى حساسة أيضاً كعلاقة الداخل بالخارج، والتحسس من المشاركة الكردية، والمواقف التي تهمل معالجة الأوضاع السياسية المحيطة بسوريا، الأمر الذي يدعو بعض أصحاب الاتجاه القومي إلى القول: إن هناك نزعات معادية للعروبة والوحدة العربية. ومسألة الموقف من الإخوان المسلمين، والنظر إليهم بارتياب متعللين بأحداث السبعينات والثمانينات، ومتجاهلين التطورات التي استجدت عليهم ومتنكرين لحقهم الديمقراطي بالوجود كتنظيم سياسي.
و- إن المناخ المتشدد الذي فرضته الأجهزة الأمنية خلال السنة الماضية على المعارضة السورية أدى إلى حصول انكماش الحالة الشعبية المتعاطفة مع الإعلان، بل انتقل أيضاً إلى بعض ممثلي القوى في الإعلان إلى اتخاذ مواقف زئبقية تحت شتى المسميات، فأخذت “تلين” مواقفها. ومهما يكن من الحالة القمعية الصعبة، يبقى هذا الإعلان بما طرحه من مواقف وما مثله من عمق اجتماعي وشعبي، يبقى الأمل في تحوله مستقبلاً إلى قوة ذات تأثير في حياتنا.
5) ظاهرة معارضات أخرى:
كثرت التشكيلات الحزبية ومنظمات المجتمع المدني ولجان حقوق الإنسان والحركات الشبابية خلال السنوات السبع الماضية. إنها تنمو كالفطر داخل الوطن وخارجه، وهذا عائد بالدرجة الأولى إلى سببين رئيسيين: الأول) أن النظام أخذ يعيش أزماته الحادة منذ أواخر تسعينات القرن الماضي، لكنها تنامت في عهد الرئيس بشار الأسد. والثاني) عائد إلى قصور الأحزاب السياسية التقليدية التي حافظت على وجودها الرمزي، حيث لم تستطع أن تشكل قطباً جاذبا لانخراط المواطنين المعارضين في صفوفها. ولأن معارضة المجتمع الكامنة، هي التي تشكل المنبع الأساسي لولادة القوى الجديدة التي تعبر عن تيارات ومصالح الفئات المجتمعية المختلفة على نحو قد يختلف عن تعبيرات الأحزاب اليسارية والقومية التي سادت خلال النصف الثاني من القرن الماضي. إن هذه التعبيرات وإن لم تتبلور كقوى فاعلة في أوساطها، إلا أنها تملك حقها في الوجود والتعبير عن تطلعاتها. علينا أن نتعامل معها بإيجابية بصرف النظر عن تلاقي أو تعارض طروحاتها معنا، انطلاقاً من المبدأ الديمقراطي الذي يعترف بالآخر ويقر بحق الاختلاف.
البحث الثالث
أداء الحزب السياسي
موضوعات الحزب وبرنامجه السياسي:
علينا أن نتساءل عن مدى صحة أو عدم صحة موضوعاتنا وبرنامجنا السياسي، بعد سنتين ونصف من طرحهما. نظن أنه لم يطرأ تغيير جوهري على حياة البلاد السياسية خلال هذه الفترة، التي اتسمت بتوازن الضعف بين السلطة والمجتمع. من هنا بالإمكان القول أن رؤيتنا السياسية مازالت، في جوهرها، صالحة الآن كأرضية لمتابعة المجريات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية. لقد طرح البرنامج السياسي جملة من الإجراءات الضرورية لهذه المرحلة للوصول إلى النظام الوطني الديمقراطي، التي نعتبرها برنامج الحد الأدنى في ظل ظروفنا الراهنة. هذه الإجراءات جاءت تحت عنوان:
“الانتقال والتحوّل.. نحو الديمقراطية والتقدّم“
“من أجل إنهاء الاستبداد والانتقال بالبلاد إلى وضع جديد، لا بدّ من تحقيق وحدة القوى الديمقراطية، أو وحدة المعارضة، على خط واضح لا لبس فيه، وبرنامج للتحرّك من أجل تحقيق التغيير، مع نبذ العنف في ممارسة العمل السياسي، والعمل على منعه وتجنّبه بأيّ شكل، ومن أيّ طرفٍ كان.
وفي المرحلة الحالية، لا بدّ من تشجيع أيّة مبادرة للعودة بالمجتمع إلى السياسة، وبالناس إلى الاهتمام بالشأن العام، وتنشيط المجتمع المدني. إن تشكيل اللجان والمجالس والهيئات المختلفة، محلّياً وعلى مستوى البلاد، هو ظاهرة لا بدّ من ملاقاتها مساعدتها، حتى ولو بدت متعارضة إلى هذا الحدّ أو ذاك مع بعض خطنا ورؤيتنا بتفاصيلها. مثل هذا النشاط والحراك، هو الأساس الذي يمكن أن يؤسس لمؤتمر وطني ويجعله ناجحاً، وذا صفة تمثيلية، وقادراً على تحقيق مهمته، وتحسين شروط المستقبل في جميع الأحوال.
إن إنهاء الاستبداد والانتقال إلى الديمقراطية مهمة أولى، بل تكاد تكون المحور الذي يتأسس عليه جدول العمل الراهن طالما هي قائمة وراهنة. من الضرورة بمكان أن تكون هذه العملية سلمية ومتدرجة ومبنية على التوافق، قائمة على مبادئ الحوار والاعتراف المتبادل والتطلع إلى المستقبل لتحقيق دولة الحق والقانون، دولة المواطنة والديمقراطية.
لقد أصبح واضحاً ومتعارفاً عليه أن المرحلة الانتقالية لا بدّ أن تمر عبر الإجراءات التالية:
1- إنهاء حالة الطوارئ ووقف العمل بالأحكام العرفية وإلغاء كل ما ترتب عليها وبني في ظلها من إجراءات وقوانين ومحاكم استثنائية.
2- إطلاق معتقلي الرأي والسجناء السياسيين جميعاًً، وطي ملف الاعتقال السياسي.
3- عودة جميع المنفيين طوعاً أو كرهاً إلى البلاد بضمانات قانونية، وتقديم كل التسهيلات لعودة كريمة وآمنة، وإلغاء إجراءات منع المغادرة لأسباب سياسية.
4- الكشف عن المفقودين وتعويض ذويهم.
5- رد المظالم إلى أهلها، وإعادة الاعتبار والحقوق المستلبة نتيجة تصرفات أجهزة الأمن وتسلط أصحاب النفوذ وأحكام المحاكم الاستثنائية.
6- إعادة هيكلة أجهزة الأمن ووضعها في الإطار القانوني وبما يتناسب مع دخول البلاد الحياة الديمقراطية السليمة، وتطهيرها من المجرمين الفاسدين، واستصدار قوانين صريحة بمنع التعذيب وكل أشكال الإكراه المادي والمعنوي، ومعاقبة مرتكبيه والآمرين به وفق القانون.
7- إطلاق الحريات العامة في المجتمع بما فيها حرية المعتقد والرأي والتعبير، وحرية التظاهر والإضراب، وحرية التجمع، وحرية النشر ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والإلكترونية.
8- إصدار قانون عصري ينظم عمل الأحزاب والجمعيات، بشكل يضمن حرية التأسيس والعمل العلني.
9- ضمان حرية العمل النقابي والمهني واستقلاله عن حزب البعث والسلطة وأجهزتها كافة، وبصورة خاصة الأمنية منها.
10- إنهاء كل أشكال التمييز القومي والحزبي والفئوي والطائفي، وإلغاء احتكار السلطة والعمل السياسي بإلغاء المادة الثامنة من الدستور، التي جعلت من حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع.
11- استعادة أصحاب الحقوق من الأقليات القومية لحقوقهم في مسائل الجنسية وتعلّم اللغة القومية، وفي التعبير عن ثقافتهم و تأسيس مدارسهم ومؤسساتهم الثقافية الخاصة.
12- الشروع في حوار وطني شامل ومتكافئ، يبحث في آليات وبرنامج الانتقال إلى الديمقراطية والعودة إلى سيادة الشعب وتداول السلطة.”
إن برنامج الحد الأدنى هذا قد صيغ في ظروف سياسية لم تكن محتدمة كما نعيشها. كان الأمل قائماً على تحرك داخلي شعبي وسلمي، يضغط على السلطة لإجبارها على إجراءات لا تخل كثيراً ببنية النظام. وكان الأمل أيضاً أن تستجيب لها قوى من داخله. فنصبح أمام تغيير سلس دون هزات اجتماعية، ويحافظ على أمن البلد واستقلاله.
لكن السلطة، بسبب إصرارها على نهجها القديم داخلياً وخارجياً، ازدادت عزلةً وتوتراً، وشددت قبضتها القمعية على مجتمعها ومعارضتها، وكثرت مغامراتها مع تردي علاقاتها العربية والدولية، الأمر الذي يجعلها تحت الحصار. فنحن إزاء هذه الحالة مهددون بحروب قد تأتي من السلطة أو الخارج، وباحتقانات اجتماعية لا ندري كيف تعبر عن نفسها. فإذا تحقق شيء منها، نكون بحاجة إلى إعادة النظر في هذا البرنامج. وإذا تعقدت الأوضاع سيكون في مهب الريح. وبالتالي علينا أن نفكر بسياسات أخرى لإنقاذ البلاد من تلك المخاطر. وهكذا قد نصبح أمام مرحلة جديدة تتطلب معالجة معمقة، تبغي الوصول إلى مواقف جديدة.
أداء الحزب السياسي:
الأداء السياسي الداخلي: بعد المؤتمر السادس، أرسلت اللجنة المركزية وفوداً إلى المحافظات لمناقشة خطه السياسي الجديد، مع المنظمات والأصدقاء والحلفاء، والشيء ذاته قامت به لجان المحافظات. لكن صلاتها ونشاطاتها أخذت تضعف تدريجاً، فاقتصر الأمر على الكوادر المحلية. وقد تفاوتت صلة اللجنة المركزية مع منظمات المحافظات بين زيارات متقطعة وأخرى نادرة. فبقي تواصل هذه المنظمات مع سياسة الحزب ومواقفه تمر عبر جريدة الرأي ومجلة أطياف وموقع الرأي الألكتروني، هذا عدا عن الشكوى من غياب الرسائل السياسية أيضاً. هذه الملاحظة تنطبق بدرجة أكبر على العلاقة مع منظمات الخارج. ورغم أن اللجنة المركزية، سمت بين فترة وأخرى بعض الرفاق للاهتمام بها، إلا أن الانقطاع عنها بقي مستمراً بشكل عام. كما بقيت ردود المركزية على رسائلها متباطئة أيضاً. ولا شك أن هذه المنظمات خلال هاتين السنتين الماضيتين نشطت نشاطاً جيداً في أغلب البلدان المتواجدة فيها. وأسست كما هو معروف مع ممثلي الأحزاب الأخرى المتواجدة هناك لجان دعم لإعلان دمشق. وكانت سباقة لإبداء المواقف والاحتجاجات التي تطلبتها ظروف الصراع مع السلطة. هذه العلاقة ينبغي أيضاً معالجتها من أجل توثيق صلتنا بها، وهذ ليس صعباً عن طريق التواصل الالكتروني، والذي بدأناه بعد المؤتمر مباشرة.
ومن الملاحظات التي تؤخذ على أداء الحزب، أن استجابة اللجنة المركزية للأحداث تأتي متأخرة في بعض الأحيان، فتصبح تعليقاتنا عليها وتحليلاتنا ضعيفة الجدوى، وهذا لا شك ناشئ عن ضعف المتابعة السياسية وغياب التواصل بين أعضائها، نظراً لتواجدهم في أماكن متباعدة، وهذا ما جعل مثلاً مكتب السياسة وكذلك الأمانة، لا يستطيعان التلبية السريعة لهذه المتابعة. وهذا الأمر كان من الممكن تجاوزه، لو توفرت المهارات الكومبيوترية اللازمة لتبادل الرأي ومتابعة أعمال ونشاطات الحزب.
ومن الملاحظات أيضاً أن المساهمة السياسية تقتصر على عدد قليل من أعضاء اللجنة المركزية. فلا توجد خطة لإشراك الآخرين فيها. وهذه الحالة جعلت كتابات الرفاق قليلة، لا تلبي متطلبات إعلام الحزب، وبالتالي، تتأخر صحافته عن الصدور. وتعتمد بالدرجة الأولى على ماتنشره الصحافة. وهذا أمر يجب استدراكه باستكتاب أكبر عدد ممكن من الرفاق والمتعاطفين وتوثيق العلاقة مع الكتاب والعاملين في الإعلام.
كذلك نستطيع أن نرد ضعف المستوى السياسي وضعف أدائه آت من غياب التثقيف الحزبي الضروري لجميع الرفاق. هذا الأمر لم يكن مطروحاً خلال الفترة الماضية. نأمل أن يأخذ موقعه الجدي للفترة القادمة خاصة أن الظروف السياسية والاجتماعية على المستوى الداخلي والإقليمي تتعقد. الأمر الذي يتطلب معالجات معمقة للعديد من الظاهرات التي تؤثر على معاش الناس وأمنهم وحاضرهم ومستقبلهم. كما تؤثر على مواقف الرفاق، الأمر الذي يتطلب جهداً مكثفاً لفهم واقعنا السياسي والاجتماعي ويساعدنا على صياغة المواقف الموحدة لصفوف الحزب. يمكن أن نجد أشكالاً عديدة لتحقيق هذه المهمة تتلاءم مع أوضاع الرفاق والمنظمات.
هنالك ملاحظات كثيرة على موقع الرأي الألكتروني، أهمها انخفاض ميل الخط البياني للزائرين في الفترة الأخيرة، مقارنة مع ما كان عليه سابقاً. ولأن الموقع يعتبر منبراً للإعلام الحر، فمن واجبه أن يعكس مختلف المواقف المطروحة من المفكرين والباحثين والكتاب السوريين والعرب والأجانب المرموقين الذين ينجذب إليهم الكثير من القراء. فالمتابعون لموقعنا يأخذون علينا تقصيرنا في هذا الجانب. كما يأخذون علينا نشر الكثير من الكتابات التي هي دون المستوى المطلوب. وأخيراً يشعر المراقب للموقع عند مقارنته مع المواقع الأخرى أنه لا يلاحق دائماً تطور الأحداث، هذا عدا عن مسائل تحديثه وإيجاد الطرق الجذابة والسهلة للوصول إلى أي باب من أبواب الموقع. ومن المصاعب التي يواجهها موقعنا تعرضه المستمر للتخريب والحجب نتيجة سياسة السلطة ضد المواقع الألكترونية غير الراضية عنها، وهذا ما يجعل الوصول إليه صعباً.
لقد أظهرت بدايات تشغيل الموقع عن مدى خطورته وأهميته في نشر أحداث يعتم عليها إعلام الدولة أو يحرفها عن حقيقتها، ونشر سياسة الحزب والمعارضة. حيث بالإمكان أن يطلع عليها المواطنون في الداخل وفي المهجر والإخوة العرب، وهكذا أمكن كسر حاجز الحصار الذي كانت تفرضه السلطة تاريخياً على الإعلام المعارض. لذلك علينا أن نحرص على تطوير الموقع ليبقى منبراً سياسياً حراً، قادراً على التأثير في الرأي العام.
قبل صدور مجلة أطياف (تشرين ثاني 2005) تشكلت سكرتاريا حول مكتب السياسة والعلاقات العامة، مهمتها، تقديم ملفات أسبوعية عن الوضع السياسي الداخلي والأوضاع العربية والدولية أيضاً. كان الغرض منها دراستها في ذلك المكتب لإصدار ما يمكن إصداره في إعلام الحزب أو توجيه رسائل داخلية. لكن أعضاء المكتب الذين توزعوا العمل لم يسهموا في تحقيق هذه المهمة ولا في تقديم الدراسات التي وعدوا بها، لكن السكرتاريا تحولت بعد تأسيس المجلة إلى هيئة تحرير لها من الناحية العملية، يشاركها عضوان في إعداد الافتتاحية فقط. ورغم أن المركزية شكلت فيما بعد هيئة تحرير لها، إلا أنها لم تمارس دورها المطلوب. لذلك تبقى مهمة إعادة تشكيل هذه الهيئة المهمة الأولى للمجلة.
لاقت المجلة ارتياحاً وتشجيعاً من مختلف الأوساط داخل الحزب وخارجه، نظراً للطريقة التي اتبعتها في إعداد الملفات والالتزام الذي قدمته في افتتاحيتها الأولى “بطرح وجهات النظر المختلفة في مجتمعنا السوري والمجتمعات العربية والعالمية… ضمن أطر منفتحة بعيدة كل البعد عن التعصب والتزمت” (افتتاحية العدد الأول ص7-8). ونظراً لتوجهها المشار إليه، أضحت أطياف مرجعية سياسية ووثائقية، ليس للمهتمين بالشأن السياسي فحسب، وإنما للدارسين والباحثين والكتاب. ولولا المصاعب الفنية التي نعاني منها، وغياب سياسة مرسومة من أجل توسيع دائرة قرائها، لأمكننا تحقيق نجاح أكبر مما حققناه، وانطلقنا بها إلى خارج الوطن.
من الملاحظات الموجهة إلى هيئة تحرير المجلة أنها لا تنشر المقالات أو الأبحاث المرسلة لها. نحن نعتقد أن أغلبها كتب خارج سياق المحاور السياسية التي نعمل عليها. إن ما ينبغي أن يعلمه الجميع أن اختصاص المجلة واختصاص العاملين فيها ينحصر في المسائل السياسية الساخنة ما بين عددين وما ينتج عنها من قضايا اجتماعية وفكرية..الخ. وهنالك ملاحظات أخرى فنية تمكنا من تذليل بعضها وأخرى لم نتغلب عليها، لأنها خارجة عن إرادتنا فنياً.
إن أهم نقطة ضعف تعاني منها المجلة أنها لاتتلقى إسهامات خاصة بها، وخصوصاً من الرفاق القادرين على المشاركة. ويبدو أن فقر المجلة المادي عائق أساسي في تذليل هذه المسألة، لذلك نأمل أن يعاد النظر في شأنها جدياً. وإن أول ما ينبغي فعله أن تختار المركزية رفاقاً متخصصين ومتفرغين لها بشكل يساهمون مع هيئة التحرير في فتح أبواب جديدة غير الأبواب السياسية كالاقتصادية والاجتماعية والفكرية وحتى الأدبية، وكذلك نحتاج إلى كوادر متخصصة فنياً.
لم يتمكن الحزب من طرق المسائل الاقتصادية والاجتماعية والاستبيانية والثقافية والفكرية والشبابية والنسائية. هناك عجز أو لنقل غياب الكادر المتخصص فيها. فغياب هذه المعالجات تعزلنا عن الناس. ويلاحظ أيضاً أن معظم أعضاء الحزب، يبدون وكأنهم متلقون لما تطرحه اللجنة المركزية في مختلف المواقف والنشاطات. فلا نلاحظ إلا نقداً قليلاً لها، الأمر الذي لا يدخل الحيوية والتجديد إلى حياتنا الحزبية. فهذا آت، كما أشرنا أعلاه، من ضعف الاتصال بين مختلف هيئات الحزب. ورغم أن النظام الداخلي حض على قيام المنابر، وطرح الآراء المختلفة في وسائل إعلامه، إلا أن أننا خلال هذه الفترة لم نشهد شيئاً من ممارسة هذه الحقوق، فبقيت مطروحة نظرياً وغائبة في الممارسة.
صلة الحزب بالمجتمع: ما يؤخذ على حزبنا وعلى الأحزاب السياسية المعارضة، أنها لم تستطع بعد الضربات الأليمة التي تلقتها من النظام التسلطي وأدواته القمعية، أن تعيد صلة الرحم بالمجتمع، رغم توفر هذه الإمكانية منذ تسعينات القرن الماضي وحتى الآن. فهي في الحقيقة بقايا أحزاب أو نوى قابلة للحياة والتجدد والتوسع، إذا وفرت لنفسها الشروط الضرورية المتلائمة مع المتغيرات الجارية في عالم اليوم، وأعادت النظر في سياساتها وشعاراتها السابقة.
إن حزبنا بفضل المؤتمر السادس، جدد سياساته ومواقفه، فكانت سابقة له، لكن لم يكن كافياً طرح المواقف الفكرية والسياسية والتنظيمية من دون تجسيدها على أرض الواقع. وإن هذا التجسيد مرتبط بمسائل عديدة أبرزها توفير الكادر المتمثل لها بعمق، وتجديد الوسائل الملائمة لهذه الظروف للانخراط في المجتمع، وخصوصاً الأجيال الجديدة التي انقطع عنها. بمعنى آخر كان هم الرفاق في الماضي جذب المواطنين إلى عضوية الحزب كإطار سياسي واجتماعي، بينما الظروف الجديدة تتطلب علاقات مع الفئات الاجتماعية المختلفة، قائمة على العمل المشترك في المسائل التي تهمها، بشكل نستطيع تجميع أوسع الدوائر من أجل تحقيق الأهداف المشتركة. ليس المطلوب كم أدخلنا إلى التنظيم من الناس فحسب، وإنما كم رفيقاً تمكن من النشاط في مؤسسات المجتمع من نقابات ونوادٍ وجمعيات وغرف صناعة وتجارة ومدارس وجامعات وغيرها. هذا التوجه مازلنا بعيدين عنه، رغم أن النظام الداخلي حض الرفاق على الانتساب إليها. إن انخراطنا عمقاً في المجتمع ومؤسساته تجعلنا جزءً من جسده، فلا نحس بالغربة عنه، ونكون أكثر تحسساً لمعاناته وأمانيه ومعرفة لها، ونستطيع التعبير عن حاجاته على نحو أفضل، ونتمكن من إيجاد اللغة المتفاعلة والمشتركة بينه وبين الحزب.
لم تغفل عين السلطة عن حركة الحزب بين الناس ومع الحلفاء. لقد تعرضنا كما تعرض غيرنا من المعارضين للمضايقة والاستدعاء والفصل من العمل والمنع من السفر والاعتقال الذي طال أربعة من الرفاق كان آخرهم الرفيق فايق المير (أبو علي) الذي مازال رهن المحاكمة. إننا إذ نحييه ونحيي معه رفاقه كل سجناء الرأي والضمير ونتمنى له ولهم الحرية بأسرع وقت.
لعل الجيل الشاب من الجنسين هو الأكثر حيوية في المجتمع، والذي بحكم تطلعه إلى الحياة الجديدة، بإمكانه أيضاً أن يكون ناقداً لما هو سائد من علاقات وحالات وأعراف، فات أوانها ومطلوب هجرانها أو إعادة النظر بها بصفتها حالة معيقة لتحديثه. للوصول إلى هذه الغاية لا بد من توفير الحريات والفرص والإمكانات له، والتي يقف عائقاً أمامه، التخلف الاجتماعي السائد، والنظام التسلطي الحاكم. لذلك يندر انخراط الجيل الشاب في العمل السياسي والشأن العام. فمن واجبنا إيلاء الاهتمام الخاص بهم، وخلق أجواء من الأمل في أوساطهم، وتبني حاجاتهم ومطالبهم والدفاع عنها بشتى الطرق الممكنة، وتمكينهم من أخذ دورهم ومكانهم داخل الهيئات المدنية والحزبية، بدلاً من النظرة المتعالية تجاههم، تحت حجة ضعف تجربتهم، واتهامهم بالتسرع والتطرف، والتي لا تؤدي في النهاية، إلا بخروجهم منها، أو الوقوع بصراعات حادة معهم، كما نشهده في بعض مؤسسات حقوق الإنسان وبعض الأحزاب، فعلينا أن نتوقف عند هذه الظاهرات لمنع آثارها السلبية على العمل العام.
إن أخطر ما يواجهه المجتمع السوري بعد أن تمزق نسيجه الاجتماعي والوطني للأسباب التي أشرنا إليها في هذا التقرير، أن هناك انتكاسة إلى الوراء، فرضت نفسها حين انكفأت فئات عديدة إلى تجمعاتها الأهلية القديمة كوسيلة للحفاظ على وجودها والدفاع عن مصالحها، حيث لا يجد هؤلاء في مؤسسات الدولة والقانون ما يحفظ حقوقهم المشروعة، ويوفر لهم الأمن والحماية من عسف المتسلطين. فمن الطبيعي أن تظهرتعبيرات متطرفة لتجمعات أهلية مختلفة، تبحث عن مخارج لأزمتها وأزمة المجتمع وتشرعن أفكارها بالعودة إلى “أصول الدين الإسلامي”. ولا شك أن حالة اليأس من تغيير سريع لأوضاع البلاد، توقع الكثير من الشباب وحتى أوساط أخرى في شباك دعاة هذه الأفكار، ويسلكون طريق العنف والإرهاب، ويصطدمون بشكل أو آخر مع السلطة. لذلك نرى أن معظم الاعتقالات تطال هؤلاء حتى قبل أن يحملوا السلاح، ولا شك أن هذه الظاهرات إحدى تعبيرات الضياع الذي يعانيه مجتمعنا، والتي يمكن أن تستفحل مخاطرها مع تأزم الحالة السياسية والاجتماعية في البلاد، ومع المخاطر الخارجية الناجمة عن توترات الوضع الإقليمي. وهذا يطرح علينا مهمات جديدة لمعالجة هذه الظاهرات، والعمل في الأوساط الشعبية، متعاونين مع ممثلي التيارات الإسلامية المتنورة لكبح ظاهرات العنف والتطرف.
تحالفات الحزب: سبق وفصلنا كثيراً في هذا التقرير عن علاقة الحزب بالتجمع الوطني الديمقراطي، ودوره في تأسيس ائتلاف “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي”. فصدور الإعلان ينسجم مع قرار خاص للمؤتمر السادس الذي دعا إلى “مصالحة تاريخية بين التيارات الأساسية لشعبنا تقطع مع الاستبداد”، والذي اعتبرها “مهمتنا الأساسية الأولى” التي وردت في ختام التقرير السياسي (ص103 من وثائق المؤتمر السادس). لقد أعطى الحزب أهمية كبيرة لهذا الإعلان، وعمل بالتعاون مع العديد من أطرافه كي يشق طريقه نحو التوسع داخلياً وخارجياً. لقد شكل تجاوزاً لتقصير وتخلف التجمع الوطني الديمقراطي في أدائه السياسي وصلاته الاجتماعية. كما حمل في طياته بذور تلاقي الطيف المجتمعي العريض، والذي يعبر بطروحاته عن توجهات شعبية واسعة أيضاً. وهذا هو سر ردود الأفعال الكثيرة التي ظهرت بعد إعلان ميثاقه، من مؤيديه ومن معارضيه بما فيها السلطة، فكان حدثاً اهتمت به أيضاً الأوساط العربية والدولية.
وليس خافياً على أحد المصاعب التي اعترت مسيرته خلال السنتين الماضيتين، خصوصاً ضغط السلطة المتواصل لتحجيمه وكبح حركته. لكن الأخطر ما يواجهه في داخله من محاولات لحرفه عن أهدافه التي وردت في وثيقته. فاللجنة المؤقتة التي تشكلت كهيئة قيادية مؤقتة للإعلان استسلمت لتلك الضغوطات، وأصدرت بياناً توضيحياً استجابة لإلحاح الاتحاد الاشتراكي والعمل الشيوعي، وهذا ما سبب اختلافاً ما بين هذين الحزبين وباقي الأطراف حول شرعيته كوثيقة ملزمة ومكملة للإعلان، بينما هي لم تكن كذلك. وقد نقدت لجنتنا المركزية، التي لم تطلع عليه، مضامينه ورفضت اعتباره وثيقة أساسية. وقد صدر هذا الموقف الواضح في افتتاحية جريدة حزبنا (الرأي).
ومن الملاحظات التي تسجل على لجنتنا المركزية أنها قصرت في دعوة الرفاق العاملين في هذا الميدان من أجل تبادل الخبرة والرأي اللذين تجمعا لديهم والاستفادة منهما لرسم الخطة الأسلم، للعمل بين الحلفاء. وفي الحقيقة شهدنا خلال عملنا الطويل مع الحلفاء تنوعاً في المواقف والسلوك تجاه هذه المنظمة أو تلك لدرجة أن صدامات وقعت أو تباعد حاد جرى بين رفاقنا وبين ممثلي بعض الأحزاب ولا داعي لذكر الأمثلة هنا.
وهناك أمور أخرى عديدة تعترض عمل الإعلان، خصوصاً ما يتعلق بالمواقف السياسية الواجب اتخاذها تجاه الأحداث السياسية، ومسائل توسع الإعلان وصياغة بنيته التنظيمية بما يكفل الممارسة الديمقراطية داخله، بدء من انتخاب الهيئات وانتهاء بإعطاء دور للمستقلين في نشاطاته المختلفة. ولا شك أن الظروف التي نمر بها، تدعونا إلى توحيد جهود الجميع من أجل الوصول إلى الحد الأدنى المشترك بين مختلف هذه الأطراف، وعدم السماح للعناصر المتطرفة من داخله أو خارجه بالعبث به، لأنه الحركة الواعدة التي يمكن أن يكون لها دور في الحفاظ على اللحمة الوطنية، وتحقيق مهام وثيقته الأساسية.
أيها الرفاق الأعزاء!
إن هذا التقرير بالشكل الذي عرضناه عن الأوضاع السياسية ومواقف ونشاط الحزب خلال السنتين ونصف الماضيتين هو أقرب ما يكون إلى موضوعات سياسية. فمن ثنايا كل نقطة نستطيع أن نقدم العديد من الوقائع التي يمكن أن تدعمه. لكننا في الختام لا بد لنا أن نوحد الاستنتاجات والمهمات الأساسية التي نستخلصها من هذا التقرير، إذا كانت رؤيته صحيحة أو قريبة من الواقع. ومن تقرير اللجنة المركزية وتقارير ممثلي لجان المحافظات. لنصوغ التوصيات والقرارات اللازمة لتحسين أدائنا الحزبي تنظيمياً وسياسياً.
دمشق أواسط تشرين الثاني 2007 المجلس الوطني
لحزب الشعب الديمقراطي السوري