صفحات مختارة

رسم المستقبل: أميركا اللاتينية نموذجاً

نعوم تشومسكي
خلال العقد الأخير، أصبحت أميركا اللاتينية المنطقة الأكثر إثارة في العالم. الديناميكية تدفقت من كراكاس، مع انتخاب رئيس يساري كرّس نفسه لاستخدام موارد فنزويلا الغنية، لمصلحة شعبه، على حساب ثرائه ومصلحته في الوطن والخارج. كما عمل على الترويج للاندماج الإقليمي المطلوب بشدة، كشرط للاستقلال والديموقراطية والتنمية الحقيقية.
المبادرات التي اتُخذت في فنزويلا كان لها تأثير كبير في مختلف أنحاء المنطقة، في إطار ما بات يعرف بـ»المد الزهري«. وطال هذا التأثير دولاً معينة، وكان آخرها الباراغواي، فضلاً عن مؤسسات إقليمية لا تزال قيد التأسيس، منها »بانكو دل سور«، وهي مبادرة أيدتها كراكاس قبل نحو عام، عندما أطلقها حامل جائزة نوبل في الاقتصاد جوزف ستيغليتز، ومنظمة »الألبا« أو البديل البوليفاري لأميركا اللاتينية والكاريبي، التي قد تثبت أنها الفجر الحقيقي الذي تحتاجه المنطقة، إذا ما نُفِّذت وعوده الأساسية.
غالباً ما توصف »الألبا« على أنها بديل لمشروع »منطقة التجارة الحرة بين الأميركيتين«، المدعوم أميركياً، رغم أن المصطلحات المستخدمة في اسم هذا المشروع تبدو مضللة. ولا بد من توضيح حقيقة أن »الألبا« مشروع تنموي مستقل وليس بديلاً عن أي مشروع. فما يسمّى بـ»اتفاقات التجارة الحرة« ليست سوى على علاقة محدودة بالتجارة الحرة، لا بل حتى بالتجارة، وفق كل المعاني التي يحملها هذا المصطلح. كما أنها حتماً ليست اتفاقات، إلا إذا كان الأشخاص جزءاً من دولهم. ربما كان من الأجدر اختيار مصطلح أكثر دقة لتسمية تلك »الاتفاقات« بـ»تسويات حقوق المستثمرين«، التي صممتها الشركات متعددة الجنسيات والمصارف والدول القوية التي ترعى مصالحها الخاصة. وغالباً ما يتم إقرار هذه المصالح سراً من دون إشراك الرأي العام أو حتى إبلاغه بها. ولهذا السبب يدعو المتنفذون الأميركيون باستمرار إلى ربط هذه الاتفاقات بـ»سلطات سريعة التنفيذ«، وهي سلطات في جوهرها، صممت في الكرملين.
وثمة مؤسسة إقليمية أخرى بدأت ترتسم ملامحها هي »أوناسور« أو »اتحاد دول أميركا الجنوبية«. هذه الكتلة الإقليمية المصمّمة على طراز الاتحاد الأوروبي تهدف إلى تأسيس برلمان لأميركا الجنوبية في كوشابامبا، وهو موقع مناسب لبرلمان »أوناسور«.
كوشابامبا لم تكن معروفة دولياً قبل حرب المياه في العام .٢٠٠٠ ولكن أحداث ذلك العام في كوشابامبا باتت مصدر إلهام لشعوب العالم التواقة للحرية والعدالة، كنتيجة للنضال الشجاع والناجح ضد خصخصة المياه، التي أيقظت التضامن العالمي وكانت دليلاً رائعاً ومشجعاً لما يمكن إنجازه عبر التحرك الجماعي.
ما تلا تلك الأحداث فاقتها أهمية. فبإلهام جزئي من التطورات الحاصلة في فنزويلا، خطت بوليفيا في طريق مذهل نحو الديموقراطية الحقيقية، فتبنّت مبادرات شعبية واسعة المدى، وأشركت الغالبية المنظمة من الشعب في تشكيل الحكومة ورسم برامجها آخذة في الحسبان مسائل أساسية تهم الشعب، وفق مفهوم رائد نادراً ما نشهده في أماكن أخرى، بما في ذلك، حتماً، في الشق الشمالي من القارة، رغم الخطابات الطنانة التي يعدّها مخططو العقيدة الأميركية.
الأمر ذاته حصل قبل ١٥ عاماً في هايتي، وهي الدولة الوحيدة في نصف القارة التي تفوق بوليفيا فقراً، ولكنها، مثل بوليفيا، شكّلت مصدراً لجزء كبير من ثراء أوروبا، ولاحقاً للولايات المتحدة. في العام ،١٩٩٠ أجرت هايتي أولى انتخاباتها الحرة. كان الغرب يتوقع بأن مرشح الولايات المتحدة، وهو مسؤول سابق في البنك الدولي يتقن احتكار الموارد، هو من سيفوز وبسهولة. لم يكن أحد متنبّهاً إلى الحركة القومية التي كانت تتشكل في الأحياء الفقيرة والضواحي، والتي أوصلت إلى السلطة القس الشعبوي جان برتران اريستايد. وسرعان ما تبنت واشنطن نهج تقويض الحكومة الديموقراطية المكروهة والمُهابة. وتتطلّب الأمر بضعة شهور فقط ليطيح انقلاب عسكري مدعوم أميركياً بهذا النصر المدهش للديموقراطية، وليضع في السلطة نظاماً أرهب الشعب بدعم مباشر من الحكومة الأميركية، في البدء في عهد بوش الأب ثم في عهد كلينتون. بعدها سمحت واشنطن للرئيس المنتخب بالعودة، شرط أن يلتزم بالقواعد الليبرالية الجديدة المؤلمة، التي كانت كفيلة بإخضاع ما تبقى من الاقتصاد، وهذا ما حصل. وفي العام ،٢٠٠٤ تعاون مستبدّو هايتي التقليديين، مع فرنسا والولايات المتحدة، لتنحية الرئيس المنتخب من السلطة، مجدداً. وعينوا نظاماً جديداً من الإرهاب. ولكنهم لم يستطيعوا قهر الشعب، واستمر النضال الشعبي رغم العداء الشدائد.
كل ذلك شائع في أميركا اللاتينية، وليس فقط في بوليفيا، حيث يبدو مشهد المواجهة بين الديموقراطية الشعبية والنخبة التقليدية المدعومة أميركياً، مشحوناً وخطيراً.
حالياً يكتشف علماء الآثار أنه كان لدى بوليفيا، قبل الغزو الأوروبي، مجتمعاً ثرياً ومتنوعاً، جعل منها واحدةً من »أكثر الدول اتساعاً وغرابةً وأكثرها ثراءً من الناحية البيئية، على وجه المعمورة، بطرقها وقنواتها وبلداتها الرحبة والثرية«، و»واحدة من أعظم الأعمال الفنية إبداعاً. كانت قطعة فنية نادرة«. وبالطبع ساهمت ثروات بوليفيا المعدنية في إثراء اسبانيا، وبشكل غير مباشر أوروبا الشمالية، ما أسهم بشكل ضخم في التنمية الاقتصادية والثقافية هناك، وكذلك في الثورات الصناعية والعلمية. تلا ذلك تاريخ عنيف من الوحشية الاستعمارية، التي حظيت بتشجيع ثابت من النخب المحلية الجشعة. تلك عوامل لا تزال قائمة حتى اليوم.
قبل ٦٠ عاماً، كان المخططون الأميركيون ينظرون إلى بوليفيا وغواتيمالا على أنهما التهديد الأكبر لهيمنتهم على نصف القارة. وفي كلتا الحالتين، نجحت واشنطن في الإطاحة بالحكومات الشعبية، ولكن بطرق مختلفة. في غواتيمالا، لجأت إلى أسلوب العنف التقليدي، عبر تنصيبها هناك أحد أكثر الأنظمة وحشية وفساداً في العالم، ما أطال أمد إجرامها وحجمها إلى مستوى الإبادة الواقعية في الجبال، خلال حروب ريغان الإرهابية الإجرامية في ثمانينيات القرن الماضي. ولا بد من التذكير بأن تلك الفظائع المريعة شُنَّت تحت شعار »الحرب على الإرهاب«، وهي حرب لم تُطلَق للمرة الأولى في أيلول ،٢٠٠١ وإنما كان جورج بوش يعيد إطلاقها. وفي ذلك تفصيل مهم يربط بين حرب بوش وتلك التي شنها ريغان، وما نجم عنها من تبعات مروعة على المستوى الإنساني.
في غواتيمالا، تغلّبت إدارة ايزنهاور على تهديد الديموقراطية والتنمية المستقلة بالعنف. في بوليفيا، حققت واشنطن النتائج ذاتها تقريباً، ولكن عبر استغلال تبعية بوليفيا الاقتصادية للولايات المتحدة، جزئياً من أجل تحويل صادرات بوليفيا من القصدير. ويشير الباحث الأميركي اللاتيني ستيفن زيونز إلى أنه »عند مرحلة معينة من مسيرة البلاد نحو الاستقلالية والاعتماد على الذات (في بدايات الخمسينيات)، أرغمت الحكومة الأميركية بوليفيا على استخدام رأسمالها الشحيح، ليس في عمليات تنموية محلية، ولكن في تعويض مالكي المناجم، ودفع الديون الخارجية«.

تلك السياسات الاقتصادية التي فُرضت على بوليفيا في تلك السنوات كانت نذيراً مبكراً بهيكلية البرامج المعدّلة التي فرضت على القارة، بعد ثلاثين عاماً، تحت الشعار الليبرالي الجديد »اتفاق واشنطن« الذي غالباً ما تكون آثاره كارثية.
في الوضع الراهن، بدأت السوق الليبرالية الجديدة توقع ضحايا لها، حتى في البلاد الغنية، حيث جلبت لعنة الليبرالية المالية أسوأ أزمة مالية، منذ الكساد العالمي في الثلاثينيات، ما أدّى إلى تدخل حكومي هائل، في مسعى حثيث من أجل إنقاذ المؤسسات المالية المنهارة.
ولا بد من الإشارة إلى أن ذلك تحرك اعتيادي للرأسمالية الحالية، رغم أن الأزمة الراهنة غير مسبوقة في حجمها. وأظهرت دراسة أعدها قبل ١٥ عاماً، اثنان من أبرز الاقتصاديين المشهورين، هما وينفريد رويغروك وروب فان تولدر، أن ٢٠ شركة على الأقل من بين أغنى ١٠٠ شركة، ما كانت لتبقى موجودة لولا تدخل حكوماتها، وأن العديد من بين الشركات المتبقية ربحت فعلياً بعدما طلبت من حكوماتها »تأميم خسائرها«. مثل هذا التدخل الحكومي، حسبما كتب الخبيران، »كان هو القاعدة السائدة أكثر مما كان استثناء خلال القرنين الماضيين«.
كما تجدر الإشارة إلى التشابه الصادم بين برامج التصويب الهيكلي التي فُرضت على الضعفاء من قبل صندوق النقد الدولي، وبين خطة الإنقاذ المالية الضخمة التي احتلت الصفحات الأولى من الصحف في الشمال. المدير التنفيذي الأميركي لصندوق النقد، الأشبه برجال المافيا، وصف المؤسسة بأنها »داعم مجتمع الائتمان«. تحت قواعد الاقتصاد العالمي المدار أميركياً، قدّم المستثمرون قروضاً لدكتاتوريات العالم الثالث، وبما أن القروض تحمّل مخاطرة مهمة، فهي تدر أرباحاً ضخمة. فلنتصوّر أن المقترض تخلّف عن التسديد. في اقتصاد رأسمالي، يتعين على المُدين أن يتعرّض للخسارة. لكن الرأسمالية القائمة تعمل بطريقة مغايرة. إذا كان المقترض غير قادر على دفع ديونه، يتدخل صندوق النقد من أجل ضمان أن يحظى الدائنون والمستثمرون بالحماية. والديون تحوّل إلى الشعب الفقير في بلاد المقترِض، الذين لم يقترضوا المال في الأساس ولم يربحوا أي شيء من كل ذلك. ذلك يسمّى »تصويباً هيكلياً«. ودافعو الضرائب في البلد الغني، الذين هم أيضاً لم يكسبوا شيئاً من هذه القروض، يساندون صندوق النقد عبر ضرائبهم. تلك العقائد لا تنتمي إلى نظرية اقتصادية؛ ولكنها تعكس توزيع سلطة صنع القرار.
مصمّمو الاقتصاد العالمي يطالبون بشدة بأن يقبل الفقراء بقواعد السوق، ولكنهم يشدّدون على أن يحظوا، هم أنفسهم، بالحماية من مساوئ قواعد السوق، وفق تدبير فاعل يعود إلى جذور الرأسمالية الصناعية العصرية، ولعب دوراً بارزاً في تقسيم العالم إلى مجتمعات غنية وأخرى فقيرة، إلى عالمين أول وثالث.
وهذا النظام الرائع المضاد للسوق، الذي صممه متحمسون لنظام السوق، يجري تنفيذه حالياً في الولايات المتحدة، من أجل التعامل مع الأزمة الأكثر إنذاراً بالسوء في أسواق المال. عموماً، لدى الأسواق العديد من الأخطاء المعروفة، أحدها يفيد بأن المعاملات التجارية لا تأخذ في الحسبان التأثيرات على الآخرين غير المنضوين في المعاملة التجارية. وما يُسمّى بـ»المظاهر الخارجية« قد تكون ضخمة للغاية. وتلك هي حالة المؤسسات المالية، التي تشمل مهمتها خوض المخاطر، وفي حال تمت إدارتها بشكل جيد، ضمان بأن تتم تغطية خسائرهم المحتملة.
تحت قواعد الرأسمالية، ليس من شأن تلك المؤسسات أن تقدّر الكلفة التي سيتحملها الآخرون، إذا كانت ممارساتها تؤدي إلى أزمة مالية، وذلك ما تفعله تلك الشركات، بشكل منتظم.
ووفق مصطلحات اقتصادية، يتم تسعير المخاطر بأقل قدر ممكن، لأن المخاطر المنهجية لا تُسعَّر بناء على القرارات. ذلك يؤدي إلى تكرار الأزمة، مراراً وتكراراً بطبيعة الأحوال. في هذه الحال، نعود إلى الحل المقترح من صندوق النقد الدولي. يتم تحويل النفقات إلى الشعب، الذي لا صلة له بالخيارات المغامِرة والذي بات مرغماً على دفع النفقات ـ التي ربما بلغت في الولايات المتحدة نحو ترليون دولار حتى الآن. وبالطبع لا يملك الشعب الخيار في تحديد تلك النتائج، تماماً مثلما ليس لدى الفلاحين الفقراء أي صوت في كونهم مستهدفين من قبل برامج »تصويب هيكلي« وحشي.
ثمة مبدأ أساسي في الدول الرأسمالية العصرية، ينص على أن يتم تأميم النفقات والخسائر، فيما تتم خصخصة الأرباح. وذلك المبدأ يشمل ما هو أبعد من المؤسسات المالية. وذلك ينطبق على مجمل الاقتصاد المتطور، الذي يعتمد بكثافة على القطاع الحكومي الأكثر حراكاً وديناميكية، المكلف بالابتكار وإجراء الأبحاث وإقرار مشاريع التنمية، واستنباط الحلول متى كانت الصفقات غير متوافرة، وتطوير خطط إنقاذ، وبطرق مختلفة وعديدة. تلك الآليات تعتبر بمثابة النظير المحلي للسيطرة الامبريالية الاستعمارية الجديدة، التي رسمت على شكل قواعد منظمة التجارة العالمية، التي سميت على نحو مضلل »اتفاقات التجارة الحرة«.
لليبرالية المالية تأثيرات تتجاوز الاقتصاد. ولطالما عُرفت على أنها سلاح فاعل ضد ديموقراطية حركة الرأسمال الحر، التي تخلق ما يسميه الاقتصاديون الدوليون »برلماناً افتراضياً« من المستثمرين والمقرضين، الذين بإمكانهم مراقبة البرامج الحكومية عن كثب، و»التصويت« ضدها إذا اعتبروها »غير عقلانية«: أي لمصلحة الشعوب لا إلى جيوب القوى الخاصة المركّزة. كما بإمكانهم »التصويت« عبر سحب رأس المال، (تفادياً للخسارة) أو عبر الهجوم على المداولات أو غيرها من الأدوات التي توفرها الليبرالية المالية. وهذا هو أحد الأسباب التي تفسّر لماذا يسيطر نظام بريتون وودز، الذي أنشأته الولايات المتحدة وبريطانيا بعدما أدت الحرب العالمية الثانية إلى إنشاء »الرأسمالية«، على المداولات وينظمها.
تسبب الكساد الكبير والحرب في انبثاق تيارات قوية ديموقراطية راديكالية، اتخذت العديد من الأشكال، بدءاً من المقاومة المناهضة للفاشية، وصولاً إلى تنظيم القوى العاملة. تلك الضغوط جعلت من الضروري السماح بسياسات ديموقراطية اشتراكية. وأنشئ نظام بريتون وودز جزئياً من أجل خلق مساحة للعمل الحكومي، رداً على الإرداة الشعبية، التي تنزع نحو الديموقراطية.
واعتبر جون ماينارد كاينس، المفاوض البريطاني، أن أهم إنجاز حققه بريتون وودز هو التأسيس لحق الحكومات في تقييد حركة رأس المال. وفي تناقض دراماتيكي، وتحديداً في المرحلة الليبرالية الجديدة بعد انهيار نظام بريتون وودز، تتطلع وزارة الخزانة الأميركية اليوم إلى حركة الرأسمال الحر كـ»حق أساسي«، وليس كتلك »الحقوق« المزعومة، التي يضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: كالصحة والتعليم والعمل اللائق والأمن وغيرها من الحقوق التي رفضتها إدارات ريغان وبوش بوصفها مجرد »رسائل من سانتا كلوس« و»منافية للعقل« وحتى »خرافية«.
في السنوات الأخيرة لم يكن الشعب يشكل مشكلة كبيرة. والأسباب عدّدها باري ايشنغرين، في تأريخه الأكاديمي لنظام النقد العالمي. ويشرح فيه أنه في القرن التاسع عشر، لم تكن الحكومات »مسيّسة عبر نظام اقتراع ذكوري عالمي، وانبثاق نقابات تجارية وأحزاب عمالية برلمانية«، ولذلك كان بالإمكان نقل النفقات الكبيرة المفروضة من قبل البرلمان الافتراضي، إلى عاتق الشعب. ولكن مع ميل الشعب إلى الراديكالية، خلال الكساد الكبير والحرب المناهضة للفاشية، لم يعد الترف متاحاً أمام القوى الخاصة الغنية. ولهذا السبب »حلّت القيود التي فرضها بريتون وودز على حركة رأسمال مكان القيود المفروضة على الديموقراطية، كوسيلة لعزل (بريتون وودز) عن ضغوط السوق«.
ولا بد هنا أن نذكّر بالنغمة الجلية والمعتادة: مع تفكيك نظام السبعينيات، باتت الديموقراطية الفاعلة محدودة، وبات من الضروري السيطرة على الشعب وتهميشه بطريقة ما، وهي آليات ظاهرة، تحديداً، في المجتمعات التي تديرها الشركات وقطاع الأعمال، مثل الولايات المتحدة، وليست إدارة القوة الناخبة عبر صناعة العلاقات العامة إلا نموذجاً يوصّف تلك المجتمعات.
أولى ضحايا الإرهاب العسكري والاختناق الاقتصادي هم الفقراء والضعفاء، سواء في الدول الغنية، وبشكل أكثر وحشية في دول الجنوب. لكن الأحوال تتبدل. ففي فنزويلا وبوليفيا وغيرها، ثمة جهود واعدة من أجل إدخال تغييرات هيكلية ومؤسساتية، تحتاج إليها تلك البلدان بشدة. وليس مفاجئاً، أن تواجه تلك التغييرات التي تروّج للديموقراطية، والعدالة الاجتماعية، والحقوق الثقافية، تحديات قاسية من قبل القادة التقليديين، في الداخل والخارج.
وللمرة الأولى في نصف الألفية، بدأت أميركا اللاتينية تمسك بقدرها بين أيديها. بالطبع كانت هناك محاولات سابقة، ولكنها سُحقت بفعل قوة خارجية، كما في تلك الحالات التي ذكرتها للتو، وحالات أخرى شنيعة عديدة وشائعة بشدة.
ولكن حالياً، ثمة بدايات جديدة للابتعاد عن تاريخ طويل ومعيب. تلك البدايات جسدتها قمة »اوناسور« للأزمات التي عقدت مؤخراً في سانتياغو. خلالها، أصدر رؤساء دول أميركا الجنوبية بياناً شديد اللهجة تضامنوا فيه مع حكومة موراليس المنتخبة، التي تواجه هجوماً شرساً من الحكام التقليديين، أي النخبة المتماهية أوروبياً والتي تعارض بشدة الديموقراطية البوليفية والعدالة الاجتماعية وتتمتع، روتينياً، بدعم ثابت من سيدة نصف القارة.
وأعلن قادة أميركا الجنوبية المجتمعين في قمة »اوناسور« في سانتياغو »دعمهم الكامل والثابت لحكومة الرئيس ايفو موراليس الشرعية، التي حظي تفويضها بتصديق غالبية كبيرة«، في إشارة إلى النصر الساحق الذي تحقق في الاستفتاء الأخير. وشكر موراليس »أوناسور« على دعمها، مشيراً إلى أنه »للمرة الأولى في تاريخ أميركا الجنوبية، قررت دول منطقتنا أسلوباً لحل مشاكلها، من دون وجود الولايات المتحدة«. وهي مسألة لا يمكن الاستخفاف بها.
إن أهمية دعم »أوناسور« للديموقراطية في بوليفيا تبرز جليةً عند معرفة حقيقة أن وسائل الإعلام في الولايات المتحدة رفضت الحديث عنها، رغم أن المراسلين والصحافيين علموا بانعقادها. كما أنهم حصلوا على معلومات وافية عنها عبر الوسائل الإلكترونية والوكالات الإخبارية.
كان ذلك مثالاً مألوفاً. إليكم في الآتي مثال واحد من بين أمثلة كثيرة: في كانون الأول ،٢٠٠٦ أصدر قادة أميركا الجنوبية »إعلان كوشابامبا«، دعوا فيه إلى العمل على الاندماج في إطار نموذج شبيه بالاتحاد الأوروبي. حُظر الحديث عن هذا الإعلان في الإعلام »الحر« من قبل الحكام التقليديين في نصف القارة. وثمة حالات كثيرة أخرى، وجميعها تُظهر مخاوف مماثلة تعتري أوساط الطبقة السياسية والمراكز الاقتصادية في الولايات المتحدة.. هي مخاوف من أن تنزلق نصف القارة من تحت سيطرة تلك الأوساط.
التطورات الحالية في أميركا الجنوبية تكتسي أهمية تاريخية بالنسبة للقارة وشعوبها. ويدرك الجميع في واشنطن أن هذه التطورات لا تهدد هيمنة الولايات المتحدة على نصف القارة فحسب، بل على هيمنتها العالمية أيضاً.
فالسيطرة على أميركا اللاتينية كانت الهدف الأبرز للسياسة الخارجية الأميركية. وهو هدف يعود إلى الأيام الأولى من تاريخ الجمهورية. والولايات المتحدة، حسبما أفترض، هي الدولة الوحيدة التي تأسست كـ»إمبراطورية ناشئة«، والتعبير لجورج واشنطن. وتنبأ الرجل الأكثر ليبراليةً بين الآباء المؤسسين توماس جيفرسون بأن المستعمرات المحررة حديثاً ستجرّ الشعوب الأصلية »مع وحوش الغابات باتجاه الجبال الصخرية«، وستصبح البلاد في النهاية »خالية من الشوائب أو الخليط«، الأحمر والأسود (مع عودة العبيد إلى أفريقيا بعد انتهاء عصر الرق بطبيعة الأحوال). وأكثر من ذلك، ستصبح تلك البلاد »مأوى لكل أميركا، الشمالية والجنوبية، وستصبح مأهولة من أميركيين«، بعد ترحيل ليس فقط الرجال الحمر بل الشعوب اللاتينية في الجنوب.
تلك التطلعات لم تتحقق، ولكن السيطرة على أميركا اللاتينية تبقى هدفاً مركزياً في السياسة الخارجية، جزئياً بسبب الموارد التي تختزنها دول الجنوب والأسواق التي تمثلها، ولأسباب إيديولوجية وجيواستراتيجية أكثر شمولية. فإذا لم تسيطر الولايات المتحدة على أميركا اللاتينية لا يمكنها أن تتوقع »إنجاز نظام ناجح في أي مكان آخر في العالم«، هذا ما خلص إليه مجلس الأمن القومي في عهد نيكسون في العام ،١٩٧١ آخذاً في الاعتبار الأهمية الأسمى التي تتمثل في تدمير الديموقراطية التشيلية.
ويقول المؤرخ ديفيد شميتز إن أليندي »هدد المصالح الأميركية العالمية من خلال تحديه الأساس الإيديولوجي لسياسة الحرب الباردة الأميركية. كان ذلك هو التهديد الذي مثلته دولة اشتراكية ناجحة في التشيلي كان بإمكانها أن تشكل نموذجاً لغيرها من الدول التي شكلت مصدر قلق، وأثارت معارضة أميركية«، وحتى ساهمت في تأسيس دكتاتورية إرهابية.
ويقرّ حتى الباحثون الأكثر يمينيةً بأن واشنطن تدعم الديموقراطية فقط، لأنها تسهم في تحقيق المصالح الأميركية الاستراتيجية والاقتصادية، وهي سياسة استمرت، وتستمر، من دون أي تغيير عبر كل الإدارات، وحتى اليوم.
هذه المخاوف هي الشكل العقلاني لنظرية الدومينو، التي تسمى أحياناً على نحو أدقّ »تهديد المثال الجيد«. لمثل هذه الأسباب، يُنظر حتى إلى أصغر المحاولات للتخلص من السيطرة الأميركية (في الشمال) على أنها تهديد وجودي يستدعي رداً قاسياً: تنظيماً قروياً في المجتمعات النائية في شمال اللاوس، تعاونيات صيد في الغرينادا، وهكذا دواليك عبر العالم. إذ لا بد من ضمان ألا »تنتشر عدوى فيروس« التنمية الاستقلالية الناجحة، في أماكن أخرى، وذلك وفق المصطلحات المستخدمة أعلى مستويات التخطيط.
تلك المخاوف أثارت التدخلات الأميركية العسكرية والإرهاب والصراعات الاقتصادية في عهد ما بعد الحرب العالمية الثانية، في أميركا اللاتينية وفي غالبية أماكن العالم. وتلك مظاهر بارزة للحرب الباردة. لكن الأحوال تتبدل.
في أميركا اللاتينية، يتمثل جوهر التغيير، في الأساس، في التوق إلى الاندماج، وفق أشكال مختلفة. أحد أشكال الاندماج يتمثل في إطلاق تحرّك يهدف إلى تعزيز الروابط بين بلدان أميركا الجنوبية. وقد طال هذا التحرك دول أميركا الوسطى، التي دُمرت تماماً بفعل حروب ريغان الإرهابية والتي بقيت مذاك على الهامش، ولكنها بدأت تتحرك الآن.
من بين التطورات الأخـيرة ذات الأهمية الخاصة، ما جرى مؤخراً في الهندوراس، أو »جمهورية الموز« الكلاسيكية، ومركز الثِقل الأبرز لحروب واشنطن الإرهابية في المنطقة، منذ الثمانينيات. وكان سفير واشنطن لدى الهندوراس جون نيغروبونتي، احد أبرز القادة الإرهابيين في تلك المرحلة، ولهذا عينته إدارة بوش قائداً لعمليات مكافحة الإرهاب، وهو خيار لم يثر أي تعليق.
ولكن هنا أيضاً الأحوال تتبدل. فقد أعلن الرئيس زيلايا أن المساعدات الأميركية »لا تجعلنا تابعين« كما أنها لا تمنح واشنطن الحق في إذلال الأمة، معلناً عزمه على تحسين علاقات بلاده مع فنزويلا، فانضم إلى منظمة »البتروكاري«، ثم »الألبا« في تموز الماضي.
ويعتبر الاندماج الإقليمي، الذي يسير على نحو بطيء منذ سنوات، شرطاً حاسماً للاستقلال، ما يجعل من الصعب على سيدة نصف القارة تقويض الدول، الواحدة تلو الأخرى. ولهذا فهو يتسبب بكل هذا الضيق في واشنطن، ولهذا أيضاً، يتم تجاهله أو تشويهه في الإعلام والتحليلات النخبوية.
أما الشكل الثاني للاندماج فعالمي، ويتمثل في تأسيس الروابط بين دول أميركا الجنوبية، وتنويع الأسواق والاستثمار، مع الصين مثلاً. ومجدداً، تقوّض هذه التطورات قدرة واشنطن على التحكم بما أسماه وزير الحرب هنري ستيمسون »منطقتنا الصغرى هناك«، في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما كان يشرح لماذا يتعين تفكيك الأنظمة الإقليمية الأخرى، فيما يتعين تقوية نظامنا.
