السعودية: طبقية الاعدامات وانتقائيتها
د. مضاوي الرشيد
اصدرت منظمة العفو الدولية تقريرا جديدا عن الاعدامات في السعودية. اهم ما ورد في التقرير تزايد عدد هذه الاعدامات عن معدلاتها السابقة وتطبيقها على شرائح كبيرة من العمال الاجانب، حيث ظهر ان تعدادهم يزيد عن تعداد السعوديين رغم انهم لا يمثلون سوى ثلث عدد السكان تقريبا. ولكنهم يحتكرون اكثر من ثلاثة ارباع عدد المطبق عليهم حكم الاعدام على خلفية جرائم تتطلب مثل هذا الحكم.
لسنا هنا في صدد مناقشة حكم الاعدام بحد ذاته وانما نستقرئ دلالات الاحصائيات التي اعتمد عليها تقرير المنظمة. لا شك ان هناك تزايدا واضحا في نمط الجريمة، وخاصة تلك التي تهز المجتمع كالمتاجرة بالمخدرات والقتل العمد والسرقة وانتهاك للامن الاجتماعي وتقلص قدرة الدولة الردعية على الحد من تفشي العمل الاجرامي وتلاشي هيبة مؤسساتها البوليسية او برامج التوعية والارشاد. هذا بالاضافة الى انخراط شرائح كبيرة من الشباب في تعاطي الادمان على المخدرات والكحول مما يساعد على تغذية العنف الاسري والاجتماعي ناهيك عن تردي الوضع الاقتصادي رغم الطفرة النفطية الحالية، حيث تظل شرائح اجتماعية كبيرة غير قادرة على الاستفادة من الفرص الجديدة وتسلق الهرم الاجتماعي. كل هذا يولد ضغوطا كبيرة وقد يدفع البعض الى الجنوح والجريمة. انعدام الرقابة الاجتماعية وتمزق المجتمع وتفككه خاصة في احياء مهمشة ومدن كبيرة وتقوقع البعض في بؤر معزولة اقتصاديا وخارجة عن نطاق التطور الاقتصادي العام والتي افرزت ظواهر الجريمة التي تؤدي الى تزايد حالات الاعدام. لقد اختار بعض الشباب طريق الجريمة كردة فعل على انحدار قوي ومحلوظ وصلت اليه السعودية. جاء هذا الانحدار نتيجة عقود طويلة من تنمية مبتورة اهم ملامحها تفعيل رقابة الدولة على المجتمع واحكام السيطرة على مرافق الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية. لم تترك الدولة منفذا الا ونصبت نفسها رقيبا عليه من مشاريع الرياضة والثقافة الى المدرسة مرورا بالمسجد والجامعة ودوائر المجتمع الثقافية والاجتماعية وحتى الترفيهية. لم تترك الدولة متنفسا للمجتمع يفعل الفرد فيه طاقته وينفس عن فرديته الا وكانت رقيبا عليه. ولكن لم تستطع هذه الرقابة المفرطة ان تحد من الجريمة او تتعاطى مع اسبابها وتداعياتها. خرج الكثير من الشباب يبحثون عن متنفس او منفذ وبعضهم وجد في الجريمة وانتهاك السلم الاجتماعي ملاذا من سوط الرقابة واصبح الجرم عملا استفزازيا للسلطة السياسية والابوية والاجتماعية التي حقنت النفوس بالتمرد وتجاوز مسلمات المجتمع، بل التعدي على هذه المسلمات بشكل قوي وعنيف. اتخذ هذا التمرد وجهين مختلفين رغم ان اسبابهما ربما تكون واحدة. انخرط البعض في اعمال العنف السياسي ولبى الكثير منهم دعوات التفجير والقتل الذي يخضع لايديولوجية الجهاد. اما البعض الآخر فانخرط في الجريمة الاجتماعية كفرد او كجزء من عصابات السرقة والقتل والاغتصاب وتهريب وترويج المخدرات. طرفان ربما يكونان على نقيض ولكن يبدو ان هناك استرسالا اجتماعيا واضحا اذ ان البعض انتقل من الجنوح الاجتماعي والسلوكي الى العنف السياسي والآخر آثر الاتجاه المعاكس. ارتفاع معدلات الاعدام في السعودية ان دلت على شيء فهي تدل على حالة الانحدار التي وصل اليها المجتمع وخاصة شرائحه الفتية التي تمثل اكبر شريحة ديموغرافية في البلد. لكن هذا لا يفسر لنا زيادة تمثيل اليد العاملة الاجنبية في احصائيات الاعدام خلال العام الماضي مما يجعلنا نتساءل عن خلفية هذه الحالات وتكاثرها.
قد يفسر البعض قدرة المواطن المجرم كالقاتل او المغتصب على تجنب حكم الاعدام عندما تقبل الدية كبديل لتنفيذ الحكم وهذا قد لا يتوفر لليد العاملة الاجنبية وخاصة الفقيرة او ذات الدخل المحدود. من المعروف ان السعودي بحكم ارتباطه العائلي او القبلي او حتى واسطة البعض عند المتنفذين في الدولة قد تجعلهم في وضع افضل عندما يواجهون حكم الاعدام قد يشتري هؤلاء حريتهم بعد تفعيل علاقاتهم الاجتماعية وجمع المبالغ المالية المطلوبة التي تجنبهم منصة الاعدام وتنهي القضية دون ان تتحول الى رقم آخر يضخم معدلات تنفيذ الحكم. ورغم ان هناك حكمة الهية في توفير بديل لحكم الاعدام متمثل في دفع الدية الا ان هذه الحكمة قد عرّت الطبقية والانتقائية المستشرية في المجتمع السعودي وجعلت من اليد العاملة الاجنبية كبش فداء تستعرضه الدولة كرمز لالتزامها بالشريعة الاسلامية وتطبيق احكامها. ما اسوأ ان تتسلق السلطة السياسية هرم العفة والالتزام بالاسلام على ظهور من استوردتهم للقيام بنشاط اقتصادي لا هي ولا المجتمع يريدان الانخراط به. سياسة استيراد اليد العاملة قد بدأت تفرز هي ايضا ظواهر اجتماعية وانحرافا سلوكيا واضحا. فهل يا ترى استوردت الوزارات المعنية بدخول هذه اليد العاملة شريحة تجنح للجريمة ام ان بعضها قد لجأ الى الجريمة كردة فعل على تجربة انخراطه في المجتمع السعودي واقصائيته وعنصريته وطبقيته؟ لا نستطيع ان نجزم ان هذه العمالة الاجنبية قد جاءت الى السعودية تحمل معها سوابق اجرامية حيث على حراس الحدود تقع مسؤولية استكشاف ماضي هؤلاء وسجلهم الامني.
المرجح ان الكثير من هؤلاء تعلم الجريمة ووقع في شباكها كردة فعل قوية على وضعهم الاجتماعي المزري. هذا الوضع نفسه يجعلهم اكثر عرضة لتطبيق حكم الاعدام على غير السعوديين عندما يرتكبون ابشع الجرائم بحق مجتمع لا ينظر اليهم كبشر اضطرهم الوضع الاقتصادي المزري في بلادهم الى الهجرة وتحمل العيش في مجتمع ودولة لا يوفران ابسط حقوق الانسان. ليس للعمال الاجانب حق تنظيم انفسهم في مؤسسات عمالية تماما كما هو حال السعودي العامل وليس لهم الحق في التظاهر او الاعتراض على ظروف العمل. وهم بذلك يشتركون في هذا الوضع مع نظيرهم السعودي الا ان هذا الاخير لا يزال يرتبط بعلاقات اسرية واجتماعية تستطيع في بعض الاحيان ان توفر له حماية ولو بسيطة تجاه قمع الدولة وقد لا يتوفر هذا الحيز لكثير من السعوديين انفسهم وهؤلاء هم الذين شكلوا تقريبا ربع قائمة اعدامات العام الحالي وسيتزايد عددهم في المستقبل لا محالة مع تفكك المجتمع والاسرة تحت ضغط التنمية المستوردة التي لا تتعاطى مع احتياجات المجتمع المحلي وبيئته. وستظل اليد العاملة الاجنبية موجودة وسيزداد عددها في المستقبل لانها توفر للدولة ليس فقط ما تحتاجه من خدمات بل لانها ضرورية في مجتمع يعتمد على الانفصال وليس الانصهار. اليد العاملة الاجنبية شريحة في مؤخرة الهرم الاجتماعي ينظر اليها السعودي المعدم وكأنها النهاية. فحالها اسوأ منه ووضعها اكثر عدمية من وضعه فيشعر عندها انه اعلى مرتبة من نقطة الصفر. هذه النظرة الاستعلائية والمبنية على طبقية وعنصرية مستشرية ضرورية لانها تقف حجر عثرة في طريق اي عمل جماعي عمالي يطالب بحقوق متساوية للجميع انها لعبة الرأسمالية القديمة. تفكيك الطبقات العمالية عن طريق التمييز العنصري والاثني وتقليص قدرتها على العمل المشترك هو الضمان الوحيد ضد الوحدة من اجل المطالبة بحقوق جوهرية تضمنها الشرائع السماوية والوصفية. بالطبع لا ينطبق هذا على العمالة الغربية المستوردة ذات المهارات العالية التي تدير المرافق الصحية والاقتصادية من رجال اعمال واطباء وخبراء تكنولوجيا وامن واستخبارات. هؤلاء يمثلون شريحة في اعلى الهرم الاقتصادي والاعتماد عليها يذكر السعودي انه متخلف في خبرته واختصاصاته عن نظيره الغربي. وقلما تجد المجرم من هذه الشريحة العالية المتعالية يساق الى منصة الاعدام على خلفية جريمة ارتكبها وان وجد نفسه في السجن ستظل حكومته تطالب بالافراج عنه مما يكرس تبعية السعودية للعالم الغربي واعتمادها عليه في اكثر من مرفق من مرافق الحياة العامة.
تقرير منظمة العفو الدولية يفتح الباب على مصراعيه ويعري النظام السعودي ويفضح ادعاءاته بتطبيق الشريعة والتي ان طبقها فهو يفعل ذلك بانتقائية واضحة، في مجتمع يقبل الفصل القاطع بين الحاكم والمحكوم الغني والفقير، القبلي و’الهتلي’ الابيض والاسود، الحضري والبدوي، الرجل والمرأة الى ما هنالك من اضداد لا متناهية يصعب الوصول الى احصائيات متوازنة لا تفرق بين قاتل محلي وآخر أجنبي وتجر كليهما بتساو واضح الى حبل المشنقة.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
القدس العربي