صفحات سورية

الرأي العام وصناعة القرار السلمي

null
لؤي حسين
قد تلجأ الحكومة السورية، استنادا لتصريحات سابقة للقيادة السورية، إلى إجراء استفتاء شعبي عند نهاية مسار المفاوضات غير المباشرة ولاحقا المباشرة مع إسرائيل، أي قبيل التوقيع على اتفاقية السلام التي من شأنها إنهاء حالة الحرب بين البلدين، التي عمرها من عمر دولة إسرائيل، وإنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي لهضبة ومرتفعات الجولان السورية مقابل ضمانات أمنية واقتصادية لإسرائيل، إضافة لإقامة علاقات طبيعية بين البلدين تشترطها إسرائيل.
اعتماد الاستفتاء الشعبي من قبل الحكومة السورية قد يكون شرطا يضعه المفاوض السوري على طاولة المفاوضات في مواجهة المفاوض الإسرائيلي. وقد يكون هذا الخيار من قبيل الضغط على المفاوض الإسرائيلي لكي لا يتمادى بمطالب سرية قد لا يوافق عليها السوريون؛ وقد تكون من قبيل التعامل بالمثل، إذ إنه من المعروف من التجارب السابقة للحكومة الإسرائيلية أنها تعود إلى شعبها لأخذ موافقته على قضايا من هذا المستوى قبل إقرارها؛ وقد يعود سبب الاستفتاء السوري المتوقع إلى حاجة القيادة السورية لموافقة السوريين على الاتفاقية كونها أهم مسألة وطنية عرفها السوريون منذ استقلال بلدهم من الاستعمار الأوروبي. أي تعبيرا عن حاجة القيادة السورية إلى شرعية شعبية حقيقية لإبرام هذه الاتفاقية الكبيرة، كي لا تتحمل مسؤوليتها وحدها لاحقا.
ومن المفترض أن يتمكن السوريون من خلال مثل هذا الاستفتاء من التعبير عن إرادتهم وقرارهم بقبول أو رفض اتفاقية السلام التي تشتغل عليها الحكومتان السورية والإسرائيلية بشكل دؤوب وجاد عبر وساطة تركيا وبانتظار رعاية أميركية من المفترض أن تتحقق بُعيد انتخابات الرئاسة الأميركية.
وسيكون من الصعب على أي كان الآن الجزم بموقف الشعب السوري من السلام مع إسرائيل؛ ذلك لعدم توافر الإمكانية لاستطلاع رأي السوريين في هذا الموضوع، ولعدم الوثوق بنتائجه إن توافرت له إمكانية ما. فالسوريون يصرّحون بما يعتقدونه رأي السلطة ورغبتها خشيةَ أن يُصنَّفوا معارضين لها. وهذا الأمر يشكل معضلة ليست آنية، بل ستكون عائقا أمام صدقية الاستفتاء الحكومي المتوقع. ولن يخفف كثيرا من هذا التوقع أي قول أو وعد من الحكومة بأن يكون الاستفتاء حرا وشفافا، خاصة إن تواقت هذا الموقف للحكومة مع الإعلان عن الاستفتاء. فالخوف المتجذر في نفوس الناس ناجم عن عقود طويلة من سنوات التهميش والإقصاء للرأي الشعبي الصريح أو الحر، ولن يكن بمقدورهم التخلص منه خلال يوم أو بضعة أيام.
لكن لا بد من الإقرار بأنه من الممكن أن يتطابق الرأي الشعبي مع موقف الحكومة في هذا الموضوع أو سواه من دون أن يكون مرد ذلك إلى خوف الناس، بل قد تكون المطابقة حقيقية؛ ولكن قد تكون أيضا نتيجة اعتياد الناس على الاستقالة من التدخل في الشأن العام أو الوطني (=السياسي). إلا أن حديثنا يتركز على صدقية القول الشعبي وصحة تعبيره. فإن كانت القيادة السورية جادة في اهتمامها بالعودة إلى الرأي العام السوري فلا بد من أن يسبق مثل هذا الاستفتاء طرح موضوع المعاهدة مع إسرائيل على التداول العام ابتداء من الآن. وذلك لكي يصدّق الجمهور تطمينات الحكومة بحرية التعاطي مع هذا الموضوع وإبداء الرأي فيه من دون خشية العواقب، ومن ناحية ثانية، لها غاية الأهمية، لا يصح أي استطلاع للرأي العام بأي موضوع ما لم يكن مطروحا مسبقا للنقاش العام، وأن تكون صفحات الجرائد الرسمية متاحة لجميع الآراء حتى يُشبع الموضوع نقاشا وبحثا أمام نظر وسمع جميع السوريون، ليتمكنوا من التزوّد والاستزادة بتنوع وجهات النظر، ما يجعلهم أكثر مقدرة على إنتاج رأي شخصي يدلون به بقناعة في صندوق الاقتراع، بعد أن يكونوا اطمأنوا إلى حقهم بحرية الرأي والتعبير في هذا الموضوع على الأقل.
من دون ذلك سنبقى عاجزين عن معرفة موقف السوريين من أهم قضية وطنية لديهم؛ وسيبقى البعض من المتابعين قادراً على الادعاء اعتباطا بأن السوريين مع السلام أو الادعاء عكس ذلك. وسيبقى الجميع قادراً على التعبير بكلام عام لا معنى له بأن بعض السوريين راض عن السلام وبعضهم الآخر رافض له!! بغض النظر عن النسبة بينهما. مع بقاء الجزم دوما بأن هذا البعض لن يواجه ذاك البعض في هذا الموضوع لا جهراً ولا سراً. ويمكن الجزم، أيضا، بأن جميع السوريين مع كل الوسائل المشروعة دون استثناء لتحرير الجولان المحتل؛ من دون التنويه إلى عدم توافر الجرأة لدى أي فريق على ترجيح وسيلة على أخرى. ويمكن الجزم، أيضا، بأن أغلب السوريين ممن عرف القرارات الدولية المعنية موافق عليها، من دون أن يقترح طريقة لتنفيذها؛ لكن سيبقى هذا الكلام ليس بيّناً.
ليس جديدا القول إن لا دخل للرأي العام في بلادنا في القرارات الوطنية حتى لو كانت مصيرية. فحتى لو أتاحت القوانين في بعض البلدان العربية ظهور آراء تخالف رأي سلطاتها، فبالنتيجة تبقى القرارات صغيرها وكبيرها بيد السلطات، لكونها تتمتع بصلاحية شبه مطلقة باتخاذ القرارات منفردة من دون اعتبار للرأي العام، لا عن طريق الاستفتاءات ولا عن طريق البرلمانات، التي لا تعكس، أصلا، في أغلبها، تمثيلا شعبيا حقيقيا. لتبقى القضايا الوطنية الكبرى أمرا نخبويا وسلطويا بإطلاق. لكن هذا يجب ألا يعفي المثقفين السوريين، خاصة ممن حاولوا تشكيل جهات سياسية معارضة، من القيام بمسؤولياتهم والتحلي بجرأة سياسية وثقافية لمناقشة مسألة السلام مع إسرائيل بكل تفاصيلها.
([) كاتب وناشر سوري
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى