صفحات العالم

العالـم تغيّـر

سليمان تقي الدين
العالم يتغيّر أسرع بكثير مما نتوقع وغالباً من حيث لا نتوقع. الإمبراطورية السوفياتية التي شغلت العالم طوال القرن العشرين انهارت في لحظات وكأنها بناء من كرتون. انطلقت الإمبراطورية الأميركية لتفرش ظلها العسكري على العالم فإذا هي تتعثر أمام مقاومات أقل ما يقال فيها إنها بدائية. لقد صارت كلفة الحرب على العراق جزءاً مهماً من مصير الاقتصاد العالمي. خلال أيام معدودة كان أكبر اقتصاد في العالم يستجدي دعم »أوروبا القديمة« التي فقدت كل تراثها الاستقلالي وهي تنجر وراء المغامرات الأميركية. تصرّف الألمان والفرنسيون كأنهم ينتظرون الوقت المناسب من الضعف الأميركي ليرفعوا راية الشراكة. صحيح أن الأزمة عالمية وقد أصابت كل الاقتصاديات المتورطة في الأسهم، لكنها على الصعيد السياسي ذات عنوان أميركي. أميركا أخضعت العالم كله إلى مرجعيتها في البورصة والدولار. أميركا استحوذت وحدها على الفوائض النقدية الكبرى للصين واليابان وروسيا والعرب وأوروبا. أميركا هي التي رفعت أسعار النفط إلى حدود خيالية تضغط من خلاله على أسواق الدول النامية في اقتصاديات إنتاج للسلع. أميركا هي التي أدارت الظهر لكل المطالبات بالشراكة والتزام رعاية الأمن القومي لبعض الأقطاب الدوليين ومنهم روسيا. أميركا كذلك هي التي جعلت منطقة الشرق الأوسط مسرحاً لحركات التطرف السياسي والديني جراء تجاهلها لمصالح شعوب المنطقة ودولها. لو دام العصر الأميركي لاتسعت أكثر رقعة الحروب وتعاظمت مخاطر العنف وعمّت الفوضى. في العادة التاريخية لا تنكسر الإمبراطوريات إلا من داخلها. آلات الحروب الكبرى لا تتعطل إلا من خلال العمق الاستراتيجي لها. خسرت أميركا حرب فيتنام في المعارضة الأميركية لها.
انهار النظام السوفياتي القوي عسكرياً أمام تحديات التنافس الاقتصادي العالمي واستحالة التقدم من خلال الآلة البيروقراطية السالبة للحرية. لم ينكسر الجيش الأميركي عملياً في أفغانستان والعراق لكنه فشل في القيام بالمهمة السياسية التي أرادتها أميركا، وبالذات في إعطاء فرصة جديدة للاقتصاد الأميركي. وقف الرئيس الفرنسي أمس ليقول: »إن الأميركيين أمة عظيمة تثير الإعجاب، لكنهم ليسوا وحدهم يقرّرون مصير العالم«. لا نظن أن نيكولا ساركوزي قد ربح حرباً، بل هو يبني على نتائج خسائر أميركا في حرب خاضها الآخرون، خاضتها شعوب منطقة الشرق الأوسط، التي لم تكن كما توهّم الأميركيون تتلهف لاستقبالهم وتستجيب للمشروع الذي تخيلوه سياسياً واقتصادياً. قد يقول قائل: ولكن الأزمة مالية وتستطيع الولايات المتحدة خلال فترة من الزمن أن تعيد التوازن وتعيد الثقة باقتصادها«. لقد ضخت الدول الصناعية المتقدمة أكثر من ستة آلاف مليار دولار في الأسواق العالمية ولم تستطع أن تكبح التراجع المتزايد في أسعار الأسهم. حتى الخبراء الاقتصاديون يتساءلون أين تبخرت كل هذه النقود. القليل منهم أدرك أن الاقتصاد الورقي قد انهار والأسعار الوهمية ستعود إلى طبيعتها الفعلية وأن التوازن الحقيقي الذي يوقف الأزمة هو التوازن بين الاقتصاد الفعلي والأسعار. إذا كان هذا هو المسار الطبيعي للأمور فإن الاقتصاد الأميركي يصبح موازياً للاقتصاد الأوروبي وليس أضخم منه. وتصبح القيادة الاقتصادية والسياسية مسألة تعاون لا استفراد.
لقد تغيّر العالم بأسرع مما نتوقع وعلينا أن نصدق دون تردد أن الإمبراطورية الكبرى قد فقدت قدرتها على التحكّم بمصائر الكون، وأنها بدأت تفقد مميزات أساسية هي عناصر »الرسالة« أو الدور التاريخي. لقد افترض هنتنغتون أن صراع الحضارات لا يقوم فقط على القوة العسكرية بل على البُعد الثقافي حيث لأميركا رسالة مختلفة تتعلق بإرثها الليبرالي والديموقراطي.
كما افترض فوكوياما أن نهاية التاريخ هي المشروع الأميركي ومرده أيضاً هذه الرسالة الضمنية التي يؤديها اقتصاد يقدر على تجديد نفسه، خلال أيام انكشف هذا المشروع الأميركي عن نقطة ضعف قاتلة (كعب آخيل) في الجسد العملاق اقتصادياً وعسكرياً، ألا وهو »الاقتصاد الوهمي« والحروب الإمبريالية الخاسرة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى