جدلية الثقافة والسياسية
معتز حيسو
تكمن أهمية الثقافة بكونها حقل إبداع معرفي وإنتاج نظري متنوع ومتباين كما الواقع الملموس في تنوعه وتباينه، ومن خلالها يتم تكثيف الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي معرفياً … ، والمثقف أياً كان موقعه الطبقي والاجتماعي فهو ملتزم بداهة بمواقف وأهداف تتحدد بما يتلاءم مع موقعه ومصالحه الطبقية والاجتماعية . والثقافة كما نعلم تعبير مكثف للسياسية لكونها حقل إنتاج للفكر السياسي والمعرفة النظرية التي عليهما تتوطد الممارسة السياسية. وعليه فإن المرحلة الراهنة تتطلب عملاً ثقافياً متخصصاً وأكاديمياً يقوم على تعزيز أشكال إنتاج معرفي جماعي يقوم على توسيع وتعميق الورش الثقافية لذوي الاختصاص والمهتمين والباحثين ، وتكمن ضرورة هذا التوجه في عدة أسباب أولها : تغييب الفاعلية الاجتماعية والسياسية للقوى السياسية. ثانياً : التأسيس النظري والفلسفي والمعرفي … للمساهمة في إعادة صياغة تشكيلات سياسية تعتمد المنهجية العلمية في آليات ممارستها السياسية بعدما تخلت أغلب القوى السياسية عن معظم مفكريها أو همشتهم لأسباب متعددة . ثالثاً : وتكمن أيضاً أهمية العمل الثقافي الورشي والممأسس بكونه أكثر قدرة وفاعلية وعمقاً على الإنتاج المعرفي ، وأيضاً لكونه يمكن أن يشكل نويات لمراكز بحوث مستقبلية ترفد وتغذي المجتمع بدراسات وأبحاث متخصصة تساهم في تفكيك وتحليل الواقع معرفياً و تحديد آليات وأشكال تجاوز أزماته الاجتماعية . إضافة إلى كونه يكرس ظاهرة التعاون والممارسة الديمقراطية بأشكال ملموسة .
وإذا سلمنا بأن الواقع الاجتماعي يعاني جملة من التناقضات والتشوهات .. السياسية ، الاقتصادية ، الاجتماعية ، الأخلاقية .. فإن المثقف هو نتاج ذات البنية الاجتماعية الملوثة والمتناقضة ، ولكون المثقف لا يمكن أن يكون إلا داخل المجتمع فهو بذلك نتاج هذا الواقع المأزوم ، وعليه فإن المثقف أياً تكن المنظومة المعرفية التي تتحدد بمقتضاها ممارسته السياسية فإنه يبقى تعبيراً واقعياً و ملموساً لواقع اجتماعي متعيّن. وبالتالي فإن جزءاً كبيراً مما يعانيه المثقف من ارتكاسات وإرهاصات وانكسارات .. تعتبر نتيجة للواقع الاجتماعي المأزوم والمشوه ، ولكون الإنتاج المعرفي هو خاصية الإنسان المثقف فإن مهمته مضاعفة لكونه يجب أن يخوض بشكل لحظي صراعاً دائماً مع ذاته لكي يتمكن من تجاوز التناقضات الاجتماعية المنعكسة على ذاته والتي تؤثر بأشكال مختلفة ومتباينة على إنتاجه المعرفي و ممارسته السياسية المباشرة . وهذا يرتبط أيضاً بكون المثقف يمثّل التعبير الملموس للمشروع الاجتماعي المتجسد في سياق تحول الفكر إلى قوة مادية في سيرورة الممارسة السياسية والتحولات الاجتماعية ، و الذي يفترض أن يكون متجاوزاً لإشكاليات وتناقضات الواقع الراهن .
وبما أن المثقف نتاج واقع ملموس والفكرة نتاج ذات الواقع ، فإن إمكانية تحول الفكرة إلى قوة مادية تكمن في توفر الحوامل الاجتماعية التي تدرك بأن الفكر الذي يقدمه المثقف في سياق ممارسته السياسية ، تجسيد للمشروع الاجتماعي المعبّر عن مصالحها الاجتماعية في الحرية والعدالة والتحرر، وهذا التحول مرتهن بقدرة التشكيلات السياسية والمدنية في تكوين وتمتين جذورها الاجتماعية ، وعلى بناء ذاتها موضوعياً على قاعدة الممارسة الديمقراطية التي يشكل فيها المثقف القاعدة الأساسية لنشوء وتطور هذه التشكيلات ، وإلا فإن الطلاق بين السياسية والثقافة باق ٍ .
وكما نوه الأستاذ عطية مسوح فإن الثقافة بلا سياسة خيال والسياسة بلا ثقافة عمياء ، فإن ما نحتاج إليه لتطوير وتفعيل الممارسة السياسية هو التأسيس الجديد للسياسية المرتكزة على المشاركة الديمقراطية للمثقف الملتزم بقضايا الإنسان والوطن . وحيث أشار الدكتور طيب تيزيني إلى ضرورة البدء بتطوير الممارسة الثقافية والفكرية من خلال مأسستها ، فإن نقطة الانطلاق في مأسسة الممارسة المعرفية المنتجة للفكر السياسي النظري تحديداً تكمن في تشكيل ورش ثقافية تفكّر في آليات منهجية لتجاوز الإشكاليات والتناقضات الواقعية الراهنة في سياق تطوير وتفعيل الممارسة السياسية وتوسيع وتعميق دائرة الإنتاج الثقافي والعمل على توسيع الحاضن الاجتماعي المهتم بالثقافة ، والرافع بذات الوقت للمشاريع الثقافية الاجتماعية على قاعدة ( بداية الفكرة عمل ونهاية العمل بداية الفكرة) (ابن رشد ) .
وهذا يفترض التأكيد على أهمية بقاء الفكر في ميدان الممارسة السياسية لأن خروجه من ساحة الفعل والممارسة يعني نهايته الوجودية ، ومن الضروري ربط الفكر بالعمل والعمل بالفكر على قاعدة التعدد والتنوع الديمقراطي في سياق مواجهة التناقضات الذاتية والموضوعية الناتجة عن المفاعيل الموضوعية لأشكال الممارسة السياسية السائدة والمسيطرة .
إضافة إلى ما ذكرناه من تناقضات فإن المثقف عموماً و العلماني بشكل خاص يقع في المرحلة الراهنة بين سندان تنامي ظاهرة المد الأصولي السلفي ومطرقة تضخم السلطة التي يعمل أطرافها الرئيسيون على تحويل الفرد إلى أداة في ماكينة عملها السلطوية ، وعليه فإن من الأهمية بمكان التأكيد على إبراز ضرورة المثقف العلماني في سياق عمل جمعي ، ورشي منهجي يساهم في تحديد الأزمات الراهنة و أشكال تجاوزها . ومن الواضح حتى الآن بأن المثقف المرتكز على قاعدة الفكر الماركسي بمختلف تبايناته الوطنية الديمقراطية خير ممثل لمصالح الفئات الاجتماعية المضطهدة . وتكمن أهمية المثقف الملتزم بمصالح مجتمعه ، بقدرته على قراءة الواقع المتغير وتحديد أشكال الفكر السياسي الاقتصادي الاجتماعي المتجاوز لتناقضات التحولات الراهنة ، ومن هذه الزاوية فإن ما يطرأ من تغير على الفكر الماركسي يمكن اعتباره تحولاً موضوعياً نتيجةً لتغير الشرط التاريخي الموضوعي ، لكن بشرط أن يبقى هدفه الأساس تحقيق مصالح المتضررين من تناقضات النظام الرأسمالي العالمي وتجلياته وتعبيراته المحلية .
وضرورة الثقافة لا تكمن فقط في التأسيس الموضوعي للممارسة السياسية ، بل في نقل الممارسة السياسية القائمة على العنف والاحتكار والبراغماتية الانتهازية… إلى فعل وممارسة سياسية ترتكز على قيم أخلاقية تكرس المصداقية وتتجاوز الفكر الأحادي و أمراض الأنا الشخصية المتضخمة في سياق تكريس التعددية الديمقراطية ، والتحرر الذهني من التابو المغلق والمتحجر والجامد وصولاً إلى التحديد الموضوعي للتغيرات والتحولات الاجتماعية ، والتي من خلالها يمكن رسم أشكال إنجاز المهام المجتمعية بمفاعيل وطنية ديمقراطية تؤسس لموقف معرفي وسياسي من السلطة السياسية بكافة أشكالها وتجلياتها .
وتتجسد ضرورة المثقف الملتزم بقضايا مجتمعه ومهامه الوطنية والديمقراطية في دفع القوى السياسية في سياق التعاون والتنسيق المشترك والمتبادل، إلى الممارسة الديمقراطية ، والاعتراف بالاختلاف والتباين في إطار الوحدة والتحالف لتجاوز الفكر الأحادي المولد لأشكال الممارسة الاستبدادية ، والابتعاد عن الممارسة الفكرية التعميمية للانتقال إلى ضبط المفاهيم معرفياً و موضوعياً لتكون تعبيراً عن واقع متعيّن ومحدد يُفترض تجاوز تناقضاته على قاعدة التأسيس النظري المعرفي الفكري المتلازم جدلياً بالممارسة السياسية الديمقراطية العلمانية التعددية المدنية.
خاص – صفحات سورية –