الشرق بين خصمين
حنا عبود
اكتملت نظرية الحركات التحررية، بصياغتها التي لم تتغيّر حتى اليوم، بعد استلام لينين السلطة في روسيا. وهي نظرية رديفة لنظرية الحركات الثورية. الفرق أن حركة التحرر هي حركة التخلص من التسلط الخارجي بكل أشكاله، بينما الحركة الثورية هي حركة التخلص من الرجعية الداخلية.
غرض لينين من التشديد على حركة التحرر إشغال الإمبريالية في الخارج، حتى لا تتفرغ له في الداخل. فمن جهة ينصرف إلى بناء روسيا وكهربتها، ومن جهة أخرى تكون حركة التحرر (التي تضم طبقات وفئات واسعة من الشعب) خطوة في طريق الحركة الثورية (التي تضم طبقة معينة وهي البروليتاريا، مع الفلاحين) وبذلك يكون قد أرضى نظرية تروتسكي في «الثورة الدائمة».
وبهذه النظرية أمكن تقسيم العالم إلى منطقتين: منطقة حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ومنطقة الحركات الثورية في أوروبا. وقام الشيوعيون في بلغاريا وألمانيا وبعض البلدان الأخرى بحركات ثورية في محاولة للاستيلاء على الحكم، كما قامت حركات تحررية في كل من القارات الثلاث، منذ قيام الثورة البلشفية.
لكن المشكلة أن البرامج التي وضعت لحركات التحرر والحركات الثورية، لم تساعد على بناء الدولة الحديثة. كانت نسخة من الثورة البلشفية، فظهرت البيروقراطية الجديدة التي جعلت المؤسسات تابعة لحزب بعينه، من غير أن تقوم بالخطوات الضرورية لتوطيد مفهوم الدولة الحديثة. ومفهوم الدولة الحديثة يرمي إلى جعل الدولة عنصراً فاعلاً في التقدم المادي والمعنوي، أي تقديم الأدوات التي تمنح القدرة للشعب على الإنتاج المادي والمعنوي، من الإنفاق على البذار حتى الإنفاق على المسرح والفنون والآداب.
لم تستطع حركة من حركات التحرر في كل من القارات الثلاث أن ترتقي بالأوضاع إلى مستوى أعلى مما هي عليه، بل على الضد من ذلك، إذ راحت الأوضاع تتردى أكثر فأكثر في كل المجالات تقريباً، باستثناء الأمن الداخلي، الذي صار هدفه حماية السلطة القائمة. وقد لوحظ أن كل بلد تقوم فيه حركة تحررية، تسقط أركان الدولة الأساسية، ولا تعود المؤسسات تعمل كما يجب أن تعمل. صارت البيروقراطية أكبر أداة بيد الفئة الحاكمة، تستفيد منها، كما يستفيد منها الموظفون فيعملون لمصلحتهم الفردية. ومنذ أيام ماياكوفسكي وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي، نمت الثروات الفردية نمواً كبيراً، حتى أن الأغنياء الروس، بعد السقوط الكبير، عدوا من أكبر أغنياء العالم.
قدمت حركات التحرر شعارات مغرية جداً، كلها تفاؤل، ولكنها لم تستطع أن تفعل سوى تهديم المؤسسات، وخدمة الفئة الحاكمة وفرض نظام أمني قوي جداً.
ولوحظ أن حركات التحرر لا تقيم علاقة إيجابية مع الدين (هناك بعض الاستثناءات في أميركا اللاتينية) بل تعتبره موقفاً سلبياً من التقدم الإنساني، فهو عقيدة غيبية تقوم على أطروحات ميتافيزيائية، لا علاقة لها بالواقع البشري، بل تقف سداً أمام المعرفة العلمية الواقعية. وكالت هذه الحركات التهم الكثيرة للدين: رجعي، مضاد للتفكير العلمي، يجعل الإنسان مستعبداً للقوى الغيبية، وهو مناف لقيام الدولة، كما أنه معاد للنزعة القومية، ومعيق للنشاط الفني والأدبي، يقوم على القمع والاستبداد… إلى آخر ما هناك من تهم.
اتهمت النظرية الدين أنه مناف لقيام الدولة الحديثة، ويقوم على تقسيم المجتمع تقسيماً زائفاً بين مؤمنين ووثنيين، أو ملحدين، أو كفار، أو من أديان أخرى. والأكثر خطورة أن الدين بات منقسماً على نفسه بين ملل ونحل ومذاهب متصارعة، وليست متصالحة، وما جرى بين الكاثوليك والبروتستانت كافٍ للتدليل أن جو العداء الديني وباء يمهد لانقسام غير طبقي.
وفي المناظرات التي دارت في ستينيات القرن الماضي بين الكنيسة من جهة، وبين الماركسيين والوجوديين من جهة أخرى، لا نجد تهمة يوجهها غير المؤمنين إلى المؤمنين، إلا ردّ عليها المؤمنون بتهمة مماثلة يجعلون اليساريين في قفص الاتهام. وقد اشترك لوفيفر وسارتر وروجيه غارودي في المناظرات. ومن أشد المتحمسين ضد الدين يومها كان غارودي، الذي جعل الدين اغتراباً حقيقياً، وانخلاعاً للإنسان من واقعه المادي والحياتي، ودفعه إلى أوهام وتركيبات غيبية لا يمكن تأكيدها، ومن هنا- كما يقول- صعوبة نفيها، فكيف تنفي ما لا يمكن أن يخضع للمحسوس، أو العيني. والغريب أن غارودي نفسه مال فيما بعد إلى النظرية الدينية، ووجد فيها الكثير من الإيجابيات التي يمكن استغلالها ضد الهيمنة الإمبريالية والنمط الرأسمالي في الإنتاج.
أما المؤمنون فلم يتركوا تهمة إلا اتهموا بها اليساريين، سواء تقسيم المجتمع تقسيماً اعتسافياً زائفاً أم الدعوة إلى الصراع الطبقي بدلاً من الصراع الديني، والاستيلاء على السلطة، تماماً كما كانت الكنيسة تعمل في الماضي. والحروب التي شنها اليساريون في العالم أوقعت من الخسائر أكثر من الحروب الدينية… الخ.
اعتقد الناس أن القرن العشرين هو قرن انتصار الاشتراكية، كما أعلن خروتشوف، واندحار الرأسمالية إلى الأبد، ومعها الرجعية الاجتماعية والرجعية الدينية والفكرية… ولكن الذي جرى كان عكس ذلك، فكان للدين دوره في سقوط أوروبا الاشتراكية وأفغانستان. وتعاظم دور الدين، حتى في روسيا، حيث أعيدت نشاطات الجمعيات والمؤسسات الدينية القديمة.
وعاد التيار الديني إلى الشرق الأوسط بقوة كبيرة بعد سقوط السوفييت على يد المجاهدين المؤمنين، وصار له نفوذه في الفكر والتنظير، ومنافسة كل النظريات الاجتماعية القائمة. فهل خطط الغرب أن يجعل انهيار الأنظمة الشرقية على يد الدين (المستخدم عملياً، أو الفوضى الخلاقة، المطروحة نظرياً) كبديل لحركات التحرر، كما نشهد في بعض سيناريوهات الشرق الأوسط؟ وهل تقوم دولة في هذه الأنظمة، أم تقوم حركات تحرر جديدة، كأن المكتوب أن يظل الشرق بين هذين الخصمين، اللذين لم يبن أي منهما دولة قابلة للحياة؟ أم أن «العولمة» ستفرض شكلاً جديداً؟
كاتب من سورية