الشكل الثالت للاندماج، والذي يعتبر بطرق مختلفة الأكثر حيوية، فهو داخلي. إذ تشتهر أميركا اللاتينية بالتركيز الفائق للثروات والسلطة، وافتقار نخبتها إلى المسؤولية في العمل لمصلحة الأمة. ومن المفيد تشبيه أميركا اللاتينية بشرقي آسيا. فقبل نحو نصف قرن كانت كوريا الجنوبية في المستوى ذاته لأي دولة أفريقية فقيرة. والآن باتت قوة صناعية. وذلك ينطبق على سائر أنحاء آسيا الشرقية.
التناقض ما بين آسيا الشرقية وأميركا اللاتينية دراماتيكي، ويصبح أكثر دراماتيكية عندما يُعرف أن أميركا اللاتينية تملك ميزات طبيعية أهم من تلك الموجودة في آسيا الشرقية. وليست صعبة معرفة أسباب هذا التناقض الدراماتيكي. فعلى مدى ٣٠ عاماً، تقيّدت أميركا اللاتينية بشكل صارم بقواعــد »اتفاق واشنطن«، فيما تجاهلتها دول آسيا الشـرقية، فضلاً عن أن أفراد النخبة في أميركا اللاتـينية نأوا بأنفسهم عن مصير دولهم، فيما كان نظراؤهم في آسيا الشرقية مجبرين على تحمّل مسؤولياتهم.
من بين الإجراءات التي تبرز التناقض بين أميركا اللاتينية وآسيا الشرقية: سحب رأس المال. ففي أميركا اللاتينية يسمح بسحب رأسمال، وفقاً لمقياس الدين الساحق، فيما تُدار هذه العملية بعناية فائقة في آسيا الشرقية، لدرجة أنها قد تتسبب بعقوبة الإعدام للمخل فيها. وبشكل عام، تبنت دول آسيا الشرقية أساليب التنمية التي مكّنت الدول الغنية من تحقيق مستوياتها الراهنة، فيما التزمت أميركا للاتينية بمبادئ السوق، التي فُرضت على المستعمرات، والتي أدت إلى نشوء العالم الثالث. وليس بالضرورة القول إن أسلوب التنمية في دول آسيا الشرقية بالكاد يصلح كنموذج يتعين على أميركا اللاتينية أو أي منطقة أخرى أن تتبناه.
ثمة مشاكل خطيرة تواجه أميركا اللاتينية في الداخل. وقد بدأت دول المنطقة بطرحها، لمعالجتها، ولو بخفر. ومع ذلك، تثير تلك المحاولات الخجولة استياء قطاعات الحكم التقليدية والنخب، المدعومة من السيد التقليدي لـ»منطقتنا الصغيرة هناك«.
الصراع مشحون وخطير للغاية في بوليفيا، ولكنه ثابت، بشكل أو بآخر، في سائر أنحاء نصف القارة.
لمشاكل أميركا اللاتينية والكاريبي جذور عالمية، ولا بد من طرحها، بدعم وتعاون إقليمي وعالمي. إن ازدياد المنتديات الاجتماعية، في البدء في أميركا الجنوبية، والآن في أماكن أخرى، كان واحداً من أكثر الخطوات أهمية في السنوات الأخيرة. هذه التطورات قد تحمل بذور أول عهد حقيقي عالمي رائد يجسّد العولمة الحقيقية. هو عهد الاندماج العالمي الذي يعمل لمصلحة الشعوب، وليس المستثمرين وغيرهم من مراكز القوى.
أميركا اللاتينية تمثل قلب هذه التطورات الدراماتيكية، وتشكل فرصة مثيرة، وتحدياً صعباً، ومسؤولية ذات مقاييس تاريخية.
ترجمة جنان جمعاوي
([) هذا المقال مأخوذ عن محاضرة مصوّرة ألقيت في ٢٤ أيلول ،٢٠٠٨ انطلاقاً من بوسطن، خلال »القمة الاجتماعية السابعة لاتحاد أميركا اللاتينية والكاريبي«، التي عقدت في كراكاس في فنزويلا. وتنشر »السفير« النص باتفاق خاص مع الكاتب.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى