باعــونـا!!
وسام سعادة
كثرت، عشية القمة العربية العتيدة، تلك الآراء «الغيفارية»، التي تبتهل عنف الحركات الأصولية أياً كانت وجهته وحصيلته وكلفته وجدواه ومرماه، مع «لومه» (غزلاً) لأنه لم يأت قاصماً وضارياً. تشنّع هذه الآراء في المقابل على الأنظمة «الملكية»، وتكرّر وصفها بـ«الرّجعية»، فيستعاد التقليد الشعبوي الرائج بوجه ما يجري التنديد به من «خنوع» و«تفريط» و«تواطؤ» و«تآمر»، لأن هذه الأنظمة تمسك عن إشهار «سلاح النفط العربي»، ولأنها تعتصم بحبل الصمت أمام «استباحة الدم العربي».
في أحسن الحالات، يمكن التصوّر بعد الاطلاع على هذه «المادة الغيفارية» بأن الصراع القائم اليوم في دنيا العرب هو بين جمهوريين وملكيين، وأن الجمهوريين ان لم يكونوا أخياراً كلهم، فيكفيهم أن أخصامهم الملكيين أشرار كلهم، باستثناء دولة قطر ذات المضامين التقدمية. فهؤلاء الملكيون، وفقاً للتقليد الشعبــوي الرائج، قد «باعونا». وعبـارة «باعــونا» هــي من النوع الذي يحبذه المزاج الممانع، سواء أكان هذا المزاج قومجياً، أو أصولياً، أو شيوعياً. بل إن سيف «باعونا» صار مصلّتاً على الملوك والرؤساء العرب أكثر من ذي قبل. فحال الممانعين يقول: إن لم تحضروا، تكونوا قد «بعتمونا». سؤال سرّي: هل من يشتري؟!
أما الجردة فكفيلة بأن تظهر لنا محاسن الأنظمة الملكية العربية اذا ما قيست بتلك الجمهورية، وذلك في المجالات كافة. اكثر الانقلابات العسكرية أو الحزبية الجمهورية ضربت الحيوية البرلمانية التي كانت قائمة في العهد الملكي. أما الملكيات العربية، سواء التي حافظت على نفسها بإزاء موجة الانقلابات العسكرية، أو التي ارتبط قيامها ـ في شكلها الحديث ـ بالطفرة النفطية، فبقيت تجاربها متفاوتة، وبرزت منها حالات تستوعب البرلمانية الى حد كبير، وأخرى يكفي أنها تحاول أن تستدرك جزءاً من الخشونة التي تعيش فيها مجتمعاتها، بالتي هي أحسن.
ليس يمكن الذهاب بعيداً في مفاضلة كهذه، وليس هذا ما يجدي حالياَ، وان كان المرء عليه أن يحسبها مرّات عدّة عندما يصف الأنظمة الملكية «بالرجعية» في الوقت نفسه الذي يخلع على الحركات الأصولية ألقاباً تقدمية.
المهم فقط هو التذكير بأن الجمهوريتين الوحيدتين اللتين قامتا في العالم العربي لا بفعل انقلاب على ملك أو سلطان أو امام أو باي أو داي، كانتا لبنان وسوريا. لكن سوريا هذه كانت أول بلد عربي يشهد انقلاباً عسكرياً، ثم كثرت فيها الانقلابات، الى أن حلّ فيها الانقلاب الأخير عام .1970 في هذه الحالة، يبقى لبنان، لبنان هنري دو جوفنيل هو الجمهورية العربية الوحيدة بكل ما لكلمة جمهورية من معنى.
هذه الجمهورية هي اليوم بلا رئيس للجمهورية. وبصفتها الناقصة تلك قد لا تحضر القمة العربية وقد لا تعقد القمة العربية من أصل.
في الوقت نفسه، فإن معشر «الغيفاريين» العرب يكثرون من أدبيات الجحود بتاريخية الكيان اللبناني وبآبائه المؤسسين وبحقه في العيش كالآخرين. يتعاملون معه على أنه كيان «لا جمهوري» في ما هو الجمهورية الأولى في العالم العربي، وهو الآن الجمهورية الوحيدة، رغم افتقاده إلى رئيس للجمهورية.
ومن يدري، فربما كان على لبنان هذا، أن يختار هو الآخر النظام الملكي الدستوري، فيصار منذ الآن إلى تنظيم عملية «كاستينغ» بحثاً عن نبيلٍ يتحدر من آل هوهنزولرن أو من آل هوهنشتاوفن لاصطحابه الى لبنان، وتتويجه ملكاً.. فالفراغ لا يملأ الا من خارج الفراغ.
صار على لبنان أن يشتري هو الآخر ملكاً له. أن يقتدي بالتقاليد التاريخية حيث كل بلد تنشب فيه ازمة كيانية يبحث عن عاهل أجنبي يتمتع بمهابة تحكيمية.
فلبنان هذا ما عاد يتحمل ثقافة «باعونا»، أي ثقافة الحرد والممانعة ونظرية المؤامرة. وليس التوق الى ملكية دستورية في لبنان إلا من قبيل اليأس الطافح الذي يكاد يقول لغيفاريي آخر زمن: بيعونا.