الدستور الديموقراطي والدستور السوري
رزان زيتونة
على الدستور، باعتباره قانونَ القوانين بما يتضمّنه من قواعدَ وأحكام، أن يحظى بالثبات والاستقرار. ويتعلّق ذلك أساسًا بطبيعة الدستور، من حيث إنه ينظِّم شكلََ الدولة ونظامَ الحكم فيها، ويوضح مهامَّ السلطات المختلفة وحدودَ صلاحيّاتها، بالإضافة إلى حقوق القوانين وواجباتها. هذه القواعد، التي تشكّل الواجهةَ السياسية والدستورية للدولة، يجب حمايتُها من افتئات السلطة التشريعية، وتحقيق سموّها الشكلي على القوانين العادية (وهذا ما يُعرف في الفقه الدستوري بالدستور الجامد، الذي يتطلّب تعديلُه إجراءاتٍ أكثرَ تعقيدًا من تلك التي تتطلّبها القوانينُ العادية).
كمعظم دساتير العالم، يتّصف الدستورُ السوري الدائم لعام 1973 بالجمود. لكنّ ذلك لا يبدو السببَ الواقعيَّ وراء “مناعته” ضدّ الإصلاح الدستوري الذي تطالب به القوى الديمقراطيةُ السورية. فخلال أكثر من ثلاثة عقود، أُقرّتْ ثلاثةُ تعديلات دستورية، لا يمكن التقليلُ من أهمية آخرها عام 2000، الذي عَدّلَ من عمر المرشَّح إلى رئاسة الجمهورية بما يَسمح للرئيس الحاليّ بالصعود إلى مقعد الرئاسة. وأوحى ذلك بأنّ جمودَ الدستور أو مرونتَه عمليّاً قد لا ينبعان من قواعده، وأنّ سلطته قد تتأتّى من خارج نصوصه. فهل يجعل ذلك الحديثَ عن الإصلاح الدستوري بلا معنًى حقيقيّ إنْ أتى خارج سياقه؟
الدستور الديمقراطي
ليس الدستورُ بالضرورة مرتبطًا بالديمقراطية والحرية في نظر جزءٍ من الفقه الدستوري، لكنّ ذلك ليس رأيََ فقهاء آخرين يَعتبرون الدستور أداةً للتوفيق بين السلطة والحرية. يقول آندريه هوريو إنّه لا يمْكن التسليمُ بأنّ الدستور مجرّدُ تنظيمٍ للسلطة، لأنّ ذلك يؤدّي إلى الاعتقاد بأنّ ممارسة السلطة غايةٌ في ذاتها وتجد تبريرََها في مصلحة الحكّام لا المحكومين، ولأنّ الفقه الدستوري الحديث أغفل الظروفَ التاريخيةَ التي عاصرتْ نشأةَ القانون الدستوري: فقد نشأ هذا العلمُ في الأزمنة التي ارتضى فيها أصحابُ السلطة الإبقاءََ على التوازن بين سلطتهم وحريات الأفراد، وذلك تحت ضغط رغبة الأفراد في الحفاظ على حرياتهم الفردية والمشاركة في ممارسة شؤون الحكم.1
إنّ على النصوص الدستورية، لكي تكون متوافقةً مع روح الدستور، أن تَصْدر عن إرادة الشعب، ومن قِِبل سلطاتٍ شرعية، متضمّنةً المبادئََ الأساسيةَ التي تَكفل قيامَ نظامٍ ديمقراطيّ واستمرارَه. ويمكن تلخيصُ هذه المبادئ بعدم مركزية السلطة، وفصلِ السلطات، وإرساءِِ دولة القانون، وتأكيدِ دستورية القوانين، وتأمينِ التداول السلمي للسلطة، وضمان الحقوق والحريات العامة. تلك هي في المجمل خصائصُ الدستور الديمقراطي التي تَعْرف ما يعاكسها (جزئيّاً أو كليّاً) في ما يمْكن أن نطلقَ عليه “دستورََ الحاكم أو السلطةِ المسيطرة.” وأهمُّ خصائص هذا الأخير: مركزةُ السلطة وأدلجتُها، وتبعيةُ السلطات لسلطةٍ مسيطرة، وتداخلُ صلاحياتِ هذه السلطات، وتقييدُ الحقوق والحريات في النصّ الدستوري مباشرةً أو بالإحالة على قوانين، وعدمُ التطرّق إلى مبادئ تداول السلطة (أو “دسترة” احتكارها). وهنا يُطرح الإصلاحُ الدستوري بهدف تعديل القواعد الدستورية التي تشرعن سيطرةَ سلطةٍ ما على المجتمع، أو انتهاكََ حقوق المواطنين وحرياتهم، أو تكريسَ نظام حكمٍ معيّن لصالح فئةٍ بعينها، أو في بعض الأحيان كلّ ما ذُكر.
أما الآليّات العملية لتعديل الدستور فتنصّ عليها نصوصُه ذاتُها، وهي تختلف صعوبةً أو سهولةً بحسب مرونة الدستور (يجري تعديلُه بطريقة تعديل القوانين العادية نفسِها) أو جمودِه. ولكنْ في الحالة الأخيرة ذاتها، يُجمع فقهاءُ القانون على استحالة الجمود المطلق للدساتير، وذلك لاعتباريْن: الأول سياسيّ، ويتمثّل في أنّ الدستور انعكاسٌ للظروف التي تعيشها الدولة؛ وعليه فإنه لا بدّ من تعديل نصوصه بما يتماشى مع تلك الظروف، وإلاّ حَدَثَ انفصامٌ بين النصّ والواقع. والثاني قانونيّ، ويتمثّل في أنّ فرض الجمود المطلق على الدستور يتعارض مع مبدإ سيادة الأمة التي لها الحقُّ في تعديل الدستور بل إلغائه؛ وهذا ما عبّرتْ عنه أفضلََ تعبير المادةُ 128 من الدستور الفرنسي لعام 1793 التي نصّت على أنّ “للشعب دائمًا الحقََّ في أن يعدِّل وأن يغيِّر دستورَه لأنّ جيلاً معيّنًا لا يستطيع أن يُلزمَ الأجيالََ التاليةَ بقوانينه وأنظمته الدستورية.”
من هذا المنطلق، فإنّ طرحَ مسألة الإصلاح الدستوري في سوريا لا يُعدّ أمرًا زائدًا عن الحاجة، لا للاعتباريْن السياسي والقانوني السابق ذكرهما فحسب، وإنما أيضًا لقضايا تتعلّق بأسلوب نشأة الدستور وجوهرِ أحكامه في حدّ ذاتها.
في الدستور السوري
صدر دستورُ سوريا الحالي عامَ 1973 بعد طرحه من قِبل مجلس الشعب أمام الاستفتاء الشعبي، وذلك بعد سنوات قليلة من حركة عام 1970 التي تسلّم على إثرها الرئيسُ الراحل حافظ الأسد سدّةَ الرئاسة في سوريا. وبالتالي لم يكن الدستورُ نتاجَ عمليةٍ ديمقراطيةٍ وتداولٍ سلميٍّ للسلطة، وانعكس أسلوبُ نشأته على ما تضمّنه من أحكامٍ نكتفي بذكر أهمّ ما يتناقض منها مع مبادئ الدستور الديمقراطي وأحكامه.
1) هدرُ دستورية القوانين: لا يمكن التوفيقُ بين مبدأيْ سموّ الدستور على غيره من القوانين ودستورية هذه الأخيرة (بمعنى موافقتها لأحكامه)، وبين هدر الدستور لهذين المبدأيْن. وقد أتت المادة 153 من الدستور السوري، التي تنصّ على بقاء التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان الدستور ساريةَ المفعول إلى أن تعدَّل بما يوافق أحكامَه، لتهدر هذين المبدأين. ومن بين هذه التشريعات: قانونُ إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية (8 -3 – 1963)، وقانونُ حماية الثورة (7 – 1 – 1965)، وقانونُ إحداث المحاكم العسكرية (17 – 8 – 1968)، وقانونُ إحداث محكمة أمن الدولة (28 – 3 – 1968). وهي تتناقض جذريّاً في أحكامها مع الدستور، ولها الأولويةُ في التطبيق عمليّاً. وهو ما قَطعَ الطريقَ على الاستفادة من المزايا التي تضمّنها الدستورُ لصالح المجتمع والمواطن: كتقديسِ حرية المواطن، وحمايةِ خصوصيته وحرياته العامة، وحقه في التقاضي أمام قضاءٍ محايدٍ ومستقلّ.
وفي هذا الإطار لا بدّ من التعرّض إلى المحكمة الدستورية العليا، التي يُفترض أن تبتّ بدستورية القوانين. هذه المحكمة يسمَّى أعضاؤها بمرسومٍ من رئيس الجمهورية (المادة 139)، وهو ما يَنْزع عنها استقلاليتَها المفترضة. وهي تنظر وتبتّ في دستورية القوانين إذا اعترض رئيسُ الجمهورية، أو ربعُ أعضاء مجلس الشعب، على دستورية قانون قبل إصداره (المادة 145). ولا يحقّ للمحكمة أن تَنظر في القوانين التي يطْرحها رئيسُ الجمهورية على الاستفتاء الشعبي وتنال موافقةَ الشعب (المادة 146). وهكذا تَنسخ هذه القوانينُ الموادَّ الدستورية في حال تعارضها معها، وذلك عن غير الطريق الذي حدّده الدستورُ لتعديل موادّه.
والحقّ أنّ المناقشة القانونية هنا تغدو ضربًا من العبث: ذلك أنّ الدستور يسمو على جميع القوانين الأخرى، وهذه القوانين لا يجوز أن تتعارضَ مع الدستور، وهذا الدستور هو الذي يبيح لهذه القوانين معارضتَه! وكلُّها أمورٌ لا يمكن تبريرُها إلاّ بإحالتها على أسلوب نشأة هذا الدستور في الأساس.
2) مركزةُ السلطة وأدلجتُها: تنصّ المادةُ الثامنة من الدستور على أنّ “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزبُ القائدُ في المجتمع والدولة، ويقود جبهةًُ وطنيةً تقدميةً تعمل على توحيد طاقاتِ جماهير الشعب ووضعِها في خدمة أهداف الأمة العربية.”
ومع أنّ هذه المادة هي التي تحظى عادةً بتركيز القوى الديمقراطية الداعية إلى الإصلاح الدستوري، فإنّ ثمة موادَّ أخرى تتضمّن أكثرَ من مجرد منح حزبٍ بعينه قيادةَ المجتمع والدولة. فمثلاً، تَجعل المادةُ 49 من واجب التنظيمات الجماهيرية تحقيقَ بناء المجتمع العربي الاشتراكي، وتخطيطَ الاقتصاد الاشتراكي وقيادتَه. وهي تَفرض على المجتمع نمطًا إيديولوجيّاً معيّنًا، وتَقْرن حصولَ المواطن على حرياته وحقوقه بالتزامه هذا النمطَ: “يَهْدف نظامُ التعليم والثقافة إلى إنشاء جيل عربيّ قوميّ اشتراكيّ…” (المادة 21)؛ “لكلّ مواطنٍ الحقُّ في أن يُعْربَ عن رأيه بحرية وعلنية… بما يَضْمن سلامةَ البناء الوطني والقومي ويَدْعم النظامَ الاشتراكي….” والنتيجة هي مركزةُ السلطة بيد فئةٍ بعينها، تطبع دستوريّاً نظامَ الحكم والمجتمع بمجمله بطابعها الإيديولوجي الخاصّ.
تجدر الإشارةُ هنا إلى أنّ الفقه الدستوري اختلف في تحديد ما إذا كان الدستور يقتصر على القواعد المنظِّمة للسلطات الحاكمة واختصاصاتها وتحديد حقوق المواطن وواجباته (وهو رأيُ الأغلبية)؛ أمْ أنه يَشمل أيضًا الأهدافَ المنوطةَ بالدولة والمتعلّقة بالأسس الاقتصادية والاجتماعية كما يذهب إلى ذلك جورج بيردو مثلاً، الذي يَعتبر أنّ الدستور يحدّد مذهبَ التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي تمثّله السلطةُ الحاكمة، وكذلك الاتجاهَ القانوني والإيديولوجي الذي ينبغي أن تَعمل في إطاره منظّماتُ الدولة أو سلطاتُها.
لكنّ هذا الرأيَ الأخير يتناقض، في ما نرى، مع مبدإ الدستور الديمقراطي من حيث إنّ صدورَ هذا الأخير يكون عن إرادة الشعب بفئاته وتياراته المختلفة، وبما يَكْفل توافقًا وطنيّاً جامعًا تضيق فيه الاختلافاتُ إلى حدّها الأدنى؛ ومن حيث إنّ مبدأ الدستور الديمقراطي يَكفل الحقوقَ والحرياتِ العامةَ لجميع الأفراد لمجرد كونهم مواطنين، لا لما يَحْملونه من آراء أو أفكار.
3) تداولُ السلطة: بموجب المادة 84 من الدستور، يجري اقتراحُ المرشّح لرئاسة الجمهورية من قِبل القيادة القطْرية، ثم يتمّ ترشيحُه من قِبل مجلس الشعب، وأخيرًا يجري الاستفتاءُ الشعبي لاختياره. ولم يحدِّد الدستورُ عددَ ولايات رئيس الجمهورية (الذي يُنتخب سبعة أعوامٍ ميلادية)، وهو ما يؤدّي إلى حرمان المواطنين حقَّهم في ترشيح أنفسهم لرئاسة الجمهورية. وإذا أضفنا إلى ذلك عدمَ وجود قانونٍ للأحزاب، واحتكارَ معظم مقاعد البرلمان للجبهة الحاكمة بقيادة حزب البعث، فإنّ ذلك يَحُول دون تداول السلطة، ويَحْصر إمكانيةَ أيّ تغيير في السلطة بالطرق غير الديمقراطية (كالانقلاب أو الثورة).
4) عدمُ الفصل بين السلطات الثلاث: يعطي الدستورُ رئيسَ الجمهورية صلاحيّاتٍ واسعةً جدّاً تتداخل في كثيرٍ منها مع السلطتين التشريعية والقضائية. فرئيسُ الجمهورية يتمتّع، باعتباره رئيسََ السلطة التنفيذية، بسلطة إعداد مشاريع القوانين وإحالتها على مجلس الشعب (المادة 110)، والاعتراضِ على القوانين التي يُقرّها مجلسُ الشعب (المادة 98). وهو يتولّى سلطةَ التشريع في المدة الفاصلة بين مجلسيْن، وخارج انعقاد دورات المجلس، وأثناء انعقاد دورات المجلس إذا اقتضت ذلك الضرورةُ القصوى المتعلّقةُ بمصلحة البلد (المادة 111).
وهـيمنة السلطة التنفيذية واضحة فـي هـذه النصوص عـلـى حقوق السلطة التشريعية الـمستقلة، ومـنهـا النصوصُ الجزائية القانونية. وتجدر الإشارةُ إلـى أنّ الدستور السوري لعام 1950 حصر التشريعََ فـي مجلس النوّاب وحده، وقال فـي الـمادة 59 مـا يـلـي: “لا يجوز لـمجلس النوّاب أن يتخلّى عـن سلطته فـي التشريع.”223
كما يقوم رئيسُ الجمهورية بتعيين أعضاء المحكمة الدستورية، ويترأّس مجلسَ القضاء الأعلى. وهو القائدُ العامّ للجيش والقوات المسلّحة، له حقُّ إعلان الحرب، والتعبئةِ العامة، وعقدِ الصلح، وإعلانِ حالة الطوارئ وإلغائها، وممارسةِ السلطة التنفيذية، وإصدارِ القوانين التي يُقرّها مجلسُ الشعب، وإبرامِ المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وإصدارِ العفو الخاصّ، وردِّ الاعتبار. ولديه صلاحيةُ تعيين وإقالة نوّاب الرئيس، ورئيسِ الوزراء، والوزراء ونوّابهم، والموظّفين المدنيين والعسكريين. كما يَمْلك صلاحية اعتماد رؤساء البعثات السياسية لدى الحكومات الأجنبية، وتشكيل اللجان والمجالس المختصّة.
تُظهر هذه الصلاحياتُ المنوطةُ برئيس الجمهورية، بوصفه رئيسًا للسلطة التنفيذية، تجاوزًا للسلطتين التشريعية والقضائية، وتُفْقدهما استقلالَهما المفترضَ: سواء لجهة منحه سلطةَ التشريع في العديد من الموادّ كما سبق الذكْر، أو بمنحه صلاحيةَ تعيين أعضاء المحكمة الدستورية أو غير ذلك من الصلاحيات التي من المفترض أن تكون خارجةً عن صلاحيات السلطة التنفيذية.
وإذا أضفنا إلى ذلك أنّ المادة 91 من الدستور تنصّ على عدم مسؤولية رئيس الجمهورية عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامّه إلاّ في حالة الخيانة العظمى، وبناءً على اقتراح ثلث أعضاء مجلس الشعب على الأقلّ، وبقرارٍ من مجلس الشعب بتصويتٍ علنيّ وبأغلبية ثلثيْ أعضائه في جلسةٍ سرّيةٍ خاصة، على أن تتمّ محاكمتُه أمام المحكمة الدستورية العليا (التي يعيّن أعضاءها بنفسه)، فإنّ ذلك لا يعني فقط صلاحيّات للرئيس تتجاوز كلاً من السلطتين التشريعية والقضائية بل تؤمّن له الحصانةَ أيضًا.
5) تعديلُ الدستور: وفقًا للمادة 159 من الدستور السوري، يعدَّلُ الدستورُ بناءً على اقتراح رئيس الجمهورية أو ثلثِ أعضاء مجلس الشعب، الذي يشكّل لجنةً خاصةً لبحث التعديل بمجرد ورود الاقتراح إليه. ثم يناقش المجلسُ هذا الاقتراح: فإذا أقرّه بأكثرية ثلاثة أرباع أعضائه، اعتبُر التعديلُ نهائيّاً شريطةَ اقترانه بموافقة رئيس الجمهورية.
غير أنّ هذه الطريقة في تعديل الدستور تخالف ما هو متعارفٌ عليه في معظم دساتير العالم، حيث تعطى صلاحيةُ تعديل الدستور إلى البرلمان أو الشعب أو كليْهما معًا. أما اشتراطُ موافقة رئيس الجمهورية من أجل إقرار التعديل، فهو يجعل من الدستور السوري جامدًا جمودًا شبهَ مطلق، إذ يَحْصر إمكانيةَ التعديل بيد رئيس الجمهورية دون غيره، خلافًا لما يُفترض في الدستور لكونه تعبيرًا عن إرادة الأمة.
إذا أضفنا إلى ذلك قانونَ الانتخابات، وطبيعةَ المجلس التشريعي الذي يحظى فيه الحزبُ الحاكمُ بالأغلبية، فإنّ احتمالَ إجراء أيّ تعديلٍ دستوريّ يغدو بمثابة إجراءٍ آخر من إجراءات الفرض والسيطرة.
جديرٌ بالذكر هنا أنّ قانون العقوبات العامّ في مادته 291 يعاقِب على “الاعتداء الذي يَستهدف تغييرَ دستور الدولة بطرقٍ غير مشروعة” بالاعتقال المؤقّت خمسَ سنوات على الأقلّ، وتكون العقوبةُ الاعتقالَ المؤبّد “إذا لجأ الفاعلُ إلى العنف.” وهذا يعني أنّ “الاعتداء” الذي يستهدف تغييرَ الدستور لا يَلزم أن يكون عن طريق العنف. وعلى ذلك جرى تأويلُ مفردة “الاعتداء،” وتفسيرُ عبارة “بطرقٍ غيرِ مشروعة،” لإسقاطهما على دعوات القوى الديمقراطية من أجل الإصلاح الدستوري، ولسجنهم ومحاكمتهم بناءً على هذه المادة. من ذلك، على سبيل المثال، محاكمةُ ثمانية من معتقلي الرأي عامَ 2002 أمام محكمة أمن الدولة العليا، دينَ معظمُهم بالاستناد إلى هذه المادة، وتلقَّوْا أحكامًا بالسجن تراوحتْ ما بين خمس وعشر سنوات.
لسنا في معرض دراسة ضبابية المادة المذكورة وقابليتها الواسعة للتأويل، علمًا أنّ قانون العقوبات السوري قد صدر بتاريخ 22-6-1949، أيْ في ظلّ أول انقلابٍ عسكري في سوريا بقيادة حسني الزعيم. لكنها قد تشكّل مدخلاً مناسبًا للتساؤل عن خشية المشرِّع ـ ومَن وراءه منذ بداية عهد سوريا بالانقلابات العسكرية ـ من أية مطالبة بتعديل الدستور في إطار إصلاحٍ دستوريّ جزئيّ أو شامل.
هل الحلّ في الإصلاح الدستوري؟
في ظلّ ما سبق، يبدو أنّ الإصلاح الدستوري شرطٌ أساسٌ لأيّ إصلاحٍ سياسي حقيقي. فهو إصلاح يستهدف الفصلَ بين السلطات، والتوازنَ في صلاحياتها، وصونَ استقلالها، وتكريسَ دولة القانون والمساواة والحقوق والحريات. لكنّ ما يبدو بدهيّاً من الناحية النظرية يغدو أكثر تعقيدًا على أرض الواقع.
فمن ناحية، لا يَنْدر أن يتضمّن الدستور موادَّ في صالح المجتمع والفرد، لكنْ لا يُعمل بها على الإطلاق لأسبابٍ تتعلّق ببنية النظام الحاكم وأساليب الحكم وأدواته. من ذلك حقُّ المواطن في الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 26)، وممارسة المواطنين لحقوقهم وتمتّعهم بحرياتهم (المادة 27)، وعدمُ جواز تحرّي أحدٍ أو توقيفه إلا وفقًا للقانون، وعدمُ جواز تعذيب أحد جسديّاً أو معنويّاً أو معاملته معاملةً مهينة، وضمانُ حقّ التقاضي وسلوك سبل الطعن والدفاع أمام القضاء (المادة 28).
ومن ناحية أخرى، وعندما تكون المطالبةُ بالإصلاح الدستوري نتيجةً لمركزة السلطة والافتقار إلى الحقوق والحريات، فمَنْ هي الجهة المخوَّلة القيامَ بالإصلاح الدستوري؟ وكيف لشعبٍ غير مكتمل الحقوق أن يناقش مسألةً بأهمية الإصلاح الدستوري ويقرّها بإرادته المستقلّة؟ وهل يمكن الحديثُ عن الإصلاح الدستوري في المرحلة ما قبل الانتقالية، أيْ قبل بدء عملية تداول السلطة والمشاركة وتحقيق القدر الأدنى من الحريات الأساسية؟
هذا مع الأخذ بالاعتبار أنّ عملية الإصلاح الدستوري لا يمكن أن تكون معزولة عن مجمل المستجدّات داخليّاً وخارجيّاً، سواء تلك المتعلّقة بالظرف السياسي والاقتصادي الإقليمي والدولي وتأثيره في الداخل السوري، أو تلك المتصلة بقضايا العولمة والهوية والمصير، خاصةً مع طرح قضايا ذاتِ حساسيةٍ مثل قضايا حقوق الأقلّيات الإثنية والدينية، وكيفية انعكاسها في الدستور. فعلى سبيل المثال، لطالما شكّل مطلبُ الأحزاب الكردية المعارضة بتضمين الدستور نصّاً على حقوقها الدستورية (كأكبر أقلّيةً قوميةٍ في البلاد) مفْصلاً خلافيّاً بينها وبين أحزاب المعارضة العربية في سوريا. وعدمُ وجود أحزاب سياسية إسلامية فاعلة على الساحة السورية الآن لا يعني أنّ نقاشًا حول “أسلمة” الدستور لن يثار في المستقبل.
عندما يكون الدستور مجردَ تكريسٍ وانعكاسٍ لواقعٍ قائم – على عكس المفترض وهو أن يكون الواقعُ تكريسًا للقواعد الدستورية – فقد يغدو من غير المجدي التفكيرُ في البدء بالإصلاح الدستوري وحده. ولعلّه من هذا المنطلق لا يغدو غريبًا ألاّ نجد إلاّ القليلَ من الحديث عن الإصلاح الدستوري في أدبيات القوى الوطنية الديمقراطية في سوريا، والتي تَختزل هذا الإصلاح عادةً بالدعوة إلى تغيير المادة الثامنة من الدستور، في حين يكون جلُّ تركيزها على الممارسات العملية والواقع المعيش: من سيطرة الأجهزة الأمنية، إلى فساد القضاء،…
لا يعني ذلك ألاّ يكون الإصلاحُ الدستوري على أجندة القوى الديمقراطية. لكننا نرى ألاّ يُعطَى الأولويةَ في ظلّ الوضع القائم، كي لا نصل إلى نتائج وصلتْ إليها دولٌ أخرى، انتهت دعواتُها إلى تحقيق “الإصلاح الدستوري” بتعديلاتٍ اتّخذتْ شكلاً آخر من أشكال الفرض واحتكار القرار. فمن أجل أن يشارك الشعبُ في عملية الإصلاح الدستوري، فإنّ ذلك يتطلّب عبورَ مرحلة من الإصلاحات التشريعية والقضائية وحصاد بعض نتائجها على أرض الواقع، بما يتيح للمجتمع إعادةَ بناء قواه الحيّة، وإعادةَ جزء من الثقة المهدورة بالعمل العامّ وجدواه، وإتاحةَ الفرصة الكافية لنقاش التعديلات المطلوبة وأهميتها وأولوياتها.
ولا يعني ذلك أيضًا أنّ الإصلاحات الدستورية التي تتضمّن خطواتٍ حقيقيةً باتجاه الديمقراطية، ولكنها تُتّخذ بإرادةٍ منفردةٍ من طرف النظام الحاكم (على ضآلة احتمالات هذه الفرضية)، مرفوضةٌ لعدم صدورها عن الشعب. لكنّ في ذلك تجاوزًا لمرحلةٍ مهمةٍ من مراحل الإصلاح الدستوري، تتمثّل في تحقيق التوافق الوطني المطلوب، الذي يجعل من الدستور دستورًا لجميع المواطنين، ويمنحهم الإحساسَ بالمواطنة، ويدفعهم إلى الدفاع عن هذا الدستور عبر ممثّليهم الشرعيين: برفض إهدار مبدإ دستورية القوانين، والتصدّي لأيّ تجاوزٍ من سلطةٍ على أخرى ولأيّ تعدٍّ على حقوقهم وحرياتهم المصونة دستوريّاً.
1. د.ابراهيم عبد العزيز شيحا، المبادئ الدستورية العامة، الدار الجامعية، 1982.
2. عبد الوهاب حومد، “نظرات معاصرة عـلـى قـاعـدة قانونية الجرائم والعقوبـات فـي التشريع الـمقارن،” الدليل الإلكتروني للقانون العربي، ص
عن مجلة الآداب عدد تشرين الأول/أوكتوبر 2008