صفحات سورية

شيءٌ من السذاجة كثيرٌ من الغرور

null


زياد ماجد

تبرز في الخطاب اليساري الداعي الى مواجهة أميركا وبوارجها “باللحم الحي”، على ما قال أحد “الرفاق” بعد اقتراب “يو أس كول” من السواحل اللبنانية وقيام آخرين بحرق مجسّم لها، ملامح سذاجة معطوفة على نسب من “الغيبيات” كنا نفترضها غريبة عن “ماديات” اليسار وما يمكن أن تكون عليه خططه وبرامجه. فقذف اللحم على سفن وحاملات طائرات قد لا يصيبها بضرر كبير، هذا إذا أصابها أصلاً.

على أن ملامح السذاجة في دعوى اللحوم والأساطيل البحرية هذه، تكتمل هي عينها في السجال الداخلي، يسارياً أكان، أم وطنياً عاماً. فبين من يحيل الأزمات والورطات والحروب جميعها على المسألة الطائفية، وبين من ينفي، بتبسيطية، حضور تلك المسألة، تضيع القضايا الأساسية التي ينقسم حولها اللبنانيون.

تقرأ لكاتبٍ استغرابه انحيازاً الى “الحريرية” عند تحوّلها الى دينامية استقلالية في مواجهة النظام السوري، بعد صعود المكوِّن المخابراتي داخل السلطة ممثلاً بالثنائي لحود-السيد، مذكِّراً إياك بالسياسات الاقتصادية للحريري وكأنه استحق عليها “الإعدام”، أو كأن قاتليه عبّروا بفعلتهم عن استيائهم الشديد منها! وتقرأ لآخر استنكاره عدم رفض كل التحالفات الطائفية، كما لو أن القضية اليوم هي في مجرّد رفض التحالفات، بمعزل عن الموقف السياسي ممّن يريد لبنان “ساحة” مفتوحة لصراع إقليمي ودولي، قادر بالسلاح على تحقيقها، ومن يريد من جهة ثانية، ولو مع الكثير من الأخطاء والأوهام، أن يعتبر استقرار هذا البلد والنأي به عن البرامج النووية والأنظمة المخابراتية ورسائلها المتنوعة واجباً وأولوية.

ثم يطلع عليك واحد، من موقع آخر، ليفنّد تحليل مؤدّيات الطائفية وارتباطها بالصراع على موقع لبنان في المنطقة، فيرى أن المشكلة ليست في ما تنتجه من اصطفافات وتعبئة، انطلاقاً من قضايا الداخل والخارج، بل في الزبائنية الناجمة عنها. فالاختلاف، وفق منطقه، حول الأحجام داخل المؤسسات القادرة على اتخاذ الخيارات الاستراتيجية والدخول في الحروب والمعادلات الاقليمية، يرتبط بالزبائنية، من أيام الناصرية وحلف بغداد الى يومنا هذا، وما فيه من أهوال ودول ومصالح! ويصبح نزول الألوف من الناس الى الشوارع واستعدادهم للتطاحن، مجرد نزوات زبائنية، أو تحريكاً إقليمياً لا علاقة للطائفية به.

يبقى أن الأدهى هو منطق شتم الطائفيين، واليساريين الملتحقين بهم، والمعتمد ممّن هو قابع في تحالفٍ، قوّته الاساسية ليست طائفية فحسب، بل ودينية أيضاً، تنتظر المهدي المنتظر وعدله المبين!

مقابل هذا المقدار من السذاجة، ومقابل محاولات متواضعة لنقده وانتقاده يُقدم عليها “الملحق” أحياناً، يطلّ أحدهم، وهو بحسب الهالة المحيطة بكتاباته، فقيهٌ في علوم السياسة والاجتماع والفلسفة والاقتصاد، ليقرّر تلقين الجميع دروساً ولو من دون تحديد موادها! فإذا بك تقرأه (وضاح شرارة في “نوافذ” المستقبل) يهجو عدد “الملحق” الخاص بـ”انتفاضة الاستقلال”، مؤوّلاً أكثر العناوين، بمعزل عن المضامين، في ما ارتآه مناسباً لإتمام حجّته “العلمية” شبه المجهولة، مقحماً صفات للكتّاب أو استشهادات من عصور التاريخ وأنحاء المعمورة على غير صلة بنصوصهم، ليضفي رونقاً على ما يكتب، لا يبقي بحثه مادة ناشفة، فهو للنشر الصحافي، ولا يسقطه في الوقت عينه في متاهة الخروج عن “العلم” أو الغوص في النثر و”ثرثرات القلب” التي يأخذها على سواه.

وهو في كل حال، إن قرّر “التنكيل” بكتّاب أو بقضايا، على غير اضطرار الى إفادة أحد بما يعتقده شناعةً في ما كتبوا، ولا هو معنيّ، إذ يأخذ على “أدباء السياسة” باطنية أو غموضاً، أن ينوّر المضلَّلين برأيه البيان. فرأيه، ومعظم مواقفه غير التفكيكية، لقائم من الأمور، أو الكارهة لواقع (هو فعلاً، وبداهة، كريه)، سرّ لا يكشف عنه لغير نفسه المستحقة وحدها، أو للخلّص من المريدين، “فهم” ما يجري في المدينة وفي عوالم أهلها. وقد يكون يشي به حين “يتنازل” ويتحدّث عن شهادته الشخصية على الحوادث الجسام. فإذا به يستخلص، في “تحقيقات النهار”، من تجمّع – تظاهرة 14 شباط الأخيرة، خصوصيات سياسية واجتماعية للجماهير غير الشيعية في لبنان، تتمحور حول كونها – وفقاً لما يقول – “لا تنصّب (على نفسها) سلطاناً عظيماً أو ولياً أو وصياً”. وفي خلاصته هذه طبعاً ما يرفد علم الاجتماع السياسي (الذي يكاد “يعيب” ادّعاءه على أحد كتاب عدد “الملحق”) بفتح معرفي مبين. إذ يكفي أن تتعدد الألوان والأصوات والهتافات وأن يتداخل الناس وأن يراقب الباحث الرصين عدداً من السلوكيات، حتى يستنتج خصوصيات ثقافية اجتماعية ويسقطها على “الجماهير”. وهذا منهج علمي جديد، لا يدرك أدواته التحليلية غير “الراسخين في العلم”. أما إذا كانت هذه الجماهير نفسها صوّتت لجميع مرشحي الاتفاق الرباعي كما أريد لها، وإن كانت صفّقت لخطاب الحرب رداً على الاستفزاز لها والاستباحة الحقيقية لمدينتها ولحياتها، هاتفةً بأسماء زعمائها، داعيةً للتعسكر بأمرتهم، ثم صفّقت بالحماسة نفسها لخطاب التهدئة والتواصل والحوار، وإن كان جزء منها، يعجّ بالألوان ويبتكر أحدث أشكال التعبير، قد غادرها والتحق بالموقع النقيض، وظل قسم كبير منه على التحاقه حتى اليوم، فهذا كله لا يُدخل أي شك الى نفس الباحث والى دأبه العلمي حول احتمال انقيادها لسلطان عظيم أو ولي أو وصي، ولو من دون مشهدية الانضباط وبشاعتها عند خصومها.

قد لا يختلف كثر حول دعم الخيارات العامة لجمهور 14 آذار وأحزابه. وهذه بالطبع، حالنا. لكن أن يتحوّل الموقف السياسي الى نظرية في “علم الاجتماع” تشمل مئات ألوف البشر، يخطّها كاتب مرهف يستنفر ضد كل ما يمسّ المعرفة بخدش، فالأمر يستحقّ بعض النظر. ذلك أن الغرور وهوى الهجاء حين يتملّكان مثقفاً، ولو موسوعياً، يوديان به أحياناً الى استسهال وتهكّم، هما الى اللغو والهوان أقرب، وإن غطّاهما بأمثلة تاريخية وبلاغة لغوية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى