هل الصراع السنّي – الشيعي صراع ديني؟
د.فيصل دراج
في كتابه «الفتنة الكبرى»، الذي ظهر الجزء الأول منه في نهاية أربعينيات القرن الماضي، تحدث طه حسين عن انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة، وتأسى على هذا الانقسام الذي يضعف وحدة المسلمين. لم يفسّر حسين، وهو يعود إلى زمن الخلفاء الراشدين، الانقسام الديني بأسباب دينية، بل توقف أمام سياسة عثمان بن عفان، الخليفة الثالث رضي الله عنه، وقرأ سياسات معاوية، الخليفة الأموي الأول، الذي لم يكن حسين معجباً به. أنجز حسين بحثه متقصياً الأسباب الاجتماعية والسياسية والفكرية التي أنجبت هذا الانقسام، وبرهن أن الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أراد أن يكون خليفة عادلاً في زمن انتهت فيه الشروط الاجتماعية التي تسمح بالخلافة.
لم يكن في نهاية أربعينيات القرن الماضي ما يشير إلى تحزّب طائفي، ولم تكن الطائفية لغة مزدهرة أو واعدة. كانت إيران تتهيأ لقدوم حكومة مصدّق، الذي أراد تأميم النفط ومواجهة الاستعمار، وكان العالم العربي، «السني تاريخياً» مشغولاً بقضايا الاستقلال الوطني ومهجوساً بخطر قيام دولة إسرائيل. ولم يكن للغة الطائفية من نصيب في زمن صعود الناصرية، ولم تكن الأحزاب السياسية الفاعلة تلتفت إلى الهويات الطائفية، فقد كان مدخل الحاضر والمستقبل هو: الوعي القومي. وحين اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وارتفعت نبرات طائفية، لم يكن المقصود فيها نزاعاً سنياً – شيعياً، بل حسابات مختلفة بين المسلمين والمسيحيين. فلم ترتفع نبرة الفرق بين السني والشيعي إلاّ في بداية تسعينيات القرن الماضي، مع بداية انهيار النظام العراقي البعثي، وزادت ارتفاعاً بعد سقوطه. كان طبيعياً بعد هذا أن يشهد الشرق الأوسط بخاصة ظاهرة «الصعود الشيعي»، وذلك لأسباب واضحة ثلاثة: سقوط النظام العراقي الذي كان «قومياً – سنياً»، وغبطة «أكثرية شيعية» عراقية اعتقدت أن النظام السابق ألحق بها غبناً شديداً، وكانت إيران هناك تراقب ما جرى مرتاحة، حالمة بميراث واسع يجعل منها «قوة سياسية – دينية» حاسمة في الشرق الأوسط والعالم العربي.
إذا كانت ظروف العالم العربي، قبل خمسين عاماً، جعلت من الصراع الطائفي السني – الشيعي أمراً مستحيلاً، فإن اختلاف هذه الظروف أنتج اليوم «ظاهرة التشيّع»، التي يشكو منها بعض رجال الدين السنة، وهي التي حوّلت الدولة الدينية الإيرانية إلى قوة سياسية صاعدة، تمزج بين الدين والسياسة، وتعطي لهذا المزيج السلطوي صفة جهادية. والسر لا يقوم في إيران، التي لها طموحات سياسية مثل أية دولة ذات ماضٍ إمبراطوري قديم، بل يقوم في العالم العربي: سقوط القومية العربية وتفكك المجتمعات العربية والفقر والجهل اللذان يتقدمان بوتائر واسعة. ساعد على ذلك تقديم إيران لذاتها كقوة معادية للولايات المتحدة وشعاراتها المعادية لإسرائيل، ونجاح «حزب الله» -الشيعي اللبناني- في إلحاق «هزيمة» بإسرائيل في صيف 2006.
ولعل هذه الأسباب المختلفة، التي يطغى فيها الضعف العربي على غيره، هي التي تفرض على «الوعي الديني» في العالم العربي أن يأخذ بأحد موقفين: إمّا الدعوة إلى «الوحدة الإسلامية» بشكل عام معلناً، أن كان متسامحاً، بأنه لا فرق بين عمر وعلي فكلاهما من الصحابة، ومن الخلفاء الراشدين، أو الدعوة إلى الدفاع عن «الهوية السنية» التي تتعرّض إلى الغزو الشيعي الإيراني، كما يقال. والموقف الأول متسامح لا يفتش في الصدور مقتنعاً بما جاء به القرآن الكريم: «كنتم خير أمة أخرجت للناس» على خلاف الموقف الآخر، الذي يتحدّث عن قتل الشيعة للسنة في العراق، واعتبار «الاسم السنّي» وحده مبرراً للاغتصاب والتنكيل، مذكّرا أيضاً بالأموال الهائلة التي ترصدها حكومة إيران من أجل «التبشير الشيعي»، التي رفعت من قيمة الجنيه المصري إزاء الدولار في مصر، كما جاء في بعض الصحف. والجدير بالذكر ، كما يرى غير المتدينين بعامة، أن التشيّع ميسور في المناطق الفقيرة والأقل تعلماً، وميسور بنسبة أقل كثيراً، لدى هؤلاء الذين يؤمنون بقدرة إيران على تدمير إسرائيل!
والأمر في ألوانه الدينية لا تنقصه الطرافة: ما هو شكل الإيمان المتوارث الذي تنقله الأموال الوافدة من طائفة إلى أخرى؟ وهل المال من حيث هو تلك القابلة العجيبة التي تستولد ما شاءت من الطوائف والمذاهب؟ وهل هناك من إيمان موروث إذا عرفنا أن مصر كانت شيعية خلال فترة الفاطميين؟ وإذا كانت هذه الأسئلة موجهة إلى المدافعين عن «الهوية السنية»، فإن أسئلة أخرى يمكن أن توجه إلى حماة «الهوية الشيعية» أولاً: إذا كان التشيّع اليوم «معجزة من معجزات أهل البيت»، كما يقال، فلماذا لم تظهر هذه المعجزة أيام معاوية وهارون الرشيد وصولاً إلى زمن جمال عبد الناصر؟ ولماذا لم تبدُ قوية فاعلة إلاّ بعد سقوط النظام العراقي؟ ولماذا تحتاج المعجزة المقدسة إلى تدفق الأموال؟ ولماذا لم تكن فاعلة أبداً خلال الحرب العراقية – الإيرانية في زمن صدام حسين؟
إذا وضعنا شرح الظواهر الدينية بأسباب دينية جانباً، يمكن التمييز بين أمرين: أمر ثانوي عنوانه «تشيّع» المحبطين والفقراء، فلا إمكانية لصعود وعي ديني قلق في أزمنة التقدم والازدهار، وأمر جوهري عنوانه: سياسة التشيّع السلطوية، التي تحتاج إليها دولة صاعدة طموحة مثل إيران، تستثمر الدين كقوة أيديولوجية فاعلة تحجب به طموحات غير دينية على الإطلاق. وهو فعل -على المستوى العقلي- مفهوم تماماً، لأنه لا وجود لمشروع سياسي كبير دون تسويغ أيديولوجي، وبخاصة في منطقة يلعب الإسلام فيها دوراً جاذباً كبيراً. وواقع الأمر، وكما جاء في كتاب «صورة العربي في الأدب الفارسي»، المترجم حديثاً إلى العربية، أنّ التشيّع الإيراني جزء من العقيدة القومية الفارسية، بل إنه الإسلام المكيّف والمطبّع فارسياً. ولهذا فإن سياسة التشييع، التي تشرف عليها مؤسسات سلطوية إيرانية متعددة، لا علاقة لها بـ «معجزات أهل البيت»، بل بحلم إيران القديم والمتجدد معاً في أن تعود إمبراطورية منتصرة، تخضع غير الفرس إلى إرادة فارسية ذات قناع مقدس. وفي النهاية يستطيع المتحدثون عن «وحدة المسلمين» أن يأخذوا بأشكال مختلفة من اللغة الدينية، بقدر ما تستطيع إيران أن تأخذ بلغة أخذت بها جميع السلطات القومية الصاعدة، في الحاضر والماضي معاً.
كاتب من فلسطين