الإقناع بالإكراه
ابتهال عبدالعزيز الخطيب
«ليس لحرية التعبير قيمة إذا لم يستمع أحد لما يقال، يجب أن تكون هناك حرية استماع كذلك». سمعت هذه الجملة في برنامج جوائز الإيمي الأميركية على لسان أحد الفائزين، فكان أن أخذتني الجملة لواقعنا الحالي، فنحن، وصولاً الى مرحلة فكرية خطيرة، نفتقر إلى الإثنين. بصراحة ومباشرة، لقد سيطر التيار الديني الإسلامي على العقل العربي المسلم اليوم، فوضع أمامه مئات المحرمات التعبيرية، ثم آلافاً غيرها استماعية.
أؤكد هنا أن الخطاب المسيحي الديني ليس بريئاً من المنحى عينه، الفرق، أن المسيحية اليوم مقننة علمانياً، فقوانين البلدان الغربية الحاضنة للمسيحية تحمي حقوق أفرادها في حرية التعبير والقراءة والاستماع، وتضع قيوداً مدنية وإنسانية على أي خطاب ديني متشدد، حامية من خلالها حقوق الأفراد في اعتناق، أو ترك هذه الديانات، من دون أن يشكل ذلك خطرا على حرياتهم أو حقوقهم الإنسانية والمعيشية.
في بلداننا العربية والإسلامية، تتضافر الحكومات السياسية مع الحكومات الدينية، فالأولى توفر الغطاء الرسمي للثانية، والثانية تعطي شرعية روحانية للأولى..
وهكذا يحكم الاثنان قبضاتهما الكثيرة على أرواحنا، فيعيش معظمنا في رحى دائرة من الخوف والتأنيب وعذاب الضمير، وينشغل بدقائق صغيرة وأخرى مضحكة وثالثة مبهمة حتى لا يرى الصورة الكبرى، ويظل يدور مغمض العينين في دائرة الرعب الأزلية التي تحيله، كلما حاول الخروج منها، إلى عذاب القبر وأهوال الجحيم، فيخيط فمه بألف خيط، ويفقأ عينيه بألف دبوس، ويستمر في الدائرة بهمة بدنية عالية، وعقل خاو مرهق.
لا أنكر أننا في الكويت نحظى بسقف عال من الحرية، لكن، لايزال هناك سقف يصطدم به الرأس إذا ما حاول النظر فوقه، الحرية هي الانطلاق، فما أن نضعها أسفل سقف حتى تصبح عبودية.
الخطر اليوم هو أن جماعاتنا الدينية تحاول إنزال هذا السقف أكثر وأكثر، أشعر به وقد أحالنا مشلولين مستلقين على ظهورنا، وأي منا يحاول أن ينهض، يسيل دمه على جبينه من اصطدامه بسقف الكونكريت الديني هذا. ففي قانون المطبوعات الديني، لا يصح نشر أي بحث علمي عن الرسول عليه الصلاة والسلام، أو الصحابة.
لا نقد دينيا أو ثيولوجي، لا اقتراب من الكتب المعتمدة من الجماعة، ثم، يصاحب تحديد التعبير هذا، تحديدٌ أشد وأنكى للاستماع والاستقبال، لا لليوتيوب، لا للمدونات، لا للستلايت، لا للكتب، وعندما يبدأ الاخضرار بالنبات على سطح العقول، وتشيع رائحته، يكون الغرض قد تم، وتستطيع «الحكومتان» ساعتها أن يتبادلان «الهاي فايف» على نجاحهما المنقطع النظير.
لست أبالغ والله، بحق كل المدونات التي أغلقت والقنوات التي شفرت، والكتب التي منعت، لست أبالغ بحق مستشفى رويال حياة، وحفل تامر حسني، لست أبالغ بحق ميكي ماوس وتوم وجيري.
نقف اليوم على حافة خطيرة من التعفن الفكري، ونغامر بحق حتى بالدين الإسلامي نفسه، فنحيله إلى مصير جامد، نعم مصير جامد، فعندما تغلق أبواب الحوار، ولا يسمح لأي فكر سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو روحاني جديد بالتأقلم والتفاعل مع الأفكار الدينية المعتمدة، يتعرض هذا الفكر الى جمود، لا يدخله شيء ولا يخرج منه جديد، نحيل الفكر الديني الى مياه راكدة (في تناقض مضحك مع المعنى اللغوي لكلمة شريعة: الماء المتحرك) ومتى ما ركد، اخضر، ومتى ما اخضر، ابتعد عنه الناس وتجنبوا السباحة فيه.
فعلنا فعلتنا ذاتها سابقاً مع اللغة العربية ولانزال، فمجامعنا اللغوية تصر، الى اليوم، على مقاومة أي تحديث في اللغة، أو تفعيلها مع الواقع الحديث، أو استقبال كلمات من لغات أخرى في صفوفها، فركدت اللغة تماماً، وهي على وشك أن تلفظ أنفاسها، مع الأسف الشديد، في ظل عولمة لغات أخرى اجتماعياً وعلمياً واقتصادياً.
إن أهم باب يجب أن يفتح اليوم هو باب الحوار الديني، وأكثر الاختلافات وأجرأ الآراء يجب أن يفسح لها الطريق تماماً في الأمور الدينية، وأسمح العقول يجب أن تكون تلك لرجالات و«نساءات» الدين المحاورين، والا ستركد العقليات الحاملة للدين، ستتحجر، أكثر مما هي متحجرة الآن، وستجرنا معها جميعاً إلى مكان مظلم جداً لن يحررنا منه إلا ثورة دموية كتلك التي سبقت عصر التنوير الأوروبي، والتي لاأزال أمني النفس بسذاجة بعدم حدوثها.
عن جريدة أوان