الماركـــة والماركـــة المضـــادة
عباس بيضون
يقول فوكوياما إن الأذى الذي لحق بالماركة الاميركية لا يقل عن الأذى الذي لحق بالاقتصاد الاميركي. لا يحدد فوكوياما ماذا يعني بالماركة الاميركية لكنه يقول ان الدعوة الديموقراطية الاميركية بدت بعد غوانتانامو كأنها عذر للسيطرة. تكلم فوكوياما عن الماركة الأميركية وقديما تضمن بيان المثقفين الاميركيين بعد ١١ ايلول كلاماً عن القيم الاميركية ونمط الحياة الاميركية. وهناك بالطبع كلام دائم عن الوعد الاميركي والحلم الأميركي. لا بد أن الرسالة الاميركية لا تزال حقيقة في اميركا. المثقفون الاميركيون وحدهم يجازفون بكلام كهذا بدون ان يُشتبه في عنصريته وظلاميته. لا بد ان »الروسية« قيماً ورسالة لا تفوح بغير الحلم القيصري، ولا بد أن الرسالة العربية، ما زلنا هنا، ليست شيئاً سوى عبادة الماضي. في كل كلام كهذا ظل عقيدة للدولة والمجتمع. البوشية أمعنت في ذلك حتى أننا لا نخطئ أن نسمع نبرة دينية في يافطة »محور الشر« ونبرة توتاليتارية في يافطة »الضربة الوقائية«. لم نسمع في الغرب من زمن حكماً يجازف بدعوى ايديولوجية كما جازف عهد بوش، ولا بد ان السحر الاميركي فعل فعله، فها هو ساركوزي على آثار بوش يتكلم عن انتفاضة ٦٨ وعن الدين بما يعني ان للدولة رأياً وانها لا تخفيه.
لا أظن ان الأنظمة العربية تضررت من البوشية في ذلك، لقد أعطتها هذه عذراً جديداً لتسترسل في انتداب نفسها وكيلة عن رسالات وقيم ودعاوى ايديولوجية وخصوصيات. اذا كانت الذرائع الايديولوجية، لحكومات لا تكاد تجد ما تتوسل بها سواها، قد باخت تقريباً ووهنت وبدت مع الزمن طنطنة جوفاء، لفرط ما بدا ضعفها عن تمويه تدهور واستنقاع ضاربين، فان البوشية أعادت الصراع الى مستوى ايديولوجي، وحقنت السجال والحجج الايديولوجية بدم جديد. وأظهرت أن الدعائم الايديولوجية لا تزال صالحة. جعلت مجدداً من »الخصوصيات« والهويات والرسالات حصناً حقيقياً، في الوقت الذي كان فيه سؤال الواقع، سؤال الاقتصاد والنظام السياسي قد بدأ ينخر الدعاوى العقائدية ويضعها على المحك، أعطت البوشية لهذه الدعاوى مشروعية جديدة، وجعلتها ثانية خندقاً للدفاع والمواجهة. كان الاستفزاز الايديولوجي الاميركي محرضاً حقيقياً على غليان مماثل، لعل السجال النجادي البوشي من نتائجه. حين يتكلم الاميركي عن الخير والشر والرسالة الاميركية والضربة الوقائية فان هذا يطلق العنان، لدى الطرف الآخر، لاستخراج كل مكبوته العقائدي. هكذا نسمع من الطرف الآخر هذياناً مفلتاً، اذا وجد من يؤاخذ عليه، الا انه يتحول وقوداً لمعركة ليس فيها رابح ويمكن تأريثها الى أقصى حد بدون أي كلفة. وقد تنفع كثيرا في تغطية مشاكل حقيقية وتأجيلها مجددا. بل قد تنفع في اعادة الصراع الى نقاط أولية.
لم يخسر خصوم بوش العرب من بوش. لقد كان، بدون قصد غالبا، عونا على تثبيت دعائمهم وترميم خطابهم ومدهم بحياة أخرى. الأرجح أنهم انتعشوا كثيرا به وبمسيرته. ليست النتائج خافية، تكفي ايران والعراق ولبنان مثلاً، لقد انقذت البوشية تقريبا، خصومها بدون ان يتكلفوا شيئا. مثل غوانتانامو ليس الوحيد وليس الأفدح. مع ذلك فان الدعوى الديموقراطية لم تحتج الى اكثر من غوانتانامو لتتساوى بالاستبداد. بالعكس أعيد الاعتبار للاستبداد بوصفه دفاعا قوميا، وبوصفه لحمة لا غنى عنها، بوصفه أساساً وحيداً الدولة والأمن الاجتماعي. فيما غدت الديموقراطية، على أي غرار كان، معادلا للتفتيت والحروب الأهلية والانهيار السياسي. لقد تأذت الماركة الاميركية كثيرا، وما تأذى اكثر هو المشروع الديموقراطي، لقد صبت البوشية يأسا اضافيا على عقمنا التاريخي والسياسي، وأعطت حقا مجانيا ومشروعية للمخابرات والأسر الحاكمة والخيم الايديولوجية والاهتراء السياسي والتاريخي بكل وجوهه.
من المؤكد ان خصوم بوش ربحوا من حيث لم يفعلوا شيئاً. لقد فعل بوش والحكومة الاميركية عنهم كل شيء. رماهم الخطاب البوشي بكلام ذي نفحة دينية شوفينية فألقموه من العيار ذاته. لقد منح الخطاب الاميركي كلاماً متراجعاً مخرّقاً قوة وحياة. فما بالهم لا يرسلونه الى الآخِر ويتفنون فيه، ويردون على النكاية بنكاية أكبر. وجدوا الاميركيين يتدهورون في افغانستان ويركّبون مكان الحكم الطالباني نظاماً من أمراء الحرب. يتدهورون في باكستان التي تحتار بين الاستبداد والحرب الأهلية. يتدهورون في العراق ويركّبون مكان الحكم الصدامي نظاماً من امراء الحرب والصراع الأهلي. لقد ربح خصوم بوش من حيث خسر الاميركيون. تركوا اميركا تخسر وبعد ذلك كان لهم ان يتبجحوا بالنصر. انتصروا ولم يعد مطلوباً منهم أن يقولوا اين وكيف. يقول فوكوياما في مقالته إن النموذج السوري الايراني الروسي الفينزويلي لن يكون البديل. لن يكون البديل لكنه تقوّى واسترخى واستراح. تم له ذلك بدون كلفة سوى ما فعله الاميركيون بانفسهم وبسواهم. ثم ان هذا النموذج لم يقترح نفسه بديلاً. فما جرى، من الآن حتى زمن مجهول، هو اختفاء البديل فكرة ونموذجاً. ما جرى هو أن الحملة الاميركية لم تجرف فقط الماركة الاميركية، بل جرفت معها الماركة الديموقراطية كلها. منذ هذه الحملة باتت الخيارات ساخرة: الوطنية أم الديموقراطية، الاستبداد أم الحرب الأهلية، السلالات المنتخبة، أم أمراء الحرب، المخابرات أم الفوضى. القتل المنظم ام القتل العشوائي. أجهض الأميركان فكرة البديل. فعلوا بالديموقراطية ما فعلته الأنظمة الشيوعية بالاشتراكية.
لكن الأمر الأكثر هزلاً هو ما يدعيه من يربحون بأن لا يفعلوا شيئاً. التدهور الاقتصادي الاميركي مؤخراً مصدر سعادة للذين لا يملكون اقتصاداً أصلاً. سيتحججون مثلاً بأن نظرية ماركس في الأزمة الدورية الرأسمالية ربحت، كأن دوران الإفلاس ومافيات السلطة والرأسمال السياسي هي الحل، او كأن ماركس الماركسية من إبداعاتهم. البعض بدأ منذ الآن يقترح نظاماً للأميركيين، لا نعرف أين يجد مصادره. لكن الواضح أن غضبنا على مدراء البنوك الأميركيين يفوق بكثير غضبنا من الاحتكارات العائلية للاقتصاد والسلطة. كما أن نقدنا العنيف لسيطرة الرأسمال المالي لا يوازيه نقدنا للرأسمال السياسي والحربي. من الواضح ان عدم تدخل الدولة في الاقتصاد هو حجتنا الكبرى لتحويله الى احتكار عائلي حكومي، وحجتنا الأكبر للتسبيح بفضل المخابرات. من الواضح ان نقدنا للرأسمال الصوري يفوق احتجاجنا على النهب المباشر. من الواضح اننا مستاؤون من تطور الرأسمالية أكثر مما نحن مستاؤون من تأخرنا. ولا أعرف اذا كان هناك من أسعده أن يكون قطار العولمة فاتنا. لا أعرف إذا كان هناك من فكر بأن الأفضل ان نرجع الى ما قبل اختراع المال. فالأرجح ان عندنا دروساً كثيرة نعطيها للأميركيين. الأرجح ان عليهم هذه المرة ان يتعلموا منا. لا بد ان عند ملالينا وشيوخنا ومفتينا اقتراحات كثيرة بهذا الصدد. وإننا نستطيع ان نقدم للعالم أجمع النموذج السعودي او المصري او الايراني او السوري اذا كان فاتنا ان نقدم لهم من قبل النموذج الليبي والمصري او حتى النموذج الكوبي. فوكوياما يقطع بأن هذه النماذج لا تصح. من أين له أن يعرف؟ ألم يتدهور النموذج الاميركي؟ اليست هذه فرصة لنعتد بهذا الذي جاءتنا الفرصة لنسميه نظاماً؟ الآخرون يعملون لنا ونحن ننام. أعداؤنا يعملون لنا. أعداؤنا هم حجتنا عليهم وعلى انفسنا، غوانتانامو تبرر سجوننا، بل تجعلنا ننساها وينساها الآخرون. محاكمة أولمرت على ٥٠ ألف دولار فقط تبرر فسادنا بعشرات الملايين. هكذا لا نسأل عما في نصب المحكمة لرئيس وزراء عن ٥٠ الف دولار (يمكن ان تعطى لرضيع الحاكم عندنا) من دروس ونتكلم عن فسادهم مقابل فسادنا، بل نتكلم عن فسادهم وننسى فسادنا. إن رصيدنا هو اغلاطهم ونحن لا نغلط بالطبع. من يعملون يغلطون، أما نحن فنهترئ ونتآكل. اما نحن فننتصر دائماً لأنهم يغلطون، ولا نسأل لماذا نزداد، في انتصاراتنا ضعفاً وتفتتاً؟ لماذا لا نخرج أقوى من كل هذه الانتصارات؟ لماذا تجر علينا انتصاراتنا الويلات؟ لا نسأل فنحن تجاه انفسنا لسنا موجودين. لسنا شعباً ولا دولة ولا وطناً، وليس لاقتصادنا وسياستنا وأفرادنا اعتبار. لسنا موجودين الا بوصفنا خيالات ظل، الا بوصفنا صورتهم السلبية. لا يهم من نحن، المهم فقط أنهم يقاسون ويخطئون لنا.
السفير الثقافي