صفحات الناسفلورنس غزلان

لماذا تتلبس ثوب القاتل بعد أن تكون ضحيته؟ لماذا ترتبط كينونتك بموتي؟

null
فلورنس غزلان
تغص الأرض بالضحايا وتغوص ضحية الأمس بدماء أشقائها في الوطن، فقد غطت وطغت خيمة العجز الفكري على العقل
وإدراكه وصار للبندقية لغة تنسج هوية ضاعت تحت نعال صُناع التاريخ،  بندقية تفتي بمعنى الهوية على حساب  إلغاء  هوية الآخر، لا يغسل المرض جسده من فيروس الإصابة، إلا بصلب أجسادٍ  لأطفال المختلف عنه بالعرق والمذهب!، لا يخرج الظلام القابع في جفون نسائه ويخطف البصر والبصيرة من قلوب رجاله،  إلا بمد الأذرع لتسلخ أجساداً تحمل نفس اللون والمنبت لكنها تصلي ببيت يقرع الأجراس بدلا من صوت المؤذن!،  هذا هو  اختلافها رغم  تقاسم ملح الأرض وخبزها ونتاجها عبر التاريخ، رغم ممارسة طقوس التزاوج والأفراح فوق سجادتها الخضراء وبيادرها الذهبية. رغم أنهم غاصوا بطين دجلة معاً ورموا شباكهم في مياهه معاً!
هل تقتل رغبة الهوية القدرة على المحبة المتبادلة زمناً؟ هل يقتل حلم الغد الممنوع سنيناً رغم وحدة الخوف المشترك والصمت المشترك والموت المشترك تحت سياط رعب ركض زمناً في جنبات الديار بتنوع ألوانها وأطيافها المذهبية والإثنية خاصة حين يغدو الحلم قاب قوسين وأدنى من التحقيق فينتصر الحلم الصغير على الحلم الكبير؟ هل يصل التطرف الأناني لقومية ما  أو فئة ما ليصبح أقوى من التاريخ الطويل والحلم الكبير وأقوى من المحبة؟ هل تتحجر قلوب الوطنية وتنتحر أمام خروج قمقم العنصرية والقومية والطائفية فتقلب شروط التآخي  لعداوة تنمو على مذبح” أن أكون  يعني أن تنتهي أنت”!!!.
كيف يمكن للضحية أن  تتلبس دور القاتل ، الذي نكل بها  عقودا طويلة فتمارس على الآخر قتل حلمه ومنع عينيه من التشبث  بالأرض والتاريخ؟
إنها دورة المرض ودورة فيروسه الفتاك ، دورة القهر ودورة ضعف البصر وقصر النظر السياسي.
براكين تقذف حمم الحقد والضغينة التي نامت تحت جناحينا سنيناً،  وجاء الوقت العُصابي ليصطاد الضعف والضعيف فينا…إنها براكين التفتيت والتشتيت تطال مسيحيي الشرق بالذات وتفتك بأُسر بكاملها وتُلغي وللأبد ــ إن لم نقف وقفة ضمير ووعي وتدارك ــ هذا التنوع الثقافي والديموغرافي ، الذي كان فخرنا على مدى التاريخ ورمز من رموز تعايشنا وتآزرنا وثراءنا…لماذا؟ بوجع وألم أصرخ بوجهكم …لماذا؟تحرق بيوت مسيحي الموصل وتشرد أكثر من 1092 أسرة وتُهَّجر عن موطنها…هل ينبت بينكم وتحت جلودكم صدام حسين جديد؟..هل تتوارثون الدور؟! ..ألستم ضحية العسف حتى اليوم في سورية والعراق أشوريين وكلدانيين تعايشوا مع يزيديين وأكراد على مر العصور،  وحتى اللحظة تعانون من نكران لهويتكم وسلخ لكم عن أرضكم؟…أسألكم لماذا؟
لم يقتصر الأمر على الموصل، بل في البصرة وبغداد ونينوى وغيرها وغيرها…ألم تكن العراق يوما بجنوبها وجزءا كبيرا من شمالها مسيحية الدين وآشورية التاريخ،  بالضبط كما كان الحال عليه في سورية؟!
وكي لا أنطلق من جانب واحد ولا ألوم جانبا واحدا …وكي نكون موضوعيين في الطرح وفضح المرض…أعيد عليكم لمحة من لمحات تاريخكم الذي تتبرأون منه اليوم بفعل عالم العمى والعشى السياسي وحيد القرن.
عندما استقلت سورية كانت نسبة المسيحيين فيها تشكل 20% من سكانه…وحتى الثمانينات من القرن ظلوا يشكلون مانسبته 17% من تعداد السكان السوريين…اليوم لا يشكلون أكثر من 7% !!! لماذا؟.
لماذا يتعرض مسيحيو الشرق للتهجير؟ لماذا يُسلخون عن أرضهم وبيوتهم وثقافتهم وتاريخهم ؟ ..لماذا يُشك في انتمائهم وهم من حمل راية التعريب إبان العهد الأموي ــ على سبيل المثال ــ كانوا يحتلون أرفع المناصب المكتبية والحسابية في الدولة، وظلت المسيحية تشكل النسبة الكبرى من سكان سورية طيلة القرن الأول من العهد الإسلامي، لكن انعدام الأمان والتمييز إلى جانب الفقر الذي دفع بالكثيرين لإعلان إسلامهم فلم يعودوا قادرين على دفع الجزية
والحال في العراق كان مشابها لما في سورية حيث دولة المناذرة هناك، والغساسنة في سورية…ناهيك عن دورهم في النهضة العربية نهاية الحقبة العثمانية وكيف قضى الكثيرون منهم تحت سيف الاضطهاد ومن أجل الحرية. هل أذكركم بمن استشهد منهم وعلقت مشانقهم في ساحة المرجة بين عامي 1915 ــ 1916، بالطبع إلى جانب الكثير من علماء نهضة سورية وشهدائها الأبرار الذين نُسيوا أمام تاريخ البعث الجديد، وتاريخ  نهوض العصبيات الشوفينية والعشائرية البغيضة والمذهبية الأكثر بغضاً، فعلى سبيل المثال لا الحصر:ــ
جرجي الحداد، المطران نخلة، أنطوان وتوفيق زريق، الخوري يوسف الحويك، فريد وفيليب الخازن ، جورج حداد، حيث اختلطت دماءهم بدماء شكري العسلي، عبد الحميد الزهراوي، الشيخ أحمد طيارة وعبد الغني العريسي وكثير غيرهم، لم يفرق الطاغية بين مسيحي ومسلم، كانوا أخوة ينشئون الجمعيات الوطنية ويصارعون المحتل، بنوا وطنا اختار فارس الخوري المسيحي ليكون رئيسا لوزارتهم…لأنهم يؤمنون بأن الرجل الكفوء وطنياً هو الأنسب لبناء وخدمة الوطن بغض النظر عن دينه ومذهبه أو عرقه…لم يقف يوسف العظمة مكتوف اليدين رغم ضعف حيلته وضعف قدرة جيشه وعدته،  ولا وقف ابراهيم هنانو إلا بعز وكرامة ينافح المستعمر، لكنها أبدا لم تبدر منه كلمة ” أنا أقاتل ككردي ” بل قاتل كمواطن سوري يريد لسورية أن تكون حرة من المحتل، فمابال الكردي أو التركماني العراقي يريد محو كل عربي مسيحي أو مسلم من التواجد في الموصل أو كركوك؟ ومابال بعض أبناء الموصل ــ كي لا نعمم ــ  ينقادون لقتل أهلهم وجيرانهم باسم المذهبية والتعصب الأعمى بكل أنواعه العرقية والسلفية أو غيرها ممن يريد القضاء على المختلف وإلغاء المجتمع المتنوع؟ أسألكم :ــ ألا يحق لي أن أشتري بيتا في القامشلي؟ ألا يحق للكردي أو السرياني أن يزرع قطعة أرض اشتراها في السويداء أو حماة أو حمص؟ أي بلد من بلدان الكرة الأرضية قاطبة تحرم على مواطن أن ينقل مسكنه من مدينة لأخرى إن اختلف عن سكانها باللون أو العرق أو الطائفة؟ هل هناك دولة ذات عرق موحد ؟ هل الأكراد أو التركمان نقيوا العرق ؟…هل هناك عرق فوق الأرض نقي دون اختلاط أو تزاوج عبر التاريخ؟ لماذا وصلنا إلى هذا المنحدر والمنزلق المَرَضي؟ كم من أكراد العراق وتركمانه ومسيحيو سوريا  تزاوجوا مع عرب أو  مسلمين والعكس بالعكس؟.
هل أصبح المسلك الصهيوني مثلكم الأعلى؟ حين تريدون استعادة الهولوكوست كما استعادته إسرائيل بحق الفلسطينيين، وكما استعاده صدام في الدجيل وحلبجة؟ …كل فئة تريد عراقاً بلونها!…هذا يعني أن ينهي كل منكم الآخر ويستمر نهر الدم ، ولن تقوم قائمة لعراق كما لن تقوم قائمة لكردستان. وسيطول بكم الطريق وتنقطع بكم الحبائل حين تتخلى عنكم الدعائم المُتَدَخلة فتذهب لشأنها الخاص وتترككم لشؤونكم القتالية التصفوية.
هذا عن الجانب الشوفيني ببعده السياسي الأعمى، بالإضافة للجانب  الاستبدادي ، الذي دفع بمسيحي سورية بالذات إلى الهجرة، فانعدام الحرية وانعدام فرص العمل وانعدام العدالة الاجتماعية وطوفان التشدد الديني  متعدد الوجوه والجوانب، أدى إلى تعاظم موجات الهجرة مكرهين…ولم تقتصر الهجرة على المسيحيين فقط،  بل طالت كل قواه الحية ورموزه الفكرية الثقافية  ورؤوسه العلمية، فمن لم يعد قادرا على الفساد والتدليس والتملق ونسيان حضارته وجذوره ، التي يريد له الاستبداد أن يختزلها إلى تاريخه  وتأليهه فقط،  لم يبق أمامه سوى الرحيل…والبحث عن موطن آخر لن يصبح يوما بديلا عن الوطن الأم، لكن الوطن يعني حرية وكرامة وعدالة وعمل بمردود يساوي الجهد وقانون ينصف ويساوي بين أبناء الوطن دون تمييز لعرق أو جنس أو مذهب ، فإن لم يجد المواطن هذه المباديء الأساسية للحياة في وطنه بكل تأكيد سيبحث عنها مرغما خلف الحدود، لكن أن يقارع ظلم المستبد ويصمد ثم ،  تتهدد حياته وحياة أبنائه ويحرق بيته أمام عينيه! فهنا يصبح الوطن وطنا للرعب وموطئا للخفافيش والأشباح، ومن يعتقد أنه يبني دولا بهذه الوسائل أعتقد أنه يغش نفسه قبل الآخر، لأن الخراب والقتل لا يبني إلا الأحقاد، والأحقاد لاتورث إلا الثارات والحروب. وكلها مجتمعة تقوض كل الأحلام.
ــ باريس  14/10/2008
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى