نحن والهند والأحاديّة القطبيّة
حازم صاغيّة
قد يكون من حقّ بلد كالهند أن يُسرّ بتصدّع نظام الأحاديّة الدوليّة. فهي، كلّما ذُكر ذاك التصدّع، ذُكرت بوصفها قطباً جديداً محتملاً. وهي، بعد مساهمات متفاوتة لليابان وكوريا الجنوبية، وتقدّم بعيد أحرزته الصين، في الفضاء القمريّ، أرسلت «شاندرايان 1» (بالسنسكريتيّة تعني: مهنة أو صنعة) ليرسم خريطة للقمر ويمسح موادّه الأولى وتوزّعها. والأمر موضع افتخار وطنيّ وسبب لاحتلال موقع في العلاقات الدوليّة أكثر احتراماً، ولشعور رمزيّ بعظمة من يصل إلى هناك، ومن على وجه القمر يزرع علمه. لكنّ الإنجاز هذا يتعدّى الرمز إلى توسيع مجالات الاستخدام بما ينعكس على شروط التنميّة الاقتصاديّة. صحيح أن ثمّة أصواتاً انتقدت الغزو الفضائيّ الأخير بوصفه هدراً للموارد في بلد لا تزال ملايين من أبنائه تفتقر إلى حاجيّات أساسيّة. لكنّ ما يخفّف من نقد كهذا أن الغزو إذا كان هدراً، فهو هدر منتج (إذا جاز التعبير المتناقض).
فهو يمتّن الوحدة الوطنيّة الهنديّة فينضاف إلى إنجازات كبرى يكفي أن نقارنها بما آلت إليه الجارة الباكستانيّة كي نقدّر حجمها. فالهند، بمئات قوميّاتها وأديانها ولغاتها، حافظت على مؤسّساتها الديموقراطيّة والدستوريّة وتجنّبت الحرب الأهليّة والانقلاب العسكريّ سواء بسواء. والقاعدة هذه لم يغيّرها خوضها حروباً عدّة مع باكستان والصين، واغتيال كثيرين من قادتها، بمن فيهم المؤسّس المهاتما غاندي. ويمكن للهند، والتجربة ماثلة، أن يصل مسلم منها إلى رئاسة الجمهوريّة، وسيخيّ إلى رئاسة الحكومة، وأن تعود قائدة الحزب الأكبر، حزب المؤتمر، إلى أصل كاثوليكيّ إيطاليّ.
والفقر في الهند لم يكن، هو الآخر، سبباً لهدم الهيكل فوق رؤوس الهنود. فالأخيرون يحلو لهم التفاخر بأنهم يطوّقونه من خلال نجاحهم في ركوب ثورة المعلومات التي أخضعت بلادهم لتحوّل نوعيّ. وما من شكّ في أن حجم الفقر الهنديّ لا يجعله معرّضاً للهزيمة بين ليلة وضحاها، وأن الأزمة الماليّة الراهنة قد تبطّىء تذليله. بيد أنه ما من شكّ أيضاً بوجود مسيرة في الاتّجاه هذا، مسنودة بالأرقام والاحصاءات والصور، وبوجود مرتكزات تنهض عليها مكافحة البؤس.
وقصارى القول إن الهنود يفتخرون بالإنجاز ضدّاً على العرب الذين يفاخرون بتعطيل الإنجاز وتمزيق الأنسجة الاجتماعيّة والوطنيّة وتحقيق «الانتصارات» الإلهيّ منها وغير الإلهيّ. وتراهم، من موقعهم هذا، لا يملكون إلاّ التفتّت والمقاومات التي تزيده تفتّتاً، يدخلون بها العالم، أقاده قطب واحد أم أكثر من قطب.
والحال أن العرب لم يقارنوا أنفسهم بالهند. فهم ارتضوا، مرّة واحدة فحسب، أن يقارنوا أنفسهم باليابان، من قبيل اشتهاء التقليد والمحاكاة، وذلك في حرب 1904-1905 حين تغلّبت على روسيا «الأوروبيّة». فقد انشدّت نُخَبهم، منذ «النهضة»، إلى مقارنة ضدّيّة مع أوروبا، ومع أوروبا وحدها، يحدوها السؤال الحارق: كيف نكتشف سرّ تقدّم الغرب كيما نستعمله ضدّه. وتوسّع البحث عن السرّ وتضخّم شاملاً الولايات المتّحدة، بحيث بتنا نئنّ تحت وطأة ثقيلة لا قبل لنا بها: لا نستطيع ان نقلّد هذا الغرب ولا نستطيع، طبعاً، أن نهزمه. وفي المعمعة هذه غدونا لا نستطيع أن نفهمه وأن نقرّ بأنه متقدّم. وبعد قرن على «النهضة»، قلب الأصوليّون السؤال فلم يعد: كيف نصبح مثل الغرب، بل صار: كيف يصبح الغرب مثلنا؟
… وتتواضع الهند في إبداء فرحتها بالانتقال إلى تعدّديّة قطبيّة، ونحن، الذين نتعالى عليها، نزداد تفاؤلاً!