جدلية ثقافة المعتقلات
جهاد صالح
يقول مانديلا عن تجربته في السجن : “كنت حينذاك مهمشاً , ولكنني كنت أعلم أنني لن أتخلى عن المعركة , كنت في بيئة مختلفة وصغيرة , حيث الجمهور هو أنفسنا وسجانونا . ولكنَّا نظرنا للمعركة داخل المعتقل كصورة مصغرة للمعركة ككل , فقد كانت هناك – في السجن – نفس العنصرية , ونفس الاضطهاد -كالتي في خارج السجن – . ولم يدر في خلدي قط أنني لن أخرج من السجن يوماً من الأيام , وكنت أعلم أنه سيجئ اليوم الذي أسير فيه رجلاً حراً تحت أشعة الشمس والعشب تحت قدمي ؛ فإنني أصلاً إنسان متفائل , وجزء من هذا التفاؤل أن يُبقى الإنسان جزءاً من رأسه في اتجاه الشمس وأن يحرك قدميه إلى الأمام . وكانت هناك لحظات عديدة مظلمة اختبرت فيها ثقتي بالإنسان بقوة ولكنني لم أترك نفسي لليأس أبداً . فقد كان ذلك يعني الهزيمة والموت .
إن المعتقل لا يأخذ من الإنسان فقط حريته , ولكن أيضاً يحاول أن يحرمه من هويته , فإن الجميع يرتدون نفس الملابس , ويأكلون نفس الطعام , ويتبعون نفس برنامج الحياة اليومي , وإن الدولة المتسلطة فقط هي التي لا تسمح باستقلال الإنسان وتفرده”.
حين يصبح الإنسان في ظلال الجدران المعتمة والمنسية، ويتمسك رغم العذابات والقهر بأيقوناته المضيئة والمقدسة، ويفرش آرائه بوجدانية تراتيلية، فيفقد حريته والكثير من الأشياء العزيزة لديه، ويتحول قسرا إلى حياة المعتقل، التي لايختارها هو، وعليه أن يتعايش معها، حيث المعتقل نمط حياة ولابد له من أن يتكيف بصلابة ومرونة معا، في ظل وجود رقابات وجلادين وأعراف تفرض بالسوط والعصا والقمع والعنف، فالتنفس بمعيار وكذلك الخبز والنوم والماء، فقط الأحلام والأفكار تظل تعيش حريتها.
أمام سجين الرأي رؤية جديدة تحتضنها الجدران الإسمنتية السميكة، وهنا يدخل في سلوكية شخصية وذاتية مقاومة ضد رغبات الجلاد، ومع نفسه أيضا، صراع ضد الترويض والتدجين والتبعية،والمحافظة حتى النهاية على قدسية المبدأ،ويدخل في مونولوج حياتي مع المعتقل وثقافاتها ،وليخرج حاملا في ذاكرته وقلبه مكتسبات لثقافة جديدة قد تكون سلبية وايجابية،رغم مرارتها وعنفوانها المؤلم،لكن لايمكن الانسلاخ عنها أو نسيانها أبدا.
مثقفون سوريون كانت تجربتهم مع حياة المعتقلات في سوريا قاسية، لكنهم تحدثوا بشجاعة ليزيلوا الغبار والضباب عن نوافذ السجن وأنماطها وثقافتها التي هي كالحلم والسراب.
الشاعر فرج بيرقدار نحت قصيدة الحرية على جدران زنزانته التي لم تمنحه أية ثقافة :
لأن السجن، يذهب بنا إلى نقيض ما نريد، فقد حاولتُ الذهاب به إلى نقيض ما يريد.
ليس ذلك من باب رد الفعل أو الميل إلى الأضداد والثنائيات، بل لأن إمكانية الحوار مع السجن أو سيِّده، كانت مبتوتة أو ميِّتة ومكفَّنة بالأمِّيَّة والتعالي والازدراء.
على ذلك المعراج الضلِّيل المائل بعكس الاتجاه، كان أهم ما ينبغي عليَّ تعلَّمه هو الحرية بصورة عامة، والحرية الداخلية على نحو خاص.
السجن لا يمنح ثقافة، إذ ليس من طبيعته المنح بل المنع.
عليك أنت أن تمنحه قدرَ ما تستطيع من ثقافتك. عليك أولاً أن تعقله لكي تعتقله، أو تروِّضه على الأقل، ثم تجرِّده من جميع معانيه، لتتحرّر منها، فلا يتبقّى منه سوى المكان، أي ما يتعلق بحرية الجسد أو الحركة. أما الزمن الذي يمضي عائماً وثقيلاً من جهة، لزجاً وقليل الكثافة، بليداً ومتربصاً، رخواً وحجرياً، شحيحاً وفائضاً وملعوناً من جهات أخرى، فإنه مَدْعاة إلى التأمّل، والنزول إلى الراقات الأعمق في النفس، وإعادة مناقشة المسلَّمات والمحرَّمات ، وقراءة ما لم تكن تفكر في قراءته من قبل، كما يوقظ رغبة التجريب في أي شيء بدءاً من أصغر تفاصيل الحياة وانتهاء بالكتابة أو إبداع شيء ما.
السجن تمرين على الحرية وإن كان قاسياً ومن نوع خاص.
الروائية حسيبة عبدا لرحمن التي دفعت من عمرها سبع سنوات في المعتقلات ترسم تجربتها من خلال الكتابة وعالم الرواية :
قد يبدو السؤال غريباً، سجن وثقافة سجن؟! خصوصاً لكتلة سكانية كبيرة تسمع عن سجن مجرمين ومهربين وتجار مخدرات، لكن سجناء سياسيين؟ إنهم كمطر صيف عابر في أغنية حب وجدانية يلفها الخيال . أو صدفة خوف وذهول أوقعت تلك الكتلة أو بعضها في رؤية شبح ما يسمى سجين سياسي .
سأخرج من حكايات العامة وما تنسجه حول السجناء السياسيين .
السجن عالم التفاصيل والصغائر ، وعالم العري الداخلي، فالشخصيات السجينة تضيق روحها ضيق المكان والخطوات المرسومة والمعدودة ، وهنا تبدأ معرفة الشخصيات عن قرب دون أي “رتوش” خارجي أو داخلي، فتتشكل لدى السجين ملكة الرصد والمراقبة ومعرفة نماذج إنسانية كثيرة، سواء كانت النماذج ضمن الاتجاه الواحد، أو الاتجاهات السياسية المتعددة ، ويصبح ما يجمع الناس داخل السجن الحاجات الأساسية التي تدفع السجناء إلى الصراع والمشاكل اليومية مع إدارة السجن ومع بعضهم البعض ، وما يقرب السجين على السجين الأخر الطباع المشتركة، وإمكانية العيش المشترك ضمن الحد الأدنى من التفاهم اليومي وإلا يتحول السجن إلى مشفى للأمراض العقلية.
في السجن تتراجع الإيديولوجية لصالح اليوميات المعجونة بالحزن والقهر ولحظات الفرح المسروقة والمعجونة برغيف الخبز وحبات الزيتون ” وسنانير” حياكة الصوف بغرزات من الحلم البعيد لمن نحب .
وفي هذه الشرنقة عليك أن تتعلم الصبر، وهذا الصبر يلبس أحياناً رداء الصداع الرأسي وينعش التوتر الذي يحول الشخصيات الهادئة إلى شخصيات موتورة ، كما يحرض الأنا باتجاه الانتفاخ أو التقزم . ينشر أمراضاً مبررة نتيجة صدأ المكان وتكسر الأوهام في المخيلات . فضيق المكان يدفع السجين نحو الطيران إلى عالم آخر ومحاولة الانعتاق المكاني . ينمو حس الهروب بالتوجه إلى الكتابة أو الرسم تتحرض المواهب الكامنة وتخرج زفرات الوجع والقلق وأحياناً تخرج بالرياضة اليومية… كما ينمو حب قراءة الأدب والصحافة وكل مايقع تحت اليد ، وهذا تحليق آخر نحو عالم بعيد عن الأسلاك الشائكة “وقرقعات” الصحون والأصفاد.
إذاً السجن جلد وقوة احتمال ( أكثر من الجمل ) يكل المراحل ابتداء من لحظة الاعتقال والتعذيب إلى الولوج في أخطبوط زمن السجن الهلامي المحلزن والمعوم بآن معاً .
والسجن الخاص ، أو المسكن الخاص افرد لنا نماذج وأنماط من البشر لم نكن لنلتقيهم. إسلاميون راديكاليون اقتربنا منهم واقتربوا منا ونسجنا صداقات . ونمط آخر مختلف كلياً وهو قاع المجتمع من قتلة ومخدرات ودعارة واختلاس و…أنماط كنا نشاهد بعضاَ منها على شاشات التلفزة ، ولم نكن نعتقد أننا سنكون على تماس مباشر معها .
فالسجن من مفارقاته ( المعتقلين السياسيين) إنه من جهة يعطي تجربة اجتماعية وثقافية غنية وسعة أفق بمناح كثيرة رغم قسوته ومرارته وضيق أفقه من الجهة الأخرى. إنه مكان التناقضات ، تناقضات من يعش بمربعاته ومستطيلاته.عدا عما يمكن أن يحصل السجين من معرفة عامة ( فلسفة ، لغات ، أدب فن ..) ومهارات حياتية أخرى ومنها الصحافة .
وبالنسبة لي فأنا صدرت رواية عن سجن النساء نهاية التسعينات ( الشرنقة ) وفتحت باب الكتابة عن السجون في سوريا خصوصاً سجن النساء . استكملت نواح أخرى من التجربة بمجموعة قصص قصيرة ( سقط سهواً ) فيما بعد قام مجموعة من الكتاب السوريين وكذلك سجنا ء سابقين باستكمال مشروع الكتابة عن السجون في سوريا . وأصبح في سوريا وغيرها من الدول ما يعرف بأدب السجون .
