الأمير والثعلب
الياس خوري
تقديم ابن المقفع للعالم الحيواني في وصفه صورة للسلطة، في كتابه “كليلة ودمنة”، سوف يجد تأكيده بعد ذلك بقرون في كتاب يعتبر تأسيسيا للفلسفة السياسية المعاصرة، كتبه مفكر وديبلوماسي فلورنسي عاش في النصف الثاني من القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، يدعى نيكولا ماكيافيللي. لا تصح المقارنة بين الرجلين. ابن المقفع كان يمارس دوره في نقد السلطة والسخرية منها، لذا كان مصيره الموت حرقا، بينما كان الفيلسوف الفلورنسي ينظّر لكيفية احتفاظ “الأمير” بالسلطة. لكن الكاتبين استعارا عالم الحيوان من اجل شرح آلية السلطة. مؤسس النثر العربي الذي ترجم كتابه عن الفارسية، كان “شعوبيا”، في عرف الزمن العباسي، ولم يتعدّ دوره الكتابة والنقد، اما المفكر الفلورنسي فكان ديبلوماسيا وقائدا للميليشيا الجمهورية في مدينته. حتى بعد سقوط الجمهورية وعودة آل مديسيس الى الحكم، فإن ماكيافيللي الذي اعتقل وتعرّض للتعذيب، اطلق سراحه وانصرف الى التأليف.
لا اريد مقارنة مصائر الرجلين، فالمثقف او الكاتب، لا يستطيع التعامل مع السلطة الا في شكل نقدي، والا بطل دوره، وانهارت سلطته الأخلاقية. وقد يضطر الى دفع حياته ثمنا لمواقفه. اما رجل السلطة الذي يكتب، فهو ليس معنيا بسوى فهم تركيب السلطة، كي يتسنى له او لسيده الأمير الاحتفاظ بها.
تجسدت الماكيافيللية في الثقافة السياسية الاميركية المسيطرة، التي انتجت تركيبة فكرية سياسية تستخدم الثقافة والعمل الأكاديمي في خدمة الامبراطورية.
المسألة التي اود التوقف عندها هي علاقة السياسة بعالم الحيوان. جريدة “لوموند ديبلوماتيك” نشرت نصا لجاك ديريدا عن ماكيافيللي، حيث يشير فيلسوف التفكيكية الى مقطع من كتاب “الأمير”، يعالج علاقة السلطة بالعالم الحيواني.
ماكيافيللي ينصح اميره بأن ينكث العهود اذا لم تكن ملائمة، ويطلب منه ان يجد لنفسه مرجعا حيوانيا، لأن الاكتفاء بالطبيعة الانسانية سوف يقوده الى التهلكة.
يستنبط ماكيافيللي المرجع الحيواني من الاستعارات القديمة، التي تقول ان اخيل والعديد من الأبطال وضعوا في عهدة القنطور (كائن خرافي نصفه انسان ونصفه حصان) كي يربيهم. اي ان السلطة هي في اصلها مزيج مركّب من الطبيعتين الانسانية والحيوانية. لكن المفكر الفلورنسي لا يتوقف عند الجانب الانساني في الأمير، بل يدعو الى حيوان نموذجي جديد. يتخلى عن الحصان، ليدعو الأمير الى ان يكون مزيجا من الأسد والثعلب، اي من القوة والدهاء. يستطيع هذا الحيوان الهجين مواجهة الذئاب والانتصار عليها، لأنه ماكر لكي يتجنب الأفخاخ، وقوي لكي يسود. البعد الانساني الوحيد في الأمير، يكمن في استخدام الذكاء من أجل استنباط حيوان هجين، يرعب خصومه، ويمكر بهم، تمهيدا لسحقهم.
هذا الحيوان المزدوج هو وسيلة الأمير كي يحتفظ بالسلطة، بل هو امير الأمير. لأن هيجان الأسود من دون مكر الثعالب، قد يقود الى النهاية. وقد رأينا نموذجا لهذا الهيجان في الديكتاتور العراقي، الذي سقط في حفرة شعوره المتعاظم بالقوة، وانتفاخه بها، فأودى بنفسه الى الموت، وببلاده الى الخراب.
