صفحات سورية

رسالة تحدٍ سورية للسعودية

null


عبد الباري عطوان

عندما ترسل سورية وفدا الي الرياض بقيادة السيد بشار الشعار وزير الدولة لشؤون الهلال الاحمر، لتسليم القيادة السعودية دعوة للمشاركة في مؤتمر القمة العربية الذي سيعقد في دمشق في نهاية هذا الشهر، فان هذا يعني ان العلاقات بين البلدين وصلت الي الدرك الاسفل، او ما دونه، وان المنطقة مقبلة علي مفاجآت غير سارة، خاصة في لبنان، خاصرتها الضعيفة، وساحة الصراع المستعر بين البلدين.

اللافت في هذه الدعوة امران رئيسيان: الاول ان المملكة العربية السعودية، والتي يعتبر عاهلها، الملك عبد الله بن عبد العزيز، الرئيس الحالي لمؤسسة القمة، كانت آخر دولة عربية تتلقي الدعوة، والثاني ان من سلمها ليس السيد وليد المعلم وزير الخارجية الذي زار جميع العواصم العربية تقريبا لهذا الغرض، وانما وزير دولة لم يسمع به احد من قبل، ولا بالمهمة التي يتولاها، بمن في ذلك الملايين من ابناء سورية انفسهم، ولا نبالغ اذا ما قلنا ان الغالبية الساحقة من اهل الحكم في سورية لم يسمعوا به ايضا.

من غير المستبعد ان تكون القيادة السورية ادركت ان المملكة العربية السعودية لن تشارك في القمة المقبلة، وان شاركت فعلي مستوي متدن جدا، وربما تعمل في الوقت نفسه علي افشالها، من خلال تحريض بعض الحكومات المتحالفة معها علي المقاطعة، او المشاركة بوزير او سفير وليس برأس الدولة، وهناك مؤشرات علي اصطفاف دول عديدة الي جانب الموقف السعودي.

انه تصعيد سوري، يمكن تفسيره بواحد من امرين، الاول يعود الي ثقة كبيرة بالنفس تستند الي نتائج تحليل سياسي دقيق للمواقف العربية، يفيد بان القطيعة مع الرياض قد ترسخت، وليس هناك اي امل بالمصالحة، مما يعني ان جميع الوساطات التي بذلت في هذا الاطار من قبل بعض الشخصيات الخليجية، مثل الشيخ محمد بن راشد المكتوم حاكم دبي ونائب رئيس دولة الامارات العربية المتحدة، قد وصلت الي طريق مسدود، او لامبالاة سورية كاملة بما يمكن ان يحدث، والاحتمال الاول اي الثقة بالنفس هو الأرجح.

القيادة السعودية ربطت مشاركتها في القمة المقبلة بشرط تسهيل سورية من خلال حلفائها لعملية انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، وبما يؤدي الي انهاء حالة الفراغ الدستوري الحالية الممتدة منذ مغادرة العماد اميل لحود قصر بعبدا في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. ونجحت في نسج تحالفات عربية، خاصة مع الرئيس المصري حسني مبارك ودول الخليج الاخري لمساندتها في هذا الموقف.

الضغوط السعودية ـ المصرية علي سورية عبر التلويح بورقة افشال القمة لم تعط ثمارها حتي الآن، فيما يبدو، لان التجاوب السوري مع هذه التهديدات جاء متحديا، وبنبرة اعلي وتيرة، فقد تعثرت جهود الامين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسي في اقناع الاطراف اللبنانية بالمبادرة العربية لتسوية الأزمة اللبنانية، وهي مبادرة تقوم اساسا علي الافكار، والشروط، المصرية والسعودية، حول كيفية ترتيب الاوضاع في لبنان علي صعيد توزيع الحقائب الوزارية بين الكتل والطوائف بعد انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية.

سياسة عض الاصابع بين سورية والسعودية انتهت بالتعادل او عدم فوز اي من الطرفين، حتي الآن، فلم تصرخ سورية رغم الألم الشديد، فقد تمسك كل طرف بموقفه، وهو علي اي حال تعادل اقرب الي الهزيمة بالنسبة الي المملكة العربية السعودية التي تعودت دائما علي تنازل الطرف الآخر، وقبوله مجبرا بشروطها ايثارا للسلامة.

المتابع للعلاقات السورية ـ السعودية علي مدي الثلاثين عاما الماضية، يلمس حرصا سوريا اكيدا علي مراعاة الخواطر السعودية، وتمتين العلاقة معها، والوقوف دائما في خندقها، وتجلي ذلك بوضوح اثناء حرب الكويت وما بعدها. ولولا هذا التحالف لما دخلت القوات السورية الي لبنان، ولما خرجت القوات العراقية من الكويت بالسهولة التي خرجت بها علي الاقل، ولهذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن اسباب هذا الشرخ الكبير، والعوامل التي ادت الي اتساعه بحيث بات يستعصي علي التجسير مثلما نراه حاليا، ويتفرع عن هذا السؤال سؤال آخر عن اسباب الصلابة السورية الحالية في مواجهة حليف سابق يشكل قوة مالية وسياسية ضخمة تلوي أكثر الاعناق سماكة وتحني اصلب الظهور!

لا نعتقد ان اتهام سورية، الذي لم يثبت حتي الآن، بالتورط في اغتيال الحريري هو السبب، رغم مكانة الاخير بالنسبة الي حلفائه واولياء نعمته السعوديين، فالسعودية دولة كبري، تحكمها مؤسسة لها تقاليد وحسابات، وتنظر دائما الي مصالحها وهي اكبر من الافراد علي أي حال. من الواضح ان المسألة اكبر من هذا بكثير وتتعلق بالعاملين الايراني والامريكي، اي القوتين الرئيسيتين في المنطقة وشبكة تحالفاتهما. فهذان العاملان لعبا دورا كبيرا في احداث الخلل الراهن في المعادلة السورية ـ السعودية. فقد اختارت سورية المحور الايراني في مواجهة التحالف الامريكي ـ السعودي، اي ما يسمي حاليا بتحالف دول الاعتدال العربية، ولا بد ان القيادة السورية ادركت ان تعاونها في ترتيب الاوضاع في لبنان وفقا للرؤية السعودية ـ الامريكية لن يؤدي الي تغيير الموقف الامريكي تجاهها، وربما يزيد من شراسته وتغوله.

البوصلة الرئيسية التي يمكن علي اساسها فهم اتجاهات السياسة السورية هي المحكمة الدولية المتعلقة بمحاكمة المتورطين في اغتيال المرحوم الحريري رئيس وزراء لبنان الاسبق، وعندما تدفع السعودية حصتها المالية بالكامل لتغطية نفقات هذه المحاكمة في الاسبوع نفسه الذي ضاعفت فيه الولايات المتحدة مساهمتها في محاولة لاستعجال عقدها، فان هذا يرتقي الي درجة اعلان حرب علي النظام السوري المتهم الرئيسي في هذه القضية.

وصول البوارج الامريكية الي قبالة السواحل اللبنانية هو رسالة تهديد متعمدة الي سورية، واعلان اسرائيل الحرب علي دويلة حماس في قطاع غزة هو رسالة اخري. وفرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية علي تحالف دول محور الشر السوري ـ الايراني، سواء من جانب واحد، او عبر مجلس الامن الدولي في الحالة الايرانية هو رسالة ثالثة.

هناك عدة سيناريوهات محتملة بعضها سنري ارهاصاته في لبنان، والبعض الآخر علي الساحة العربية. فقد بات من شبه المؤكد ان انعقاد جلسة لمجلس النواب اللبناني غدا الثلاثاء لانتخاب رئيس بات مستحيلا. اما علي الصعيد العربي فإننا نقف حاليا امام مرحلة استقطاب شرسة، وقد نري انقساما حادا جديدا، يقسم المنطقة الي معسكرين، اي دول الـ مع بقيادة سورية هذه المرة، ودول الـ ضد بقيادة السعودية اي ضد سورية وضد انجاح قمتها والسياسة التي تنتهجها. وبدأت مؤشرات هذا الانقسام في الحملات الاعلامية السعودية الشرسة ضد سورية، سواء من خلال اجهزة امبراطورية الاعلام السعودي المقروء منه والفضائي في السعودية والمنطقة الاعلامية الحرة في دبي، او في لبنان.

ولن يكون مفاجئا اذا ما اقدمت القيادتان السعودية والمصرية علي عملية اجهاض لقمة دمشق من خلال الدعوة لعقد قمة طارئة في شرم الشيخ لمناقشة الوضعين اللبناني والفلسطيني في الاسبوع المقبل، من اجل تعكير الاجواء واحكام ظاهرة الفرز المطلوبة في اطار الحرب الباردة بين هذا المحور المصري ـ السعودي في مواجهة المحور السوري ـ الايراني وتوابعه في لبنان (حزب الله) وفلسطين (حماس والجهاد).

ثقل الموقف السوري يأتي من وقوف قوي المقاومة في فلسطين ولبنان الي جانبه، وثقل الموقف السعودي ـ المصري ينبع من الثروة المالية الهائلة في الجيب السعودي العميق (250 مليار دولار سنويا عوائد نفط) والدعم الامريكي ـ الاوروبي.

المقاومة اللبنانية عززت الموقف السوري بانتصارها علي العدوان الاسرائيلي صيف عام 2006 والحاق هزيمة ضخمة بالجيش الاسرائيلي الذي (لا يهزم). والمقاومة الفلسطينية صلبت الموقف السوري قبل اسبوع بصمودها الاسطوري في قطاع غزة، وعمليتها الفدائية الجريئة في قلب القدس المحتلة. وما مفاوضات التهدئة التي تقودها مصر حاليا مع حركة حماس نيابة عن امريكا واسرائيل الا محاولة لانتزاع هذا الانتصار من سورية وتفريغ قمتها من اقوي اوراقها.

علمتنا تجارب منطقتنا والعالم ان المال وحده، ودون قضية عادلة تدعمه، لا يمكن ان يحقق اي انتصار، فالمال الامريكي اللامحدود (800 مليار دولار حتي الآن) المدعوم بترسانة عسكرية هي الاضخم عالميا وتاريخيا، لم يضمن الانتصار في افغانستان او العراق رغم مرور سبع سنوات في حال الاولي وخمس سنوات في حال الثانية.

في جميع الاحوال يمكن ان نقول ان مؤسسة القمة العربية في حال احتضار، واننا نعيش مرحلة تقبل العزاء في العمل العربي المشترك في صيغته الوردية التي نعرفها، فقد مات وشبع موتا للأسف الشديد.

القدس العربي

10/03/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى