الأزمة المالية العالميةياسين الحاج صالح

فرصة لتوسيع الديموقراطية العالمية!

null
ياسين الحاج صالح
لا ينبغي أن تكون الأزمة المالية العالمية الراهنة نذيرا بانهيار الولايات المتحدة أو سقوط الرأسمالية حتى تكون أزمة كبرى ومفصلية فعلا. وقد لا يتأخر الوقت قبل أن تنتقل الأزمة من النطاق المالي إلى النطاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والإيديولوجية. منذ الآن يجري الكلام مثلا على إعادة الاعتبار للدولة أو على الحاجة إلى ما يسمى في الولايات المتحدة «الحكومة الكبيرة». ومعلوم أن السياسات النيوليبرالية المتهمة بمسؤولية مباشرة عن الأزمة هي أيضا السياسات المنحازة إيديولوجيا ضد اضطلاع الدولة بدور اقتصادي واجتماعي معولة على الدور المنظم والعام للسوق.
وأيا يكن الأمر، فقد ارتفع الطلب فوريا على تدخل الدولة في المجال الاقتصادي، والأرجح أنه مرشح لمزيد من الارتفاع في المستقبل المنظور. وهو بذلك يسير عكس اتجاه عالمي عمره ينوف على عقدين، التقت فيه عملية العولمة وتكون مجال اقتصادي دولي مستقل عن الدول جميعا، مع تحلل نماذج الاقتصاد والاجتماع الدولاني «الاشتراكية» في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. كان التحلل هذا أفضى حتى إلى تراجع اعتبار السياسات الاشتراكية الديموقراطية في غرب أوروبا، إلى حد أنه لم يكن في وسع الاشتراكيين الفرنسيين والعماليين البريطانيين والاشتراكيين الديموقراطيين السويديين ( وإدارة كلينتون في أميركا) غير الاندراج ضمن التوجهات النيوليبرالية الصاعدة. ويحتمل أن تسير الأمور اليوم في اتجاه معاكس: أزمة النيوليبرالية تتسبب في تدني سمعة الليبرالية نفسها، وتاليا تزكية الاتجاهات الدولانية، القومية والشعبوية، وحتى الفاشية.
لكن ألسنا نتعجل؟ العولمة حقيقة واقعة لا ترتد إلى الليبرالية المحدثة التي جعلت من نفسها إيديولوجية عضوية لها. ثمة أولا هياكل مؤسسية مثل منظمة التجارة الدولية ونظائر إقليمية متعددة لها من غير المرجح أن تجرفها الأزمة الحالية؛ وثمة ثانيا تدامج اتصالي ومعلوماتي عالمي غير عكوس، لم يكن له نظير قبل الحرب العالمية الأولى ولا أيام أزمة «الكساد العظيم» في مطالع ثلاثينات القرن السابق؛ وثمة ثالثا تشابك اقتصادي عالمي لا يرتد إلى التدفقات المالية غير المراقبة، تمثل صناعة البرمجيات الهندية والسيارات الصينية بعض أبرز بؤر الكثافة فيه. وانتقال الأزمة الراهنة بسرعة عولمية، إن صح القول، لتعم أكثر دول العالم أو جميعها، يكفي للقول إن فرصة أي معالجة لها في النجاح ستكون محدودة إن لم تكن عالمية. والأكيد أنه لا حلول قومية لأزمة عالمية.
فهل يمتنع التفكير في عولمة لا تكون النيوليبرالية وعيها الذاتي ولا تقترن حتما بضعف الدول أمام الاقتصاد؟ نفترض بالطبع أن العولمة نفسها ليست إيديولوجية، فلا مجال للتراجع عنها. لكن هل يمكن فعلا الكلام على عولمة ودول قوية، تدخلية اقتصاديا؟ ألا تنبني التدخلية على مفهوم الاقتصاد القومي وإجراءاته الحمائية، وتاليا على الانعزال عن عمليات العولمة؟ ربما يتمثل المخرج من هذا التناقض بين عولمة محتومة ودولة لا مناص من تدخلها في بناء إطار مؤسسي عالمي أو مجلس عالمي مخول بمراقبة التفاعلات الاقتصادية العالمية وضبطها والحفاظ على التوازن والنمو الاقتصادي العالمي؛ ضرب من أمم متحدة اقتصادية مفتوحة العضوية لجميع الدول، الهدف منها التحكم السياسي العالمي بالعولمة. منظمة التجارة الدولية لا تصلح لمهمة كهذه بسبب إيديولوجيتها الليبرالية الجديدة وهيمنة الأميركيين عليها. ولعله يمكن الاستفادة من الزخم الحالي المعادي لسلطة أصحاب المال من أجل فرض أجندة اقتصادية عالمية أكثر ديموقراطية، تستوعب قضايا الفقر والجوع والمرض والأمية على صعيد عالمي، ولا ينحصر عملها في معالجة الأزمات الحادة .
