صفحات العالم

في ما يتجاوز ضرورات المتحف

حسام عيتاني
تهجير المسيحيين في الموصل لا يأتي حادثا منفردا أو غيمة في سماء العلاقات الطائفية الصافية في المشرق العربي. وسواء كان التهجير يصب في مصلحة أقليات أو أكثريات عراقية أخرى أو في مصلحة الاحتلال الأميركي، فإنه يعلن ومن دون لبس الحاجة الملحة الى إعادة تقييم أوضاع الأقليات العرقية والدينية وإعادة الاعتبار الى معنى وجودها في هذه المنطقة من العالم.
لقد سبق المسيحيين العراقيين في السير على درب التصفيات المنهجية الايزيديين الذين تعرضت قراهم الى تفجيرات وحشية قبل عام ونيف. وقتل العديد من الصابئة المندائيين في ظروف مشبوهة، هذا ناهيك عن المجازر التي شملت الشيعة والسنة والتركمان والاكراد والتي تبادل ارتكابها مسلحون ينتمون الى هذه الطوائف والقوميات وغيرهم ممن وجد مصلحة له في تسعير جنون العداء الديني والمذهبي.
ربما لا تخلو فكرة قراءة مجمل تاريخ العراق، القديم والحديث، على انه سلسلة متصلة من المذابح والمجازر، من وجاهة تدعمها الطبيعة الفسيفسائية للوجود العرقي والطائفي في بلاد الرافدين وتضارب المصالح والثقافات على خلفية من الأحداث التاريخية الفاجعة والتنافس الدولي المحموم.
لقد شهد هذا البلد وعلى امتداد مئات الاعوام صراعات بين جميع مكوناته، من جهة، وبين كل واحد من المكونات هذه والجهة الخارجية التي حاولت السيطرة على البلاد، بالتحالف مع جهة محلية ما. وهذه تجربة تتكرر منذ الدولة البويهية على أقرب تعديل، وصولا الى الغزو الاميركي. ولا يستثني هذا التوصيف مساهمات الدولة الوطنية العراقية في تأجيج الاقتتال المذهبي والمشاركة، بواسطة القوات المسلحة الرسمية أو عبر الميليشيات في أعمال التصفية الطائفية. ولنا في المجازر التي استهدفت الاشوريين في العشرينيات والثلاثينيات ومذابح التركمان في العام ١٩٥٩ في كركوك شواهد كافية على الزعم هذا. يضاف الى ذلك السجل القاتم، المجازر المتبادلة بين الشيوعيين والبعثيين في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي والحروب التي خاضها في السبعينيات والثمانينيات الجيش العراقي ضد الاكراد والتي تجاورت فيها الاعمال العسكرية النظامية والتصفية العرقية.
لا تنقص الدوافع السياسية والايديولوجية في تفسير هذا النزوع الى تعميم العنف ودفعه الى حدود الابادة الجماعية. وليست هي المرة الاولى التي تحاول جهة أجنبية الاستفادة من الاضطراب الداخلي لتمديد سيطرتها على العراق أو لرفض جدول أعمالها، بالتقاطع أو بالتضاد مع مصالح قوى محلية.
بيد أن ما يجري للمسيحيين في الموصل وما جرى للايزيديين والفيليين والتركمان في الاعوام القليلة الماضية، الى جانب حملة القتل المنظم والعشوائي التي تسبب بها تفجير مرقد الامامين العسكريين في سامراء في العام ،٢٠٠٦ يدفع ليس الى التخوف من وجود جهات تسعى الى الاستفادة السياسية من مآسي الآخرين، فهذا مما يندرج في باب تحصيل الحاصل، بل الى التساؤل عن معنى وجود هذه الدول العربية اذا كانت معرضة للوقوع في شباك »النقاء الطائفي« أو العرقي.
ولعل من الميزات التي تغني العراق وتميزه هي بالضبط ما يتعرض للاستهداف اليوم، أي ذلك المزيج الغني من التاريخ والثقافة والعلاقات الانسانية. وليس من المجازفة القول ان العراق خسر بعضا من تميزه عندما هجره اليهود متوجهين الى فلسطين، لأسباب ليس هنا مجال عرضها. ولا يمكن لعاقل تصور العراق من دون تلك الطوائف الشرقية التي عايشت المسيحية الأولى وتأثرت بها وأثرت فيها، وكان لها دور حاسم في رسم صورة الديانة المسيحية كما نعرفها اليوم.
وليس هذا مجرد إرث ثقافي أو تاريخي للعراقيين وللمسيحيين أو علامة على أسبقية ما الى إيمان توحيدي وما شاكل، ولكنه قبل هذا وذاك سؤال مطروح على العرب المسلمين في الدرجة الاولى: هل في الوسع تصور المشرق العربي كصحراء يعمها دين واحد أو مذهب واحد؟ ان القبول بمصير كهذا يعني، ومن دون مواربة، الموافقة على التخلي عن كل ما ميز المنطقة هذه عبر التاريخ، والانجراف في تيار عدمي لا يقيم وزناً للحق في الاختلاف.
مرة جديدة، لا يتعلق الامر بالحفاظ على متحف انتروبولوجي في الطبيعة يسمى العراق أو لبنان أو مصر، بل إن الموضوع على المحك هنا لا يقل عن امتحان لقدرة الشعوب العربية، على اختلاف مذاهبها، على التقدم نحو مشروع الكيان السياسي العابر للانتماءات المذهبية والطائفية، أو الارتداد الى حرب الكل ضد الكل، بحسب تعبير هوبز.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى