في العنف والسلطة
شادي العمر
نبّه الفيلسوف الإنجليزيّ ديفيد هيوم إلى العقبة الأبيستيمية التي تعيق العقل عن التفكير السليم وتؤدّي به إلى الوقوع في الخطأ الناتج عن حالات تكرار اقتران ظاهرتين، سواء كانتا متتاليتين أو متصاحبتين، فيتوهّم بينهما علاقة ضرورية أو مبدأ عِلّياً، يسحبه على الحالات التي لم تقع بعد، وذلك نتيجة العادة التي نشأت عن الملاحظة المتكرّرة لحالات الاقتران، فملاحظة أنه كلما وجدت (α) وجدت (β)، تتحوّل بالتكرار إلى مبدأ عقليّ “موهوم” يقرّر أنه إذا وجدت (α) فلا بدّ أن توجد (β) إذا كان الاقتران بينهما على التوالي. أو إذا وجدت (α) فلا بدّ أن توجد (β) والعكس صحيح، إذا كان الاقتران بينهما على المصاحبة. وقد انتهى هيوم إلى إخراج مبدأ العلّية هذا من دائرة مبادئ العقل “أو قوانين العقل”، والتي تتّصف بالشمول والكلية والبداهة، طالما أنه لا يوجد في العقل ما يمكنني من الاعتقاد بوجود (β) كلّما وجدت (α)، إلا بالاعتماد على العادة المترتّبة على خبرتي الحسّية في عالم الأشياء والطبيعة.
ولكنّ إخراج مبدأ العلية من دائرة مبادئ العقل لا يعني نفي صفة الصّدق الصّوريّ عنها، طالما أنها حقيقة واقعية يقرّرها الاستقراء ويبرهن عليها التجريب، وعليها أيضا يقوم أساس العلوم الطبيعية، التي تهدف في صورتها النهائية إلى الكشف عن القوانين التي تفسّر الظواهر المادية وتوفّر إمكانية توجيهها والتحكم بها. ومع ذلك، يبقى لتنبيه هيوم أثره في التمييز بين مستويين في العلّية أحدهما يختصّ بالظواهر الطبيعية والآخر بالظواهر الإنسانية، فينشأ عن الأوّل حقل العلوم الطبيعية، وعن الثاني حقل العلوم الإنسانية (أو الإنسانيات على اعتبار أنّ الظاهرة الإنسانية ما زالت ذات كيفية عصيّة على التفسير العلميّ القادر على كشف قوانينها). ولأنّ العلّية ليست مبدأ عقليا شاملا وكلّيا ويتّصف بالبداهة، فإنّ الوثوقية التي تتّصف بها في حقل العلوم الطبيعية تغدو في مجال الإنسانيات محلّ شكّ وارتياب، الأمر الذي حوّل هذه الأخيرة نحو مناهج أخرى تختلف في أدواتها ومسلّماتها عن المناهج المعتمدة في العلوم الطبيعية.
ويبدو أنّ الاقتران بين السلطة والعنف كظاهرتين متصاحبتين، قد أدّى في كثير من الأحيان إلى الوقوع في مغالطة “العلاقة الضرورية” بينهما ، فأصبح كلّ من الطرفين (السلطة والعنف) علّة للطرف الآخر ومعلولا له، وهذا ما يجعلها مغالطة غير محكمة البنية، ذلك لأنها تنتقل بين العلّة والمعلول في كلا الاتجاهين، فتزعم أوّلا أنّ العنف نتيجة حتمية عن السلطة، أي حيث تكون السلطة يكون العنف، وكأنّ موقعه منها مثل موقع الإحراق من النار. وتزعم ثانيا أنّ السلطة لا تقوم إلا على العنف، فهو شرط لازم وضرورة لا بدّ منها لها، أي للسلطة.
لا يتّسم الانتقال بين العلّة والمعلول في كلا الاتجاهين بسمة منطقية واحدة، فعندما تكون السلطة هي العلّة والعنف هو المعلول ، يكون توصيف هذه العلاقة بينهما بنسبتها إلى “مبدأ الحتمية”، ويمكن التعبير عن هذه العلاقة بالصيغة المنطقية الدقيقة التالية: “حيث تكون السلطة فالعنف كائن حتماً”!!! أمّا عندما يكون العنف هو العلّة والسّلطة هي المعلول، فيكون توصيف العلاقة بينهما بنسبتها إلى “مبدأ السببية”، ويصاغ التعبير عن هذه العلاقة صياغة سلبية على الشكل التالي: “لا تكون السلطة إلا إذا كان العنف”، والفرق الرئيس بين المبدأين أنّ الأوّل يفسّر وجود ما هو كائن فعلا، أمّا الثاني فيفسّر الكيفية التي بها يوجد ما يمكن أن يكون.
أرجو أن لا ننسى أنّ الصياغات السابقة تعبّر عن مغالطة منطقية لا عن حقيقة واقعة، هذا على الأقلّ في رأي الكاتب، وأنّ هذه المغالطة تعود إلى الاقتران الدائم بين العنف والسلطة. وما يجدر التنويه إليه قبل المضيّ في كشف بنية هذه المغالطة، هو الوقوف على النتائج التي أسفرت عنها، والتي يمكن حصرها في فكرتين موهومتين اثنتين هما: “تشريع العنف” و”تبرير استبداد السلطة”.
يقوم وهم تشريع العنف على حقيقة تشريع السلطة من جهة أنها ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها للاجتماع البشريّ الذي لا يكون إلا بها، وذلك كنتيجة صورية عن المقدّمتين التاليتين: السلطة شرط الاجتماع البشريّ (و) العنف شرط السلطة؛ إذن، العنف شرط الاجتماع البشريّ. أما لماذا كان العنف شرطا للسلطة، فهذا ما تتطلبه طبيعتها كي تتحقّق ماهيتها، وتكون بالتالي قادرة على إنجاز الغاية التي وجدت لأجلها، وطبيعتها هذه هي أن تكون قادرة على فرض هيبتها من جهة، وأن تكون واحدة غير متعدّدة ولا منقسمة من جهة أخرى، وهذا يتطلّب الحاجة للعنف الذي من خلاله يتمّ فرض الهيبة أوّلا، ثم ثانيا القضاء على كلّ الراغبين إمّا بامتلاك جزء منها أو بالخروج عليها. وهكذا يتمّ الانتقال من تشريع العنف كضرورة لنشوء السلطة إلى تبرير العنف المستند على تبرير استبدادها، والذي سيبقى ما بقيت حاجتها للاستبداد كي تضمن استمرارها، طالما سيستمرّ وجود السّاعين إليها أو الراغبين بالخروج عليها.
يُلاحَظ أنّ تناول مفهوم السلطة بهذا المعنى لا يخلو من أثر الدراسات التاريخية في تحديد ماهيتها وطبيعتها، بالإضافة إلى أنه يغفل جوانب عدة صار اعتبارها ضروريا لمناقشة “مشكلة السلطة” في تفكيرنا المعاصر، فقد أصبح مبدأ تقسيم السلطة إلى ثلاث سلطات مستقلة شرطا ضروريا لشرعيتها، على العكس تماما من فكرة الوحدة التي كانت تميّز السلطة عبر تاريخها، أمّا السعي للحصول عليها فقد أصبح حقّا مشروعا تكفله وتنظمه أغلب الأنظمة السياسية القائمة، لذلك يغدو المفهوم المعاصر للسلطة “كما يراد لها أن تكون” في حالة قطيعة شبه تامّة مع أشكال السلطة وطبائعها عبر تاريخها، وليس من المجدي دائما العودة للتاريخ في تحديد ما هو حاضر، خاصة عندما يتجاوز الأمر مجرد النتائج النظرية إلى حقل التطبيق الفعليّ والممارسة العملية.
الملاحظة الأخرى حول هذا المعنى في السلطة هي أنه لا يميز بين السلطة ككيان قائم مستقل وثابت من جهة، وبين المتسلّط أو صاحب السلطة أو حتى المستفيد منها من جهة ثانية، ذلك أنّ نزع السلطة من يد شخص أو جهة لا يعني زوالها المطلق، بل هو زوال بالنسبة لمن كان يمتلكها شخصا كان أو جهة، وهو في نفس الوقت انتقالها لشخص أو جهة أخرى، وليس من الصحيح دائما أنّ القابض الحالي على السلطة هو صاحب الحقّ فيها أو الأجدر بها من غيره، بالمعنى الذي يمكن أن يؤدّي إليه عدم التمييز هذا، ويخبرنا التاريخ كم من حالة كان العنف فيها هو الطريق الأقصر والأجدى كي ينجح مغامر ما في اغتصاب سلطة شرعية، ثم كان الاستبداد وسيلته كي يحافظ عليها ويضمن استمراره في قلبها.
أيضا، وفي حالة لا تخلو من إغراق في التنظير، تنافح بعض الآراء عن العلاقة الضرورية بين السلطة والعنف، بالاعتماد على أنّ جوهر السلطة هو الإرغام “أو الإكراه”، فهو الذي يبقى ثابتا في كل حالاتها وأشكالها، وهو الذي لا تخلو أي سلطة منه، سواء كانت شرعية أو غير شرعية، وإلا فإنها لا تكون سلطة، ويقوم هذا الإرغام على سطوة المتسلّط في إصدار الأمر، ويقابلها امتثال المأمور بالطاعة. ومن هنا يؤكّد أصحاب هذا الرأي على التعارض بين الحرية والسلطة، طالما أنّ الثانية تحدّ الأولى وتختصر الكثير من هامشها نزولا عند ضرورة الاجتماع البشريّ والمصلحة العامة، إذن فهي دائما تمارس نوعا من العنف على الأشخاص الذين تحكمهم وتفرض سطوتها عليهم.
يقوم الرأي السابق على تصوّر السلطة كوضع يتنافى مع الحالة الطبيعية للإنسان كما تحدث عنها هوبز ولوك وروسو، والتي كانت تمتاز بالحرية الكاملة التي كان يتمتّع بها الأفراد في المرحلة “الما قبل-سياسية”، ثم غادروها مرة واحدة وإلى الأبد بدخولهم في مرحلة المجتمع السياسيّ.
يمكن ملاحظة أنّ النتيجة التي وصل إليها القائلون بالتلازم بين العنف والسلطة بناء على التعارض بينها وبين الحرية، إنما تعتمد على مقدّمة تصادر تعريف الحرية على أنها التطابق مع الحالة التي كان يعيش فيها الإنسان قبل أن تتكوّن المجتمعات السياسية، ليستنتجوا – وبشكل صوريّ – أنّ السلطة التي تمارسها الدولة لا يمكن أن تخلو من العنف الذي يرغم الإنسان على التنازل عن جزء من حريته لصالح سلطة ما، حتى لو كانت شرعية، كسلطة الدولة باعتبارها بنية المجتمع السياسي. إذن… لا سلطة بلا عنف!
الملاحظة الثانية هي أنّ هذه الآراء سحبت هذا التحديد الخاص والضيق للعنف وأطلقته على العنف بكافة أشكاله، فشملت بذلك الحالات الجزئية والخاصة والطارئة، ودعمت فرضيتها بالاستشهاد بالثورات العنيفة وحالات العصيان والتمرد المدنيّ بعد عزلها عن سياقها التاريخيّ، وبالحروب أيضا، دون التمييز بين الطرفين المتحاربين. ودون أن تميّز قبل كلّ شيء، بين “عنف” سلبيّ ينتج عن حرمان الإنسان من حريته البدائية وخضوعه لسلطة القانون ومنظومة المؤسسات الجماعية، وعنف آخر فاعل، يقوم على العدوان والإيذاء الجسديّ أو المعنويّ.
علاقة السّلطة بالعنف:
لست في صدد إنكار أيّ علاقة بين السلطة والعنف، وإنّما إنكار شكل ما من الأشكال المفترضة لهذه العلاقة، فكلّ ما تقدّم هو محاولة لتفنيد فكرة العلاقة الضرورية التي تقوم على حاجة السلطة للعنف، وبالتالي تبريره أو تشريعه. ولكن، حيث أنه لا يمكن إنكار اقتران هاتين الظاهرتين، فما هو إذن شكل العلاقة القائمة بينهما؟
ليس العنف نتيجة حتمية عن السلطة ولا شرطا ضروريا لها، بل السلطة هي الشرط الضروريّ للعنف، ولكنّ هذا لا يعني أنها نتيجة حتمية عنه. فلكي يتحقق العنف لا بدّ له من سلطة تمكّنه من ذلك، وهذه السلطة التي تمكّن العنف من أن يكون، هي لا شرعية بكافة أشكالها، حتى لو كانت شرعية في أساسها قبل أن تصبح أداة للعنف كي يتمكّن من فعل فعله. والعنف إذ يشترط وجود السلطة كأداة له، فإنّ هذا الاشتراط يتحقّق من خلال شكلين اثنين، الأوّل هو استعمال سلطة قائمة، والثاني هو فرض سلطة لم تكن موجودة.
بالنسبة للشكل الأول، ليس الأمر مقصورا على السلطة في المجال السياسيّ فحسب، ولكنه يكون أوضح وأبرز في هذا المجال، وكثيرة هي الحالات التي وصل فيها شخص أو مجموعة أشخاص (حزب أو مجلس أو هيئة) إلى هرم السلطة الشرعية، وبطريقة مشروعة أيضا، ثم انقلبوا على هذه الشرعية، إما بإساءة استخدام السلطة أو رفض التنازل عنها بعد زوال حقّهم فيها، وفي كلا الحالين سيبرز العنف بأقصى أشكاله محميّا بسلطة الدولة وهيبتها وممتلكاتها. وعلى نفس مبدأ إساءة استخدام السلطة هذا، يمارس ربّ العمل العنف على العامل، ويمارس المدرّس العنف على الطالب، ويمارس السجّان العنف على السّجين، فربّ العمل والمدرّس والسجّان هم أصحاب سلطة يمارسون العنف من خلال إساءة استخدامهم لها.
أمّا الشكل الثاني، “فرض سلطة ليست قائمة”، فيبدو أبرزَ في العنف الأسريّ الذي يمارسه الزوج على الزوجة عندما يعتقد أنّ مجرد كونه رجلا يمنحه السلطة على المرأة. أما المثال النموذجيّ لهذا الشكل فهو ما يتجلّى في الإرهاب كأقصى أشكال العنف، فعندما يشهر شخص ما قنبلة على متن طائرة فإنه يمارس عنفا لا محدودا من خلال فرض سلطة لم تكن موجودة، لتنحني أمامها بالطاعة كلّ سلطة، حتى لو صدرت عنها الأوامر بالتوجّه لاختراق أبنية عالية ومن بعدها الهبوط في هاوية الجحيم.
موقع الآوان