معلوم أن جهودا في اتجاه تشكيل إطارات فوق قومية قد تلت الأزمات العالمية الكبرى، الحربين العالميتين بالخصوص، علما أن الأولى تمخضت عن دمار اقتصادي واسع النطاق في أوروبا، والثانية تلت أزمة كبيرة في الولايات المتحدة وأوروبا. ولعل فشل تنظيمات ما بعد الحرب الأولى: عصبة الأمم من جهة، وتغريم ألمانيا أكلاف الحرب من جهة ثانية، أسهم في صعود النازية ووقوع الحرب العالمية الثانية. ولم يتلُ هذه تشكيل منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الفرعية التابعة لها فقط، وإنما كذلك اتفاقية بريتون وودز بين القوى الغربية التي قامت على أساس أفكار جون مينارد كينز (كان ممثل بريطانيا في المفاوضات التي أوصلت إليها) وقيدت الدولار إلى الذهب فحدت من التداولات المالية المستقلة والمضاربات التي تسببت في الأزمة الراهنة (ويعتقد أن إلغاء الأميركيين الاتفاقات تلك في 1971 هو الجذر الأقدم للأزمة الحالية). كان عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية مستقطَباً بعمق فتعذر تشكيل إطار اقتصادي عالمي. لكن رغم الاختلافات الكبيرة، الاقتصادية والإيديولوجية، كانت الدولة الكينزية الغربية والدولة الشيوعية الشرقية والدولة الوطنية التنموية العالم ثالثية تنويعات على ما سيسمى في وقت لاحق دولة الرعاية الاجتماعية التي تتكفل أساسيات الحياة لمواطنيها.
من شأن قيام وكالة أو مجلس سياسي اقتصادي عالمي أن يكون تقدما حقيقيا للاندماج العالمي على نحو ما كانت الأمم المتحدة التي لا يشكك في دورها غير عدميين من صنف الجهاديين الإسلاميين والمحافظين الجدد الأميركيين. غير أن هذا لا يعني بحال تحقق المساواة العالمية أو توزع منافع العولمة بالتساوي على الجميع. فلم تضمن الأمم المتحدة أبدا مساواة بين الدول، رغم أن الضعفاء هم المرشحون للتأذي أكثر من غيرهم إن انهارت. والعبرة على أية حالة ليست في الهياكل المؤسسية بحد ذاتها، بل في نمو فرص الديموقراطية العالمية التي يفترض أن تتيحها هذه الهياكل. وهذا بدوره مرهونة بالطاقة التحريرية، الفكرية والسياسية والتنظيمية، التي قد تطلقها تفاعلات الأزمة العالمية الحالية.
يمكن لأي كان أن يرفض هذه الطرح (غير المختص). هو أصلا لا يطالب لنفسه بغير فضيلة الإيجابية والانفتاح على الحدث والاعتراف به. السمة الغالبة لتفاعلنا مع الحدث هي رفض التفاعل، سواء باعتبارنا غير معنيين بما يجري في المراكز العالمية (اللهم إلا كفرصة للشماتة) أو باعتبار الأزمة مناسبة لتأكيد توجهات إيديولوجية سابقة عليها. هذا خطأ فاحش في كل حال، فمساحة مشاركتنا في مستقبل العالم تتناسب مع مساحة انخراطنا اليوم في شؤونه وتفاعلنا الإيجابي مع مشكلاته. أما السلبية فليست غير استسلام مقنع.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى