حول طائفية النظام في سوريا!
د. عبد الرزاق عيد
يعبر باحث سوري جاد عن رفضه توصيف النظام القائم في سوريا بالطائفية ويعتبر أن مثل هذا التوصيف هو الذي يعبر عن “قصر نظر ومشاعر طائفية ساذجة”، وذلك لأن النظام ليس إلا نظاما توتاليتاريا كغيره من الأنظمة التوتاليتارية التي شخصتها “حنة أرندت” في كتابها “أسس التوتاليتارية” الذي يعتمده الباحث الكريم.
وباعتبار أننا من القائلين بطائفية النظام، طبعا ليس بالتعارض مع توتاليتاريته، فإننا سنبدأ مرافعتنا بالبدء منذ لحظة الاعلان الرسمي عن قيام الهوية الوطنية السورية مؤسساتيا، أي غبّ خروج الاستعمارالفرنسي وقيام الاستقلال، حيث تولدت الهوية الوطنية ككلية اجتماعية ما بعد طبقية أو اثنية أو طائفية، وكان من الطبيعي أن يرافق هذه الولادة نوع من الانتشاء والفخر الممجد للذات الوطنية كأنا عليا تتسامى فوق الانتماءات ما قبل الوطنية التي تحررت من الاستعمار، بعد أن ساهم الاستعمار ذاته -من خلال التناقض الوطني معه- على تشكل نواتها كهوية موحدة لهذه الأنا الوطنية الوليدة في مواجهة الآخر الكولونيالي.
إن المرحلة الوطنية الوليدة التي عبرت عن ذاتها في صيغة الشرعية الدستورية للدولة البرلمانية ذات النظام الديموقراطي التعددي أتاحت نوعا من التوازن بين مكونات المجتمع السوري:الاثني والطائفي بل القبلي والعائلي عندما وضعت منظوماته التقليدية أمام تحديات مؤسسات حديثة:الأحزاب – المنتديات – الصحف – النقابات. فكانت فرصة تاريخية أمام المجتمع اسوري لكي تتشقق بناه التقليدية العمودية الدموية (العشائرية والعائلية والطائفية) عن كلية نوعية جديدة من خلال انتشاره السوسيولوجي عبر وفي المؤسسات الحديثة (الأحزاب) والايديولوجيات الحديثة (القومية واليسارية)، حيث لأول مرة يكون لها حضور فعلي في البرلمان (البعث) وحضور رمزي (الشيوعي)، مع حركة اسلامية مدنية تعيد قراءة الاسلام على ضوء الأسئلة المدنية الراهنة (الشيخ مصطفى السباعي) التي تفترضها استحقاقات مجتمع يدخل في طور تحديات الحداثة، فدخل الاخوان المسلمون كغيرهم -مستقبل البراءة الوطنية بلا تشنجات عقائدية -المعارك البرلمانية بتنافسية شديدة وحادة لكن باسلوب سلمي مدني وحضاري يعترف بنتائج صندوق الانتخاب كمرجعية نهائية.
لن نطيل في الحديث عن طارئ الوحدة بين مصر وسوريا 1958- وهي طارئ بالمعنى أنها لم تعمرإلا قليلا – لكن لابد من التأكيد على أهمية انعكاسات هذه المرحلة على مسار تشكل الهوية الوطنية السورية، اذ ستؤسس هذه المرحلة القصيرة لنموذج دولة العسكر الريفيون الشعبويون (دولة الشعارات الغريزية المعبرة عن الغوغائية)، التي وجدت مثالها العالمي في النموذج الشمولي السوفياتي الستاليني، وثمة قراءات تكذب شائعة أن أمريكا رفضت المساعدة في بناء السد العالي في مصر، بينما وافق الاتحاد السوفييتي، وتقول هذه القراءة أن مشروعا كهذا لم يكن ليبهظ الموازنة الأمريكية الهائلة، بينما أبهظ الموازنة السوفياتية، فالمسألة إذن- وفق هذه القراءة- أن جمال عبد الناصر استجاب لنداءات الاستبدد التوتاليتاري الستاليني المتجاوب مع موروث الاستبداد الطغياني الشرقي (والمصري) في وعي عبد الناصرالذي لم يكن ليجتذبه نموذج الديموقراطية الأمريكية، فاختار العرض السوفييتي…؟
بغض النظر عن صحة هذه القراءة أو عدم صحتها، ولكن ذلك لن يحيل دون الاقرار بحقيقة النموذج التوتاليتاري (الستاليني) الذي أنتجته وأسسته مدرسة عبد الناصر الذي حبس الشيوعيين بعد أن اختلس نموذجهم التوتاليتاري(الستاليني)، فأعاد انتجه بوصفه نموذجا يحتذى للدولة الوطنية العسكريتارية الشعبوية الانقلابية التوتاليتارية التي سيواصل حزب البعث تقاليدها في سوريا ولاحقا في العراق والجزائر واليمن وليبيا.
هذه المرحلة هي الوحيدة التي يمكن أن يصح عليها التوصيف الذي يسوقه الصديق الأستاذ جاد الكريم الجباعي تحت عنوان (في الاستبداد المحدث) – على موقع “الأوان”. حيث التوصيف القائل بأننا تجاه الاستبداد المحدث أو النظام الشمولي وليس الطائفي- كما أسلفنا حسب رأي الصديق- يجد دلالته في التجربة الناصرية، حيث “في هذا النظام الشمولي تتربع على رأس الهرم قيادة الحزب الثوري أو مجلس قيادة الثورة، وعلى رأس هذا أو تلك يقف الأمين العام القائد التاريخي الملهم أو القائد الضرورة … وعلاقات الولاء هي علاقات الولاء الحزبي، الأيدلوجي والسياسي، والانضباط الحزبي الحديدي وهي تتضمن سائر الولاءات الأخرى… حيث تحكم هذه الولاءات آليات “الخوف من الحرية”. واذا كانت علاقات الولاء هذه كانت علاقات موضوعية في نظم الاستبداد القديمة، أما في النظم الشمولية فالتبعية “هي تبعية ذاتية” مقرونة بالحماسة والتعصب الحزبي.
والتطرف الايديولوجي، والحمية الثورية ضد اعداء الحزب… وهي تشكل أساس علاقات الشك والارتياب وأساس نظام الوشاية..
والوشاية واجب تمليه ضرورة الدفاع عن الثورة، شرط للارتقاء بالمراتب العليا… بينما قاعدة الأحزاب (البعث والجبهة الوطنية)، فتؤلف جماهير الحركة التوتايتارية وخزانها البشري الاحتياطي… لذلك كانت الظاهرة الجماهيرية ظاهرة ملازمة للنظم الشمولية… التي تستقطب: النخب المثقفة من جهة وفقراء المدن والأرياف. ولهذا فالتحليل هذا يقود الى اعتبار “جماهير” حزب البعث الربي الاشتراكي واحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الأخرى” جزء أساسي، بل الجزء الأساسي من الجسم السياسي السوري.
ويضاف الى ذلك، أن أحزاب المعارضة أيضا أحزاب شمولية، تتألف من قادة وجماهير، بل من قادة معصومين وجماهبر مؤمنة… وعلاقاتها علاقات تبعية وولاء وخضوع وامتثال.
واستنادا الى هذا التحليل يخلص النص الى الحكم “أن المعارضة السورية تخطئ خطأ قاتلا حين يظن بعضها أو يقدرون أن النظام القائم نظام طائفي وأن السلطة القائمة سلطة طائفية… ويعتبر ذلك أنه قصر نظر ومشاعر طائفية ساذجة… ويبرهن على ذلك بقدرة النظام على التحشييد للمشاركة في (الأعراس) والمهرجانات والاحتفالات والمسيرات التوتاليتارية…”، فعن أي سلطة طائفية يتحدث الطائفيون؟!”
نقول: إذا كان هذا التوظيف الذي يستمد مسوغاته النظرية من بنية الأنظمة الشمولية :النازية والفاشية ومن ثم الستالينية يصح بالعام على توصيف التجربة الناصرية، فهل يصح على التجربة البعثية ؟ وإذا صح جزء منها على جزء من المرحلة البعثية (الأسدية – الصدامية)، فهل تصح على صورة الواقع القائم اليوم في سوريا كما يذهب صديقنا!؟ هل حقا أن حزب البعث أو قياداته (الثورية) اليوم تتربع رأس الهرم، وأن الرئيس الوريث لايزال قائدا تاريخيا ملهما، وقائدا ضرورة كضرورات أبيه ؟…لانظن أن ذلك قائم في رأس أية صناجة من صناجاتهم الاعلامية!
هل لا يزال الديكتاتور الوريث قابلا للتصدير والتسويق كأبيه بوصفه قائدا ملهما؟ أم أنه ليس إلا مجرد تفويض أو تكليف أمني لرعاية مصالح عصابات النهب بل والقتل، أي رئاسة عصابة قرصنة تقوم على أخذ مجتمعها والذي يفترض أنه شعبها رهينة للمقاولة على فك أسره من قبل المجتمع الدولي وبالمعنى المباشر لكلمة الرهينة، حيث يطالب بمكاسب تخص نظامه وبقائه مقابل رفع السوط عن أبناء ما يفترض أنهم أهله، أي يطلب من (الامبريالية) ثمن حرية بعض أبناء من يفترض أنهم أبناء موطنه، وهذه الفذلكة ليست من عندياتنا، بل هي السؤال الدولي الأول الذي يسمعه المرء حتى في الخارج :كم قبض بشار الأسد من فرنسا ساركوزي ثمن اطلاق سراح عارف دليلة؟!
وهذه المأثرة -المقاولة والمساومة على حريات الأبناء- بدأها الأب المؤسس -الملهم والضرورة- الذي يعرف العالم كله أن رياض الترك لم يطلق سراحه بعد أكثر من17 عاما الا بمساومات مع المفوضية الأوربية، وهذه المسألة لايزال أبناء النظام أوفياء لنهج (الأب القائد) في استخدامها كورقة من ضمن الأوراق الأساسية التي يتفاوض بها النظام مع العالم :مثلها مثل ورقة الاغتيالات في لبنان أو ارسال السيارات المفخخة إلى العراق، وعلى هذا فإن هكذا ممارسات لا ترتقي أبدا إلى مستوى الممارسات التوتاليتارية: وذلك عندما تستدعي هذه الممارسات نماذج من نوع ستالين أو ماوتسي تونغ، فهؤلاء -أبناء القائد الضرورة- قراصنة لا يختلفون نوعيا عن قراصنة السفن في موانيء الصومال، فالفرق في الدرجة وليس في النوع، هو الفرق بين حجم ثروات سوريا وثروات الصومال، بل إن المقارنة قد تذهب لمصلحة قراصنة الصومال على اعتبار أن رهائنهم على الأقل ليسوا صواليين، بينما رهائن قراصنتنا (الوطنيين الممانعين) هم رهائن سوريون…!
هل الولاءات الحزبية (الايديولوجية والسياسية) والانضباط الحزبي الحديدي هو الذي يحكم علاقات الولاء التي تحكم بنية النظام الشمولي في سوريا، أم علاقات القوة والاذعان والخضوع الأعمى لسلطة المخابرات التي يخافها البعثي-قال لنا عضو قيادة قطرية خلال حرب الخليج الأولى بعد بياننا: بيان المثقفين المنددين بالمشاركة السورية في قوات التحااف، قال: “من أين لي أن أحميكم وأنا من يحميني؟” – كما يخافها الجبهوي مثلما يخافها المواطن العادي، بل حتى المناضلين الحزبيين داخل أحزاب المعارضة، الذين يخشون التعبير العلني عن رأيهم ضمن اجتماعاتهم خوفا من العيون المبثوثة داخل حزبهم من قبل رفاقهم أنفسهم!؟
هل لايزال في سوريا (تبعية ذاتية) مقرونة بالحماسة والتعصب الحزبي والحمية الثورية، ام أن هذه التبعية التي بدأت في أيامها الأولى كـتبعية (ذاتية نضالوية)، تحولت اليوم الى ذاتية جبانة نهازة مريضة بالخوف على لقمة العيش للبائسين الموصوفين بـ (الجماهير) المؤمنة بالشعارات قسرا وقهرا، والخوف على الامتيازات للقافزين رياء وتملقا، أو الحفاظ على النفوذ والتسلط للحاكمين التابعين إلى (مركز باطني لامرئي كتيم) قادرعلى بعث القشعريرة في النفس الآدمية بعد أن أترعت واقعيا وتخييليا وفانتازيا وذهانيا بملاحم رعب، حيث كلما مر حين من الزمان على تاريخ لحظة اللاشعور البدئي لولادة الرعب هذه عاد زبانيتهم للتذكير بها، وايقاظ ذاكرات المجازر عند الناس، حيث السؤال المتكرر امام كل من يتلمس كائنيته الآدمية :هل نسيتم ماذا فعلنا بالثمانينات في حماه وتدمر؟
إن ما يسوقه لنا مقال “الاستبداد المحدث” عن تعصب وحماس وحمية ايديولوجية ثورية إنما هو استحضار لزمن انقضى منذ السبعينات مع الشخصنة الطوطمية للأسد الأب والعلنية المتزايدة عن الاحتكار الطائفي للقوة من خلال الجيش أولا والمخابرات ثانيا، حيث ستكون مواجهات الثمانينات مع الاسلاميين تتويجا لتفويضهم النهائي بجعل سوريا مستوطنة أمنية طائفية، وذلك من خلال اقتصار تركيبة الأمن على طائفة واحدة، بلغ الاستهتار بالوعي الوطني عند حافظ الأسد أن يجعل من سجن تدمر رمزا لانقسام طائفي فاحش وفي ذروة القبح الوطني، عندما يقسم هذا السجن إلى سجين سني بالمطلق وسجان علوي بالمطلق، ولا يغير من دلالة ذلك إن كان العكس كما كنا قد نوهنا من قبل…
في هذه الفضاءات غدت المفاهيم المفتاحية للمنظومة الشمولية بمثابة دوال فقدت مدلولها مع تعمق البعد القهري للمجتمع، والعنف العاري المتحدي للقيم الانسانية والعالمية، بعد أن حل الخوف محل العقيدة الشعارية (الجماهيرية)، فغدا التعصب الايديولوجي تعصبا مدعى والحماس والحمية حماسا كاذبا وحمية كلبية تدفع الجميع لكتابة التقارير(الوشاية) بالجميع، أي أن الصورة المقدمة عن التوتاليتارية من خلال الاشتراكية الستالينية أو الفاشية أصبحت متقادمة جدا لدى نظام عز نظيره إلا عند أخيه (صدام) الذي سبقه الى مزبلة التاريخ في العراق، والذي لايقل طائفية عنه ولا شمولية منحطة بانحطاط المدرسة الفكرية والسياسية التي توحدهما… بل ومتى كانت الشمولية تتعارض مع الطائفية ؟ أليست الشمولية الأصل (النازية والفاشية) هي الأشد عنصرية في العصر الحديث والتي تبلغ حد التمايزات عندها بين الشعوب حد التصنيفات العرقية، فليس -والأمر كذلك – ثمة تعارض بين التوتاليتارية والعنصرية، أي ليس ثمة تعارض بين الشمولية والطائفية التي هي أحد اشتقاقاتها حدا وتعرفا…
بل والأغرب في قراءة نص “في الاستبداد المحدث” أنها تصدق (همروجة) جماهيرية النظام، أي تصدق أن أن ثمة لدينا في سوريا جماهير حركة توتاليتارية شبيهة بالجماهيرية الفاشية أو النازية التي تحرك جموعها يد (الفوهرر)، على اعتبار أن (الجماهيرية) ظاهرة ملازمة للنظم الشمولية… وعلى هذا يتم تصديق كذبة أن هذه الجماهيرية التي يتم تحشيدها للمشاركة في “الأعراس” والمهرجانات والاحتفالات والمسيرات التوتاليتارية وكأنها جماهيرية تحركها دوافع العقيدة والحماس الثوري كما في ظل الشموليات عادة…!
هذه الظاهرة الجماهيرية المحشدة والمعبأة ايمانيا بالشعارات الشعبوية الحماسية عرفتها سوريا مرة واحدة و في مرحلة الوحدة مع مصر فقط،، حيث كان عبد الناصر يتمتع بمناقبية ذاتية كارزمية مفعمة بالحماس والحمية التي كان قادرا على بثها (تيليباثيا) إلى الجموع الجماهيرية أمامه، لكن هذه الحالة أيضا صار عمرها حوالي الأربعة عقود على كل حال.
إن ما يبدو تصديقا لهذه الجماهيرية هو تأكيد النص على اعتبار (جماهير) حزب البعث وأحزاب الجبهة “جزء أساسي من الجسم السياسي السوري”، في حين يعلم القاصي والداني أن جماهير البعث ليست إلا تلك القطعان البشرية التي تساق إلى الساحات سوق النعاج، لأنها ببساطة جماهير (وظيفية معاشية) وليست جماهير (توتاليتارية معتقدوية) تصدق أكاذيب النظام (الثورية)، الجميع تسجل أسماؤهم وهم يخرجون من أمكنة عملهم تحت رقابة جيش أمني أصبح هو الجماهيرية الوحيدة للنظام بعد أن راح يفوق في تعداده الجيش النظامي، طبعا ولن نناقش جديا الحديث عن جماهير أحزاب الجبهة (الوطنية التقدمية) الكاريكاتورية، لأن الحديث عن تعدادها أصبح موضوعا للتندر عندما لا تذكر إلا مترافقة بالتعبير عن حقيقة أنها لا تملأ بضعة باصات… وحيث راح يقتصر أعضاؤها على عدد مواقع الامتيازات التي تمنحها السلطة لهم فيما يسمى بالبرلمان والوزارة والمجالس المحلية، حيث ليس مبالغة القول بأن لاجماهير لها حتى من قبل بعض أبنائها الأذكياء الذين يفضلون الذهاب إلى منافعهم عبر حزب السلطة الأصل (البعث) ذاته…بل إن هناك من يستغل النوايا الطيبة الكامنة وراء قراءة توتاليتارية النظام وعدم طائفيته ليسارع معبرا عن قلقه الميلودرامي المتذاكي – باسم تشخيص هذه الجماهيرية بوصفها شمولية عقائدية- من أن يتحول بشار الأسد إلى قائد شعبوي بسبب هذه الجماهيرية التي تمنحه كل هذه الكارزمية… فعندها ربما سنخسر هذا القائد الاصلاحي وفق هذه القراءة الطائفية الماسوشية لبعض من قضوا عشرات السنين بسجن أبيه محبة ومكرمة…!؟ بل والأغرب ذهاب نص “في الاستبداد المحكم” إلى القول: بأن أحزاب المعارضة أحزاب شمولية، وهذا حكم مفهوم، لكن غير المفهوم هو تشخيص شموليتها بأنها تتألف من قادة وجماهير، بل قادة معصومين، وجماهير مؤمنة… وعلاقتها علاقات تبعية وولاء وخضوع وامتثال… نقول من المفهوم أن تكون المعارضة على ممارسات لم تتحرر بعد من موروثها الشمولي، لكن أن يكون لديها جماهير مؤمنة فهذا من نوع الكلام القائل: “مما أنا شاك منه محسود”، أليست مشكلة المعارضة الأولى والرئيسية هي مشكلة أن يكون لديها جماهير قبل أن تكون مؤمنة أم متحررة، ألسنا حبرنا مئات الصفحات ونحن نتحدث عن غياب الحياة السورية في سوريا حيث يقضي ذلك بانتفاء أية جماهيرية شمولية سلطوية أو معارضة.
بل نستطيع القول أن ليس هناك قادة معصومون في كل المعارضة السورية وأولهم “حزب العمال الثوري” على الأقل فيما نعلم. بل إننا نرى أن مشكلة المعارضة تكمن في كونها تفرّط برأسمالها الرمزي من القيادات أكثر من حقيقة عصمة هذه القيادات، من خلال استشعار الجميع أنهم قيادات، كلهم كباش يناطحون، ولولم يكونون كذلك لما استطاعوا أن يصمدوا أمام سلطة متغولة لا تملك أي مفهوم للسياسة سوى ممارسة السلطة والعنف والاعتقال والسجن. فالمشكلة إذن مشكلة تضخم قيادي بدون قاعدة مؤمنة أو عاصية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يأتي دور السلطة القائم على تتفيه الجميع بعين الجميع، مما أدي لأن يكون رأسمال مناضل كرياض الترك خارج حزبه وخارج المعارضة ومن ثم خارج وطنه أكبر مما لديه داخل حزبه وداخل المعارضة وداخل وطنه…!
نعود إلى الموضوع الأساسي المتصل بحقيقة امتلاك البعث وأحزاب الجبهة لجماهيرية توتاليتارية فنقول: إن آخر تحشيد- نسبي ما بعد ناصري- للجموع البعثية والقوى السياسية الأخرى في سوريا كانت مع مجيء الأسد الأكبر الذي أوحى بأنه يريد تجديد شباب الناصرية من خلال العودة إلى احتضان مشاعر الجماهير الوحدوية، وذلك مع انقلابه الذي أنهى فيه بقايا المنظومة التوتاليتارية كايديولوجيا وسياسة وحزب، لتتحول الى منظومة (وثنية طوطمية) لعبادته الذاتية من خلال استخدام ما تبقى من المشاعر الجماهيرية الوحدوية داخل البعث، هذه الجماهيرية استنفذت طاقة تعبئتها التوتاليتارية الأخيرة مع أحداث الثمانينات، حيث ستستبدل جماهيرالحزب بجماهير المخابرات، لتغدوسوريا وحدها في العالم التي تصبح فيها أجهزة المخابرات (ظاهرة جماهيرية)، والتي يبلغ تعدادها مئات الألوف،إذ ستفوق في أعدادها أعداد الجيش كما ذكرنا، مما أصبح من الممكن للنظام أن يحشد جماهيريته (الأمنية) عند الطلب.
ولعله من نافل القول التذكير بأن مجموعة مسلحة منشقة عن الأخوان المسلمين (الطليعة المقاتلة) ظلت مستولية على مدينة حلب زهاء اسبوعين، تصطف خلالها (جماهير الحزب الثوري) الموصوفة (توتاليتاريا) بالحماس الايديولوجي والعصبية والحمية الثورية والتبعية الذاتية وذلك منذ ما يقارب الثلاثين سنة، لتقدم (توبتها) عن تاريخها النضالي البعثي في أحد المساجد في حلب،فيما أدى -على اثر ذلك- لتسمية هذا المسجد بجامع (التوبة).
كان على الجيش أن يتدخل لمواجهة بضعة عشرات من المسلحين الاسلاميين المنشقين عن تنظيم الإخوان لاستعادة زمام المبادرة بعد ارتكاب المجازر(حي المشارقة)، ومنذ انتصارهم الوحيد هذا على المجتمع -وخاصة تدمير حماه- بدأت عملية اعادة بناء (جماهير المخابرات)، لتكون لها الغلبة والطاعة على الجميع بما فيهم العسكر، والتي ستصبح لاطاعة لأحد عليها إلا لطوطم واحد هو (الأسد المؤسس) للنظام الأمني الطائفي القائم، وذلك قبل التوريث، أي قبل أن يصبح الرئيس الوريث العوبة بين يدي عشرات فروع جماهير المخابرات، تنتجه وتوهمه بأنه ينتجها.
وفي المآل، اذا كان المخابرات اليوم هم الذين يشكلون الملاط اللاحم لبنية النظام، أو كما يقول البنيويون، بشكلون العنصر الحاسم في النظام التكويني للبنية، فإن النظام القائم هو نظام توتاليتاري من نوع جديد: إنه نظام التسلط والإرغام، حيث المنظومة الشعارية هي التي تنتج قهريا وتسلطيا (أمنيا) قاعدتها، القائلين بها عنوة وارغاما على مستوى تصنيع الحماسة وفبركة الحمية لها، أي أن التبعية التي كانت ذاتية في الأزمنة التوتاليتارية (العقائدية أو المعتقدية)، أصبحت تبعية ملزمة جبريا، وظيفيا، معيشيا… فالمدير البعثي عليه وظيفيا -كجزء من عمله الوظيفي- أن يكتب تقاريرا لفروع المخابرات بوضع مديريته وعامليها وفق استمارة رسمية (مقوننة).
نقول: إذا كانت هذه القراءة لصورة استحالات واستطالات التوتاليتارية في سوريا، قراءة مطابقة أو مقاربة لخصوصيات الحالة السورية، حيث الخاص فيها يتبدى في حلول (السلطة الأمنية في المنظومة الايديولوجية) محل (السلطة الاعتقادية، الايمانية الجماهيرية)، فإن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هوالسؤل الذي يستجلي الملامح السوسيولوجية لمكونات المخابرات السورية بشتى فروعها، بوصفها هي المحتكرة للقوة وأدوات الردع التي تتقاسمها مع الجيش، بعد تهميش منظم وممنهج لوزارة الداخلية وقوى الأمن الداخلي (الشرطة).
وإذا كان حافظ الأسد انتقل من المرحلة السرية في (تطييف الجيش) الى المرحلة العلنية مع الثمانينات – بعد أن استبدل دور الجماهيرية البعثية (المتنوعة والمتعددة طائفيا) بجماهير المخابرات (الموحدة طائفيا)- وذلك بسبب تحلل حزب البعث الى عناصره الطائفية الأولى، بالتحاق القاعدة السنية فيه بمشايخها الذين أخذ قرارا بتبعيثهم بعد أن غدا البعث ظاهرة أمنية إذ أصبح التبعيث شرطا للقبول بالمعاهدالشرعية الدينية، فأصبح خطباء الجوامع في اللحظة الايديولوجية لثقافة الخوف الأمنية كتبة تقارير بمصليهم، بعد أن يدعوا لسلطان الزمان المصنوع الهالة التوتاليتارية في ورشات المخابرات.
اذن اذا كانت القوة اللاحمة لعناصر بنية النظام الشمولي المصطنع تتركز في صيغة العنصر الحاسم ممثلا بالمخابرات والجيش، واذا كانت كل عناصر القوة الحسية والمادية أدوات القمع والسيطرة: (سلاح – سجون – معتقلات) هي في حوزة المخابرات والجيش، وإذا كان العصب الأساسي للمكون البشري في الجيش والمخابرات، هو من طائفة واحدة تشغل كل الحيز البشري حتى على المستوى الكمي، حيث تفوق في نسبتها بالتأكيد أكثر من 95%، فكيف يصح وصف هذه الاستخلاصات البدبهية عن حقيقة طائفية النظام المتمثلة بطائفية ملاط تكوينه (المخابرات والجيش) بأنها “مقاربة طائفية”؟ وكيف يزوغ البصرعن حقيقة أن هذا النظام تكمن قوته في “أمنيته الطائفية وليس في جماهيريته التوتاليتارية”، ومن ثم من أين يصح لنا أن نتساءل: عن أي سلطة طائفية يتحدث الطائفيون؟!
التوتاليتارية مثلها مثل كل النظريات الفكرية والممارسات السياسية التي تحمل الخصائص المحلية لانتاجها، فما صنع في (برلين) توتاليتاريا (نازيا)، يختلف بالتأكيد عن ما صنع في (القرداحة) توتاليتاريا (طائفيا)، ولا تناقض من حيث المبدأ…!
إننا توقفنا عند هذا النص القيم، لأن هذا النص لا يمثل وجهة نظر مثقف فرد باحث جاد كاسمه فحسب، بل وجهة نظر أحد الناشطين الفاعلين في صياغة المشروع الوطني الديموقراطي في سوريا من موقع العمل الحزبي والسياسي في حزب “العمال الثوري” الذي هو ثمرة الجهد النظري المميز سوريا لمؤسسه ياسين الحافظ، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن مناقشته ومناقشة حزبه لن تقود إلى القطيعة بالتأكيد، بل ولن تفسد للود قضية… كما يحدث لدى أطراف سياسية أخرى نحترمها عاليا كالتي تشرف على (موقع الرأي)، الذي لم يعد ينشر مقالاتنا لأننا -وفق بعض التأويلات- اختلفنا مع اعلان دمشق في الرأي، رغم أن موقع اعلان دمشق (النداء) نفسه المختلف معه نشرها بلا حرج أو تردد، مما أدى الى تأويلات تتساءل إن كان التيار الذي يشرف على (موقع الرأي) هو وراء دفع قيادة اعلان دمشق لاتخاذ الموقف الرافض لعزلة النظام ومن ثم مباركة تمثيله الشرعي للمجتمع السوري دوليا… على حد رأي المتسائلين بل والمتشككين وهذا حقهم في كل الأحوال… وهم يرون أن ذلك يتم من وراء ظهر القائد التاريخي لهذا الحزب (رياض الترك)، رغم أننا نكن كل التقدير والتضامن والصداقة لهذا الحزب (الشعب الديموقراطي) وقيادته، فهو الأهم في الحياة السياسية السورية، حتى ولو ضاق صدر بعضهم بالحوار النقدي…
• كاتب سوري
شفاف الشرق الأوسط