الناشط فرحات علي يسترسل في الحديث عن اعتقاله كشاعر يلقي قصيدة عشق مؤلمة:
يتوقف الزمن فجأة وتسترسل في الذكريات، بينما حبيبتك لاتفاق قمة هامتك، وتدخل مرحلة صراع من نوع آخر، تقتل الصعقة وتفتت قوائم الألماني من الكراسي وتقلب الآية رأسا على عقب، وتصمد لتقتل من يريد قتلك، فتحول الماء الخارق المتدفق من قسطل آخر غرف فلسطين إلى ندى لعشق عذري في صباحات ربيعك، وصوت السياط إلى زقزقة العصافير بين حفيف أوراق أشجارك يا وطني، وجمرة أعقاب سجائرهم تكون بردا وسلاما على إبراهيم.
وتزول معها بقايا ثقافة الخوف التي غرسها الاستبداد والطغاة . بأظافرك المتسخة تكتب التاريخ على جدران عتمتك، وتسرق خيوطا من بصيص النور المسترسل عبر الشقوق وتنسج منها وطن أحلامك الموؤدة.
في زنزانتك هذه تتأمل العالم الذي جئت منه، وتسرقك الوحدة لتختلي بنفسك وتراجع الذات والماضي لأنك لاتملك سواه، وتدفن كل الآهات وتستبدلها بموسيقا الجمال والحياة والحرية التي فقدتها، وتتعلم الفداء ممارسة، وتتيقن أن الكلمة سلاح ماض، وتعلّم جلادك أن هذا المكان قبره هو، ولك وطنا تجري فيه الأنهار وهي تجر هموم أبنائه.
وتتقن فن الصمت والسلوان، فأنت في امتحان ليس ككل الامتحانات في المدرسة تدرس وتجتهد لتعطي كل ما تعلمته، وتجيب بدقة على كل الأسئلة كي تؤمن النجاح، أما هنا على العكس تماما يجب أن تنسى كل ما تعلمته ولا تجب لتلمس النجاح. وتفتش بين حروف الهجاء المنتحرة في ظلامك الباهر البهي عن أسماء مرت من هنا، ومفردات تلامس الواقع لتركب منها مفاتيحا تنطلق بها نحو غد أفضل وحياة سعيدة للأجيال القادمة.
الصحافي مسعود حامد حصد من المعتقل عاهة وذكريات قاسية :
مفهوم السجون في الدولة الديمقراطية التي تتداول في الحكم والدول ذات القيم الأخلاقية، تتعامل مع المعتقلين على مستوى عال من الاحترام، كون السجن بحد ذاته إصلاح، طبعا للذين أساؤوا استخدام العقل وانجروا وراء الغريزة، أما مفهوم المعتقل للسياسيين فهو ممنوع في تلك البلدان.
في سوريا تنحرف كل القيم والمبادئ وتكون سلطة العسكر والدولاب، الخيزران والقمع والترهيب هي أساس كل شيء، إن من يحاول التفكير في المعتقلات السورية التي هي أشبه بسجون القرون الوسطى في التعامل مع البشر ـ بالرغم من عدم و جود السجون في تلك الفترة ـ ، أما عن ثقافة السجن في سوريا كنت أحاول ملياً أن أتذكر ما حصلت عليه من تلك المعتقلات التي لم تخرجني إلا عاهة بحد ذاتها، كنا نحاول كثيرا الحصول على العلم والمعرفة لنمضي أوقات الفراغ بالفكر والتوعية، لكن ما كان يدهشني أن النظام والجلاد بالأحرى ـ رئيس شعبة التحقيق في فرع الفيحاء العميد علي مخلوف ـ لم يكن يسمح لنا بتداول الكتب التي من أجلها صارعنا كثيرا، هذا ما كان يثير حفيظتي في كثير من الأحيان.
لقد حاول كثيرا رجالات الأمن أن يزرعوا الفتنة بين المعتقلين، وقد نجحوا في ذلك خاصة مع من لم يكن لديهم قضية أو قناعة بمعتقله، فكانت تؤدي إلى مشاجرات ويكون الجلاد هو الفاتن وهو القاضي.
بتصوري السجون السورية لا توجد فيها سوى فكرة مسخ السجين وإذلاله إلى أبعد الحدود وترهيبه بالدرجة الثانية لكي يزرع الخوف في داخله إلى مدى العمر، هذا أن دل على شيء فهو يدل على أن النظام لا يستطيع مواجهة الشعب بالحقيقة التي في داخله، فينجر وراء زرع الفتن حتى في تلك الأماكن كونها صورة مصغرة عن الواقع السوري أجمع.
وتبقى المعتقلات سواء كانت تمنح ثقافة أو لا مكانا لايليق بالإنسان والإنسانية، لكل من يعمل في سبيل حياة بشرية عادلة وديمقراطية ،في ظلال الحرية الوارفة والوطن ذا الحكم الرشيد.
فالإنسان خلق ليكون حرا على الأرض.
. بيروت 2008
خاص – صفحات سورية –