صفحات سورية

ما الذي يدور من أحداث على الأرض السورية؟.. محاولة للفهم..

null
د. محمد سيف
ما يدور على الساحة السورية هذه الأيام، يشكل علاقة جدلية بين الفساد المستشري الذي يقوده المغتصبون للحكم هناك، وبين كل الظواهر والأحداث الخطيرة الجارية ميدانياً..
ولا بد أن السبب الأول والأهم في هذه المعادلة المدمرة لسورية الوطن والشعب هو اغتصاب الحكم وإدارة سورية على أنها مزرعة لعائلة، تديرها على طريقة “البعثي” محمد زهير دياب الذي سمّى نفسه يوماً محامياً للشيطان، أو على طريقة طلاس الذي خدم في المزرعة “مرابعاً” على الأكل والشرب والنهب، مقابل أن يزين للناس فعل الشياطين ويقمعهم في الوقت نفسه، إذ أنه اعترف “بعظمة لسانه” كما يقولون بأنه كان يوقع إسبوعياً على إعدام 150 إنساناً سورياً مأسورين في سجون المزرعة الأسدية (تدمر وأخواتها).
والطريقتان المذكورتان أعلاه تمتحان من بئر آسنة واحدة، يتلخص قولها كما بين الاثنان، بأن الحكم الحالي في سورية جاء عن طريق الدبابة وفوهة البندقية.. لذا فقد طرح الاثنان تحدياً للجميع بقولهم: فمن عنده قوة فليتقدم. وإذن فإن الوصول إلى سدة الحكم برأي هؤلاء، لا يكون إلا بالعنف والقوة والإرهاب!!.
لذلك فليس بدعاً أن نقرن الفساد المستشري بالحدث السوري الخطير الذي تديره عصابة الحكم هناك ثم تلصقه بالآخرين (أصوليين، إرهابيين، متطرفين، سنّة) فعندما تعلن منظمة الشفافية الدولية في تقريرها لسنة 2008، الذي نشر في برلين أواخر أيلول 2008: أن سورية تأتي في المرتبة (147) من بين مائة وثمانين دولة في درجة الفساد، تكون المنظمة قد أعلنت سورية بلداً من البلدان التي يستشري فيها الفساد، وتغيب فيها الشفافية حيث لا يصطف بعدها في تقرير المنظمة سوى بلدان فاقدة السيادة أصلاً، أو بلدان متخلفة جداً مثل الصومال وأفغانستان والعراق وغيرها. وقد أشارت المنظمة في التقرير نفسه إشارات مباشرة إلى أسباب هذا الوضع في تلك البلدان البعيدة عن النظافة من الفساد، حين طالبت برقابة برلمانية، وقضاء صالح، وصحافة مستقلة، ومجتمع مدني نشط، وهي برأيها أمور يمكنها أن تحسن في الشفافية، وتقضي على كثير من أدوات الفساد، لو تحققت لها أرضية في بلد مثل سورية مثلاً. وقد قررت المنظمة قراراً قطعياً أن الفساد في البلدان ضعيفة النظافة يشكل كارثة إنسانية.. وهذا عين ما هو متحقق في سورية، التي تفتقد الشفافية في كل شيء.. فالبرلمان فيها مصنوع على عين الحاكم المغتصب للحكم، فرقابته والصفر متلازمان، والقضاء ينخره الفساد؛ إذ لا يعيّن القاضي الخبير النزيه المكافئ للمكان، بل يُعين الموالي الممالئ المتسلق (وهات يا فساد) من الرشوة، إلى الحكم بما يريده صاحب النفوذ، إلى المحاسبة على ما يحمله الإنسان من أفكار سياسية وغير سياسية. أما الصحافة (فهي مؤممة) والإعلام ينخره الفساد، والولاء فيه للسلطة والسلطان، فلا مهنية ولا نزاهة ولا حقيقة تقال، ومجتمع مدني لم يكد يرى تفتح أول زهرة له حتى قُمع بوحشية، تؤبنه اللاءات والخطوط الحمراء والإغلاقات، وفوق ذلك كله الاعتقالات والأحكام الجائرة المزيفة، بحجج أوهن من بيت العنكبوت، بل هي مضحكة مبكية، انتقلت من ادعاء أن سورية في معركة!! فلما تبين أنه ليس هناك معركة، وأن كل ما قيل في هذا الباب هو من باب المزاح الثقيل، أو من باب مدح النفس بما ليس فيها، انتقل الحِجاج إلى ادعاءات سمجة لا يصدقها حتى قائلوها، وذلك من مثل توهين قواعد الأمة، وإثارة النزعات الطائفية، والقيام بمحاولات لتغيير صيغة الدولة بالقوة.. الخ ما هنالك من هذه (الكليشيهات الجاهزة) التي يُرمى بها كل حر يحاول بيان الأخطاء والخطايا، التي ينغمس فيها الحاكمون في دمشق، أو بيان السبيل السديد للخروج من المآزق المتلاحقة، التي أوقعها بالوطن والشعب أولئك المتسلطون على مصائر الشعب السوري وقراره.
لقد سقت كل هذه المقدمة، من أجل إلقاء الضوء على التصريح الرسمي الصادر عن جلاوزة الحكم في سورية، بشأن الحدث الأخير في مخيم اليرموك، الذي تم منذ ثلاثة أيام من تاريخه. لقد جاء في ذلك التصريح قولهم: إن رجال الأمن حاصروا مجموعة إرهابية في بناية من بنايات شارع لوبية في مخيم اليرموك، وقتلوا ثلاثة منهم، بعد اشتباك طويل، وجرحوا أحدهم ثم اعتقلوه، وتمت السيطرة على الموقف.
وكما قلنا سابقاً بعد الانفجار الذي حدث على طريق مطار دمشق أواخر أيلول الماضي، حيث لفلفت السلطات ذلك الحدث بغلاف سميك من الغموض، كذلك فعلت بشأن حدث مخيم اليرموك حيث تركت السامع والمشاهد بحالة من الحيرة والارتباك إذ لم تبين هوية (الإرهابيين) أو جنسياتهم، أو من أين أتوا، وكيف اكتُشفوا، وما علاقتهم بحدث المطار، ثم إنه لم يصدر عن أي جهة من جهات العاملين بالعنف أي اعتراف بالعملية، ولا بيان منهم يُحمّل السلطات الأمنية في سورية أي مسؤولية، أو يوجه إليها أي تهديد، على طريقة تلك المجموعات –التي وجَّه الأمنيون في سورية إليها انتماء الفاعلين الغامض- في كل الأعمال التي تقوم بها، أو في كل التعرضات لها من قبل الحكوميين في أي مكان.
وعند هذه النقطة نتوقف لنتساءل: ما الذي يدور في سورية اليوم بعد التراجعات التي تراجعها النظام أمام متطلبات الانفتاح عليه؟ هذه التراجعات التي سماها الحاكم المتسلط في دمشق بالبطولة، وعزا إلى سياسة الممانعة اضطرار الآخرين للتعامل الجديد مع الحاكمين في سورية بالصيغ الانفتاحية، علامة على نجاح سياسته الرشيدة!!.
1- أهي ممارسات من القتل وهدر حياة الناس باسم مكافحة الإرهاب، ليدلل الحاكمون في سورية على أنهم غارقون حتى آذانهم في المعركة الغربية ضد ما يسمى بـ(الإرهاب) –وهي حقيقة حرب على الإسلام مغطاة بتلك اللافتة الهزلية- وبالتالي لإثبات أنهم (الحاكمون) مستهدفون من (الإرهاب) مثلهم مثل الأمريكيين والغربيين وبعض من الدول الأخرى، فهم بذلك يستدرّون عطف القائمين على تلك الحرب القذرة المسماة بـ(الحرب على الإرهاب)، حيث دُمرت تحت لافتتها دول، واغتصبت ثروات، وأهدرت كرامات، وضاعت حقوق الإنسان، وفُرضت مناهج اقتصادية مدمرة وثقافات زائفة متخلية عن الأخلاق (انظر إذا شئت إلى ما يجري الآن في الاقتصاد العالمي الذي استجر إلى رؤية أمريكية للعولمة الاقتصادية المتوحشة).. واعتدي على الهويات والخصوصيات والتراث الإنساني بكامله. وهم بذلك أيضاً ومن جهة مخالفة يضطرون الآخرين من العرب والمسلمين النظر لمكان ومكانة هؤلاء اللتين منحاهما لهم بناءً على تصديق وادعاءات (بروباغاندية) كاذبة خادعة. هذا فضلاً عن محاولتهم بتلك الممارسات تفادي معركة مع من عقدوا معهم التحالفات، واستجلبوا بذلك الفوائد والمنافع المادية والإعلامية.. وعلى هذا يجب أن يتبين كل متبيّن أن هذه المافيا الحاكمة في سورية، ليست إلا عصابة، لا يهمها من تقتل وكيف تقتل، وكم تقتل، إذا اقتضت مصلحة بقائها كل ذلك القتل وإهدار الحياة وإهدار الكرامة الإنسانية وحقوقها، مثلها في ذلك مثل كل تلك العصابات (المافيوية) التي يعرف العالم طرائقها، ويبقى على كل متعامل مع هؤلاء فرداً كان أو منظمة أو دولة أن يراجع نفسه، ويعلم مع من يتعامل، ويفهم أن القضية ليست سياسة، ولا هي دبلوماسية، ولا علاقات عربية أو إنسانية، إنما هي تعامل مع الإجرام الذي من تجلياته البشعة قتل الأسرى في السجون (سجن صيدنايا).
2- أم أنها ممارسات حلفاء ساءهم ما كان من الخداع والتلاعب بالمواقف، بل ساءهم وعزّ عليهم أن يروا حليفهم يقدم للأعداء من دم أتباعهم (عماد مغنية) تقدمات على مذبح البقاء، الذي هو أهم شيء في الوجود بالنسبة لحكام دمشق..؟! إذ دفعوا إلى الساحة السورية بمجموعات نائمة (غامضة الهوية بالنسبة للناس) لتقوم بعمليات ثأرية تجلت مؤخراً بثلاثة من الأعمال، (اغتيال العميد محمد سليمان مستشار الأسد، والعميد الذي لم يعلن عنه ضحية عملية طريق مطار دمشق، ثم عملية مخيم اليرموك التي ذهب ضحيتها أحد أفراد الشرطة وثلاثة من (الإرهابيين) على حدّ زعم البيان الصحفي السلطوي).. وإذن فإن ما يجري على الأرض السورية هو إنذارات أولية من قبل الحلفاء المستائين (إيران، حزب الله) بسبب مسار يرونه جديداً بالنسبة لحليفهم بشار (محاولة مصالحة في لبنان، مصالحة مع يهود، مصالحة مع الغرب) فيتبدى لهم من خلال هذه الخروقات طعم الغدر، الذي هو ديدن الحاكمين المغتصبين للسلطة في سورية، منذ وقفوا على أقدامهم خلف (ميكرفونات الإذاعة والتلفزيون السوري) عام 1970، وأعلنوا على الناس اغتصابهم للسلطان والكرسي في سورية، مدّعين أن هذا الاغتصاب هو (حركة تصحيحية) وهي في الحقيقة حركة تخريبية، وهكذا فإن الجزاء الذي وقع هنا كان من جنس العمل، إذ عوقب الحاكمون بعقاب من جنس ما أوقعوه بالشعب السوري، ووقع المتحالفون معهم في شرّ تحالفهم الذي بنوه أيضاً على الغش والخداع، ومحاولة تأييد قمع الشعب السوري، لتحقيق مصالح فئوية سياسية طائفية مذهبية امبراطورية. وبناء على ما يظهر من أجواء متلبدة بين الطرفين، فإن المتوقع أن يحدث مزيد من سوء العواقب لهما، خصوصاً وأن شيخ المسلمين العلامة القرضاوي فتح باب التعرف على الأهداف الدفينة في قلب المشروع الإيراني.
3- أم أنها ممارسات تخبئ في طياتها وتحت لافتاتها إبرام تآمر جديد غير معلن على سورية ولبنان معاً، يقوم به الحاكمون في دمشق، وتنبئ عنه تلك الحشود من الجيش السوري المتزايدة على الحدود اللبنانية الشمالية، وتلك التصريحات من الأسد، التي تتهم مجموعات أصولية جهادية إرهابية يتزايد حضورها في طرابلس والشمال بأنها خطرة على الأمن السوري.. وهم يتخذون من تلك الاتهامات وتلك الممارسات تكأة من أجل العودة إلى لبنان، وإعادة الهيمنة (المافيوية) إليه، وذلك إما مباشرة وهذا صعب إن لم يكن مستحيلاً، وإما عن طريق التخويف بالحشود والتصريحات، ليبتزوا الأطراف اللبنانية الحاملة همّ الاستقلال، فيضطروها للخضوع لمطالبهم ولأتباعهم هناك، وهذا أمر دونه الدماء من الطرفين باعتقادنا، ولن يؤدي إلا إلى مزيد من الفصام بين الشعبين الشقيقين، ومزيد من الأذى للعرب جميعاً، ومزيد من الفرح للعدو الصهيوني، الذي يهمه أن يكون الحاكم في سورية دائماً بيدهم، متفرغاً لإثارة المشاكل والخلافات والإحن بين الناس والدول المحيطة بهم، لتبقى لهم السيطرة والكلمة الفصل، وهو ما فعله الأب من قبل، حين دخل لبنان عام 1975 بغطاء عربي (قوات الردع العربي)، حيث فعل الأفاعيل في تفريق الشعب اللبناني، وشرذمته واستغلاله وقمعه، وأزعج العرب، وأنشأ الميليشيات الطائفية، التي عملت وتعمل تحت إمرته وإمرة الإيرانيين لصالح (أجنداتهم)، وذلك تحت مسمى المقاومة (انظر إذا شئت ما حدث من هؤلاء لبيروت أيار 2008)، ولا نظن أن أموره (بشار) اليوم سالكة كما كانت أمور أبيه، إلا إذا كان الصهاينة والأوربيون يريدون في لبنان غير ما يظهرون.. وهو أمر مستبعد..
لذا فإن الخلاصة بشأن وجهات نظر الحاكمين في سورية اليوم، أنها وجهات لا تحكمها مصلحة سورية الدولة (الشعب والوطن)، بل تحكمها الأنانية المستحكمة لصالح العائلة الحاكمة هناك بنظام مافيوي، غير مدرك لعواقب تفرده وفساده، واستخدام سورية مزرعة لهذه العائلة.. إن وجهة النظر هذه هي التي حولت سورية إلى بلد مدمّر الاقتصاد، تحوطه البطالة ويرتع فيه الفقر ويسرح فيه الفساد، ويجتاحه التخلف عن الركب العربي، فإن لم يدرك المحيط العربي رسمياً وشعبياً خطر هذه الوجهة وكنهها، فلسوف تكون العواقب وخيمة على سورية (الشعب والوطن) وعلى لبنان وعلى العرب.. فهل تستدرك الأمة مواقفها؟ وهل تزن توجهاتها بميزان المصلحة العليا للأمة، لا المصلحة القطرية المبنية على المناكفات، ولا المصلحة الآنية اللحظية التي تجعل من المواقف والتصريحات بعيدة عن التوازن والسداد والرشاد..؟ وبهذا يتبين للكل مدى تلازم الفساد المستشري في سورية بما يحدث هناك، وما يُصدر للعرب والسوريين من أذىً ودمار.. وأنه لا يجوز لأصحاب الرأي والقرار العرب أن يبقوا مترددين، فالأحداث لا تنتظر أحداً.. ولن يسلم مما ينتويه الحاكمون في دمشق أحد..
اللهم ألهم الجميع سداد الرأي وحسن التأتي، ومساعدة الشعب السوري على الخلاص من السجن الكبير.. اللهم آمين..
المركز الإعلامي للاخوان المسلمون في سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى