سباق أميركي – إيراني على العراق
باتريك سيل
تبدو معارضة إيران السبب الرئيسي الذي يقف خلف فشل الولايات المتحدة والعراق في التوصل إلى اتفاق حول اتفاقية وضع القوات بعد مرور ثمانية أشهر من المفاوضات الشاقة، رغم أن هذا الاتفاق يعتبر ضرورة ماسة. علماً ان المهلة التي منحها القرار الصادر عن الأمم المتحدة، الذي سمح بانتشار القوات الأميركية وقوات التحالف في العراق، تنتهي في 31 كانون الأول (ديسمبر) المقبل.
وبعد هذا التاريخ، ينبغي على القوات الأميركية التي لن تحظى بالغطاء القانوني، أن تبقى ملازمة لقواعدها وأن تستعد للانسحاب من العراق كما صرح رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في مقابلة مع صحيفة «التايمز» اللندنية في 13 تشرين الأول (أكتوبر).
يشكل اعتماد ترتيب نوعي، يقوم على استخدام بديل موقت، ضروريا إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق حول اتفاقية وضع القوات. ومن الممكن أن يكون ذلك بمثابة ملحق قصير للقرار الذي أصدره مجلس الأمن في الأمم المتحدة أو مجرد اتفاق ودي بين كل من الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء المالكي.
وفي هذا الوقت، تمارس كل من إيران وحليفها الأساسي تيار مقتدى الصدر في العراق، الذي نظم خلال الأسبوع الماضي تظاهرة كبيرة ضد اتفاقية وضع القوات، الضغوط على الحكومة العراقية كي لا توقّع الاتفاق. فإيران تعتبر أن أي نوع من الاتفاق حول وضع القوات، حتى لو كان اتفاقاً ضعيفاً يحدّ من الحرية العملية للقوات الأميركية ويقلص من حصانتها القانونية، قد يساهم في تمديد فترة الوجود العسكري الأميركي في العراق. وآخر ما تريده إيران هو وجود قواعد أميركية على أرض بلد مجاور لها.
فضلا عن ذلك، تأمل إيران في أن ترى القوات الأميركية تنسحب ليس من العراق فحسب، بل من منطقة الخليج بكاملها. وتعتبر المنافسة الإيرانية – الأميركية على الشرق الأوسط، في الخليج وأفغانستان ولبنان وعلى الساحة الفلسطينية، ظاهرة جلية على الساحة السياسية الإقليمية.
أشار جون ماكين، المرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأميركية، إلى أنه يفضّل أن يكون وجود القواعد الأميركية الطويل الأمد في العراق مشابهاً لنموذج الوجود الأميركي في اليابان وفي كوريا الجنوبية. وفي المقابل، تطرق باراك أوباما، خصمه الديموقراطي، إلى سحب القوات الأميركية من العراق في غضون الأشهر الستة عشر التي تلي تسلمه مهماته. لكن يبدو أنه يتصور بدوره وجودا عسكريا أميركيا، على الاقل لإبقاء تنظيم «القاعدة» بعيداً.
تشير الجملة الأولى من التقرير الأخير الذي رفعته وزارة الدفاع الأميركية إلى الكونغرس حول الوضع في العراق في 26 أيلول (سبتمبر)، إلى أن «هدف الولايات المتحدة الاستراتيجي في العراق هو عراق موحد وديموقراطي وفيديرالي قادر على أن يحكم ذاته ويدافع عن أمنه ويعززه، وأن يكون حليفاً في الحرب على الإرهاب».
بعد التكاليف الباهظة التي تكبدتها الولايات المتحدة من جراء الحرب، تأمل هذه الأخيرة أن تُبقي العراق في مدارها اقتصاديا واستراتيجيا. لكن حتى هذه اللحظة على الأقل، تسير الامور في اتجاه معاكس، إذ يبدو أن الولايات المتحدة تتجه نحو الانسحاب.
هل يعني ذلك أن إيران ربحت السباق على العراق؟ لا تزال بعيدة عن تحقيق ذلك. فلا تعتبر المجموعات الشيعية العراقية كافة مقرّبة من إيران أو مرحبة بتدخلها في بلدها. وأظهرت حرب إيران التي دامت ثماني سنوات بين العامين 1980 و1988، أن الجيش العراقي الذي يضم جنودا شيعة بمعظمه، كان مستعدا للقتال والموت في الحرب ضد إيران. فشكلت هذه الحرب في الواقع تأكيدا على القومية العراقية.
رغم أن الشيعة العراقيين يشتركون مع إيران في المعتقد نفسه، فإن معظمهم يفخر بهويته العربية وبانتمائه القبلي العربي. وهم ليسوا مستعدين للرزوح تحت السيطرة الإيرانية. وبدأت مدينة النجف التي ضعفت بسبب قمع صدام حسين، تبرز اليوم من جديد كمركز عربي لتعليم الشيعة والتعليم الديني، وتنافس بذلك مدينة قم الإيرانية التي تعتبر المركز الإيراني الرئيسي للشيعة.
وخلال هذه السنة، وقّع ثلاثة ملايين عراقي شيعي عريضة ضد التدخل الإيراني في الشؤون العراقية. ويشير قرار مقتدى الصدر بحل الميليشيا التابعة له، جيش المهدي، إشارة واضحة الى هبوط الهيمنة الإيرانية في العراق. وقد قيل إنه انضم بنفسه إلى حوزة دينية في إيران.
يشكل رئيس الوزراء المالكي، الذي عزز موقعه سياسيا عبر استخدام الجيش العراقي ليحل مكان الميليشيات الشيعية في البصرة وفي مدينة الصدر وفي أي مكان آخر، نموذجا عن بروز القومية العراقية. لقد تمت ملاحقة حزب «الدعوة» التابع له والقضاء عليه على يد صدام حسين، الذي أجبره على تمضية 20 سنة في المنفى في إيران وفي سورية. لكنه بعيد عن أن يصبح دمية في يد أي من البلدين.
ويبدو أن طموح المالكي يكمن في إعادة إعمار العراق ليصبح لاعبا أساسيا في الشرق الأوسط، لكن كقوة شيعية هذه المرة عوضا عن أن يكون قوة سنية كما كان الحال في عهد صدام حسين. ويعتقد بعض المراقبين أن المالكي وحلفاءه وخاصة «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى»، يرغبون في قيام دولة قومية عراقية قوية على شكل جمهورية إسلامية شيعية.
وتدل تصرفاته على ذلك، فقد عمل على ألا يتداخل الاتفاق حول اتفاقية وضع القوات مع الولايات المتحدة، مع سيادة العراق واستقلاله، فضلا عن علاقاته القوية والودودة مع إيران. كما أنه تجرأ على استخدام الجيش العراقي ضد الميليشيات الشيعية والعصابات غير المنضبطة التي كانت ترهب السكان المدنيين.
ويمكن رؤية ذلك في إعلانه الواضح (في إطار المقابلة مع صحيفة «التايمز») أن «مدينة كركوك تتبع الحكومة الفيديرالية وهي تقع خارج حدود منطقة كردستان». ويعتبر ذلك تحذيرا واضحا موجهاً ضد الأكراد بأن للتسامح الشيعي مع طموحاتهم، حدوداً.
أما الدليل الأوضح على موقف المالكي، فيكمن في تعامله مع قوة القبائل السنية أو ما يسمى «أبناء العراق» التي تضم 100 ألف شخص، انشأتها الولايات المتحدة وتمولها وتسلحها لمحاربة تنظيم «القاعدة»، وقد نجحت في مهمتها في بعض المحافظات مثل الأنبار.
كانت الولايات المتحدة تضغط على المالكي لدمج «أبناء العراق» بالجيش العراقي. وقد وعد المالكي بالقيام بذلك، إلا أنه لم يف بوعده لأنه يرى في هذه القوة التي تضم عددا من البعثيين والمتمردين السابقين، خصما محتملا لسلطته.
باختصار، يبدو أننا نشهد بروز عراق ليس في جيب أميركا ولا في جيب إيران، بل عراق يأمل في أن يستعيد بعضا من دوره الإقليمي السابق في ظل قيادة شيعية عربية هذه المرة.
رغم أن الوضع الأمني قد تحسّن بشكل عام، لا تزال ثمة مشاكل جوهرية. إذ تعاني الساحة الداخلية السياسية من الفوضى وتضم عددا من الفصائل، تسعى كل منها لفرض أجندتها الخاصة. وهناك مليونان و800 الف شخص مشردين داخل العراق ومليونا لاجئ خارج العراق وخاصة في سورية والأردن. أما الخدمات الأساسية فبدائية. وتبرز الحاجة إلى حوالي 400 بليون دولار بغية إعادة إعمار البنى التحتية المهدمة في البلد.
لكن العراق يحظى بكميات كبيرة من النفط، فقد أنتج حوالي مليونين و400 الف برميل في اليوم، في الأشهر الثمانية الأولى من هذه السنة وقد يزداد ذلك أكثر بفضل تطوير الحقول النفطية. كما يملك العراق كميات هائلة من المياه في منطقة تعاني نقصا في المياه، مما يعني أن احتمال تطوير انتاجه الزراعي هو احتمال قوي.
أما الخبر السار فهو أن 85 في المئة من العراقيين يشعرون بأنهم يملكون ما يكفيهم من الطعام، أقلّه لبعض الوقت.
* كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط
الحياة