غير ان التصرف الحيواني للسلطة، الذي صار من علامات السياسة الاميركية، بحسب نعوم تشومسكي، لا يمكن ضبط عناصره. فثعلبة جورج بوش الأب في حرب “عاصفة الصحراء” قضت عليها حمرنة جورج بوش الابن في غزو العراق. فالقوة الحيوانية التي تملكها الامبراطورية ليست بلا حدود. وهذا ما اثبتته حرب تموز 2006، اذ اجتمعت عنجهية حلوتس مع غباء اولمرت وبيريتس، كي تصل اسرائيل الى الفشل، وكي تكون تلك الحرب نموذجا لانهيار منطق القوة، وتحوّل الاسود الى ذئاب تعوي.
غير ان اطلاق اسم حرب لبنان الثانية على حرب تموز، قد يعني ان الذئب الاسرائيلي يستعد لحرب ثالثة، يعود فيها الى تبني حيوان ماكيافيللي الهجين.
استخدام ابن المقفع لعالم الحيوان في نقده للسلطة، كان حيلة رمزية لجأ اليها الكاتب كي يتجنب غضب السلطان. اي انه صنع من العالم الحيواني عالما موازيا نسجته الكناية. اما لجوء ماكيافيللي الى حيوانه الهجين، فكان محاولة لوضع السلطة في اطارها الفعلي، والتعامل معها كإسقاط لا بد منه للعالم الحيواني على العالم الانساني، عبر اطاحة القيم الانسانية، واعتبار السلطة هدفا مطلقا.
الكاتب السوري زكريا تامر له رأي آخر. ففي مجموعته القصصية “النمور في اليوم العاشر”، استعار عالم النمور التي تم تدجينها في الأقفاص، كي يتحدث عن الشعب لا عن الحكام والأمراء. وفي هذه الاستعارة عودة ما الى ابن المقفع، الذي جعل من الثورين الابيض والاسود نموذجا للسذاجة التي تودي بصاحبها. هذه الاستعارة كان يرددها ياسر عرفات دائما، الى ان اطبقت عليه استراتيجيا الاكورديون، فأُكل الثوران في وقت واحد.
اقتراح زكريا تامر جدير بالاهتمام، فاذا كان الامير مزيجا من الأسد والثعلب، فماذا على الشعب ان يكون؟ هل عليه ان يمزج النمر بحيوان آخر؟ وكيف يمكن اغراء الثعلب بالالتحاق بالنمر والتخلي عن الامير؟
ماكيافيللي لم يعر هذا الجانب اهتماما كافيا، وستكون لهذا الخطأ آثار كارثية. فالأسد الاميركي، وقع في مصائد لا تحصى، من فيتنام الى العراق، لأنه انتفخ بالقوة والتذاكي. وهنا تقع مسؤولية مجموعة من المثقفين العرب من تلامذة برنارد لويس، الذين اعتقدوا انهم يتثعلبون، وهم يزيّنون للاميركيين غزو العراق، وكأنه نزهة. فاذا بالثعلبة تنقلب حماقة، واذا بتنظيرات فؤاد عجمي واوهام كنعان مكية تتلاشى في بحار الدم والتفكك في العراق.
مشكلة نظرية ماكيافيللي انها لا تعلّم الأمير كيف يستطيع التأكد من وصوله الى المركّب الحيواني الملائم، فقد يعتقد انه نمر حين يكون ضبعا، والى آخره. وهنا تقع المشكلة التي حاول ناصيف اليازجي حلّها حين كتب “اذا رأيت الكلب في ايام دولته”. هنا اخطأ صاحب “مجمع البحرين”، فتشبيه السلطان بالكلب غير ملائم، لأن الكلب وفيّ وأمين ونزيه. اغلب الظن اننا اخطأنا في فهم قصد اليازجي، فهو لم يقصد الأمير بل كلبه. وليس صحيحا ان كلب الأمير هو امير الكلاب، كما تقول العرب، بل الصحيح ان من يرضى ان يكون خادما ثقافيا للأمير يصير كلبا.
والى آخره…
النهار