قبيل الانتخابات الأميركية
حازم صاغية
احتلّت تزكية كولن باول، قائد القوّات العسكريّة الأميركيّة ثم وزير خارجيّة الولايات المتّحدة، للديموقراطيّ باراك أوباما مرشّحاً رئاسيّاً، أهميّة غير معهودة في مناسبات كتلك. فالإعلام المسموع طنطن والصحف عثرت على مانشيتات دسمة ليومها التالي. وفي مقابل هذه الأهميّة، وردّاً عليها، كان جواب جون ماكين، المرشّح الجمهوريّ للرئاسة، بالغ الفتور والفقر والاعتياديّة. فهو، بعد أن أكّد عدم استغرابه أو مفاجأته بموقف باول، استشهد بتأييد أربعة وزراء خارجيّة سابقين له ولترشيحه: هنري كيسينجر وجورج شولتس ولورنس ايغلبرغر وجيمس بيكر.
لكنّ مسألة كولن باول أكبر كثيراً من حصره في موقف يدلي به وزير خارجيّة سابق، أو خيار يختاره. ولنقل، بادئ ذي بدء، إن تأخّر إعلان باول خيارَه ضاعف من أهميّته وفعاليّته: إذ لو كان الأمر نتيجة انحياز يمارسه سياسيّ أسود البشرة لمرشّح يشاركه اللون نفسه، لما تأخّر إعلان التأييد إلى ما قبل الانتخابات بأيّام قليلة. فهو، إذن، أو على الأقلّ في نظر المدافعين عنه، ليس دليل انحياز أعمى بقدر ما هو نتاج تفكير وتمحيص دقيقين. ولأنّه كذلك، ففي وسعه التأثير على قطاع عريض وواسع من الحائرين والمتردّدين الذين يبحثون عن رأي “موضوعيّ” يشجّعهم على الحسم والخيار. وفي أغلب الظنّ يندرج في هذه الخانة ردّ أوباما التحيّةَ بأحسن منها، معلناً أنه، بعد فوزه بالرئاسة، سيعيّن باول مستشاراً له.
وموقف باول مهمٌّ، كذلك، لأنّه هو نفسه كان مرشّحاً قويّاً لرئاسة الجمهوريّة الأميركيّة. وإثر حرب تحرير الكويت، ولسنوات طويلة نسبيّاً بعدها، اعتُبر “الرجل الأكثر شعبيّة” في الولايات المتّحدة. لكن ما أكسب باول هذه التسمية أنه كان بالضبط القائد العسكريّ الذي ربح حرباً استدعت إنشاء أكبر تحالف في تاريخ القتال. وهذا ما يرقى إلى شهادة من أعرف العارفين مفادها أن انتخاب أوباما للرئاسة لن يكون خطراً على الأمن الأميركيّ، بحسب ما دأبت على قوله دعايات الحملة الجمهوريّة.
ثمّ إن باول كان جمهوريّاً خدم في ظل البوشين، الأب والابن، لكنّه أقلّ من سواه مسؤوليّة عن عيوب العهدين الرئاسيّين للنجل جورج دبليو. فهو إبّان تولّيه المسؤوليّة خاض مواجهات سياسيّة متّصلة مع دونالد رمسفيلد، خصمه والمظلّة التي استظلّ بها “المحافظون الجدد” طويلاً، كما دافع مراراً عن سياسات توثيق العلاقة بأوروبا، من غير أن يتورّط مرّة واحدة في النزعة الحربيّة التي مارس شديد الحذر والتحفّظ حيالها. صحيح أنّه سبق وأدلى بلائحة الأكاذيب المطوّلة والشهيرة في الأمم المتّحدة، فيما يخصّ العراق وتمهيداً للحملة العسكريّة عام 2003، بيد أنّه فعل ذلك بوصفه موظّفاً “منفّذاً للأوامر” أكثر منه واضعاً لسياسة كتلك. والحال أن الامتثال الوظيفيّ الذي يُظهره باول للرؤساء، وإن دلّ على طباع مذعنة واستعداد لإبداء الطاعة ضعيف النقديّة، يطمئن شرائح واسعة من الجمهور الانتخابيّ العريض، بما فيه عنصريّون وأشباه عنصريّين يهمّهم التأكّد من “ولاء” سياسيّ “أسود” كباول لـ”المؤسّسة”، البيضاء برأيهم، ومن ثمّ لأميركا.
وبعد كلّ حساب، فوزير الخارجيّة السابق صديق قديم لماكين، كان يُفترض أن يكون إلى جانبه في حملته الانتخابيّة. غير أن قناعته، على ما قد يذهب التأويل الشعبيّ والشعبويّ، دفعته إلى مكان آخر. ولربّما استُنتج من ذلك أنّ تغليب العقل على الهوى يفضي إلى دعم أوباما، بشهادة ما فعله صديق له نزيه هو باول.
فوق هذا، علّل وزير الخارجيّة السابق موقفه بحجج من النوع الدامغ غير القابل للردّ إلى أسباب شخصيّة أو عابرة. فقد وجّه انتقادات أساسيّة لسارة بالين ولاختيارها مرشّحة لنيابة الرئيس على تذكرة ماكين. وإذ تحدّث عن أوباما، فقد ربط بينه وبين تصوّرات يشترك فيها مع كثيرين، كإيحائه بالمستقبل وامتلاكه طاقة تحويليّة، الأميركيون اليوم في أمسّ الحاجة إليها، وقدرته على إثارة الخيال، فضلاً عن انتمائه إلى جيل آخر. وهذا في مقابل حملة ماكين الموصوفة بـ”الضيق” و”السلبيّة”، بدلالة ما اعتمدته من تشهير ديماغوجيّ وتحريك للغرائز في ما خصّ المرشّح الديموقراطيّ “المتّهم” بأنه مسلم، والذي غالباً ما صُوّر حليفاً للإرهاب الذي يتأدّى عنه موت أميركيين أبرياء. والواقع أن حملات رخيصة كتلك ما عادت تنفع أصحابها، على ما أشارت وتشير استقصاءات عديدة للرأي العامّ. فعلى عكس أعمال تشويه مماثلة شهدتها الانتخابات السابقة، ودفع ثمنها غالياً بيل (وخصوصاً هيلاري) كلينتون وجون كيري، تلوح الأزمة الماليّة الطاحنة اليوم الشاغل الذي يلهي عن كلّ شاغل في الولايات المتّحدة. وها هي الأزمة، على ما تشير تحقيقات صحافيّة تضجّ بها الصحف والمجلاّت الأميركيّة، تقتحم معاقل الجمهوريّين التقليديّة في الجنوب والوسط الغربيّ، بما في ذلك “حزام الإنجيل” الموالي بحماسة لجورج بوش، المسيحيّ المولود من جديد. فسكّان تلك المناطق هم أيضاً متضرّرون من الأزمة التي انفجرت بعد عهدين من تربّع الأخير في البيت الأبيض، وبينهم ترتفع أصوات نقديّة متعاظمة وراغبة في محاسبة قادتهم التاريخيّين. وثمّة من يتوقّع انحيازاً في تلك المناطق لأوباما يمنحه أكثريّات الولايات تلك. وهو، في حال تحقّقه، سيكون المرّة الأولى منذ 1964، حين صوّتت أكثريّة الولايات الجنوبيّة للمرشّح الديموقراطيّ، ومن ثمّ الرئيس، ليندون جونسون. بل هناك من تأخذه تكهّناته أبعد من ذلك: فإذا ما شهدنا في الثمانينيات ظاهرة “ديموقراطيّي ريجان”، وهم الذين خاطبهم الجمهوريّ ريجان فاندفعوا إلى التصويت له، رغم انتمائهم للحزب النقيض، فقد نشهد اليوم ظاهرة جديدة هي “جمهوريّو أوباما” الذين قد يفعلون العكس تماماً.
هكذا لم يعد مفاجئاً أن يطرح باول، في ظلّ الأزمة الماليّة، وفيما هو يعلن تأييده أوباما، المسألة الضريبيّة على الطاولة. فقبل أيّام فعل المرشّح الديموقراطيّ ما هو غير مألوف بقوله إنه “لا يمانع في أن يدفع أكثر”. إلاّ أن أوباما تجاوزه بأن تحدّى المقدّس الضريبيّ، حيث بات التقليد الانتخابي يقضي بتعهد أي من المرشحين أن يخفض الضرائب. وفي مقابل التشهير بأوباما بوصفه “اشتراكيّاً، وهو ما تعرّضت له هيلاري كلينتون من قبل، شرح باول أن الضريبة تعود بالنفع على دافعها خدمات وسلعاً. وكان ترداد هذه البديهة، قبل أسابيع فحسب، إلى الهرطقة أقرب.
قصارى القول، وعشيّة الانتخابات الرئاسية، أن بطولية الجندي السابق ماكين وتمايزه النسبي عن البوشية، ما عادتا تكفيان. وليس قليل الدلالة أنه فيما كان باول يعلن موقفه، أذيع الخبر القائل إن حملة أوباما جمعت في شهر سبتمبر الماضي وحده مبلغ 150 مليون دولار، فكسرت، بهذا، كل الأرقام القياسية السابقة في جمع التبرعات.
لقد باتت خطى المرشح الديموقراطي، وهو يقترب من البيت الأبيض، مسموعة الصوت.