صفحات العالم

سامي شورش سياسيّاً وإنساناً

حازم صاغيّة
لم يتحمّل القلب الرقيق لسامي شورش ذبحتين متلاحقتين فصلت بينهما عشرة أيّام فحسب، فكأنّما لم يجد ذاك القلب غير صاحبه خصماً حين أراد أن يكون لئيماً لمرّة واحدة.
سامي شورش، الذي بقي لسنوات مساهماً مواظباً في هذه الصحيفة، غادرنا عن ستين عاماً بدأها بكتابة الأدب والشعر وتوّجها في أربيله وكردستانه اللذين أعطاهما عمره وفيهما أنهاه.
لأجلهما، وكان يتراءى حينذاك أنّ في وسع العراقيّين، عرباً وأكراداً، أن يقاتلوا الديكتاتوريّة البعثيّة من ضمن أُطر جامعة، انضوى سامي في الحزب الشيوعيّ – القيادة المركزيّة، وآمن بحرب العصابات تُشنّ من أرياف الجنوب وتوالي الضغط على المدن إلى أن تُسقطها. ذاك أنّ النظريّة التي سادت أوساطاً يساريّة ضيّقة يومذاك هي أنّ الشمال وسائر العراق يمكن أن يُحرّرا انطلاقاً من الجنوب.
وقد آلت التجربة إلى نهاية مؤلمة، انتقل سامي بعدها للعمل المباشر في التنظيمات الكرديّة، في الاتّحاد الوطنيّ الكردستانيّ ثمّ في الحزب الديموقراطيّ الكردستاني. أمّا النظريّة التي اتّسع انتشارها، في هذا الطور الجديد، فباتت تقول إنّ الجنوب وسائر العراق يمكن أن يُحرّرا انطلاقاً من الشمال.
واستمرّت الحيرة بكيفيّة تحرير العراق من صدّام، فيما استمرّ سامي يجمع الإصرار إلى تلك الحيرة المتفرّعة أسئلةً شتّى. وفي هذه الغضون عاجله صدّام، وعاجل رفاقاً آخرين له، بجرعات سمّ حملتها بائعة لبن إلى الشمال، فانتهى، هو والرفاق الذين يحبّون اللبن، ما بين ميّت ومسموم. لكنّ سامي الذي طبّبته بريطانيا، استهواه الإنكليز وحياتهم، فأحبّ بلدهم وبقي فيه لاجئاً سياسيّاً يتعلّم ممّا يراه. ومن دون مكابرة أو تردّد، كان لا يخفي طموحه في أن يكون له بلد يقلّد «أمّ البرلمانات».
في تلك الأيّام البريطانيّة قال لي مرّة إنّه معتاد على برودة الطقس في بريطانيا لأنّه كرديّ، ابن جبال. لكنّه، لأنّه كرديّ، ليس معتاداً على التدفئة التي بها تكافح بريطانيا البرد.
بيد أنّ الحياة القاسية هذه لم تجعل سامي قاسياً. لقد ظلّ مشدوداً إلى الأدب والشعر أكثر ممّا انشدّ إلى سياسات القسوة التي تتحكّم بمعظم المتخرّجين من أحزاب مركزيّة وعنفيّة، فيرثون تقاليدها ويورّثونها.
وسامي لم يكره يوماً «العرب»، ولم يتعصّب مرّةً لفكرة، بما في ذلك الفكرة التي استولت على حياته وهي تحرّر أكراد العراق، وإن أمكن فتحرّر العراقيّين جميعاً. لقد كان مستمعاً وبراغماتيّاً، مرناً وشديد الواقعيّة، مصنوعاً من طين التسامح. وأهمّ من هذا أنّه بقي مدنيّاً، ومدنيّاً جدّاً، في أزمنة العسكر والعسكرة. وهو ما انعكس في انضباطه المهنيّ الرفيع ككاتب يكتب عن الموضوع المطلوب، وبالحجم المطلوب، كما يسلّم مقاله في الوقت المطلوب، بتواضع من ينشر للمرّة الأولى.
لقد ظلّ سامي كرديّاً في لندن، يستغرب الأشياء التي تعرض له ويُقبل على ما استغربه بالاستفهام والتحرّي. إلاّ أنّه، حين رأيته لاحقاً في أربيل، أحسست أنّه بات، في كردستان، أقرب إلى إنكليزيّ، شديد الهدوء والتريّث.
هناك في أربيل استضافنا «الوزير السابق» سامي شورش، فبالغ في تكريمٍ أرادنا ألاّ نراه وأن ننساه بمجرّد أن نغادر تلك الجبال الشامخة. مع هذا كان سامي، الذي لم أعرفه إلاّ لاجئاً سياسيّاً في بريطانيا، على شيء من الاعتداد: فقد بات، للمرّة الأولى، يمتلك مكاناً يستطيع أن يستقبل أصدقاءه فيه.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى