تحذير أميركي حافل بالمؤشرات
حسين العودات
حذّر رئيس هيئة الأركان الأميركية الحكومة العراقية من العواقب الوخيمة إذا تأخر تصديق الاتفاق المبدئي معها المتعلق باستمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق، وأشار وزير الدفاع الأميركي إلى التبعات السلبية التي تُلقى على عاتق الحكومة العراقية إن لم تصدق هذه الاتفاقية هي ومجلس نوابها قبل انتهاء العام الحالي. وأعلن مسبقاً رفضه لأي تعديل على مسودتها.
بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق أذعن مجلس الأمن لرغبتها واتخذ قراراً أعطى الوجود الأميركي بموجبه الشرعية وحوّل الاحتلال إلى وضع قانوني، وأخذت القوات الأميركية الغازية تتصرف على أساس أن وجودها في العراق شرعي واستجابة لرغبة حكومته ورغبة الشرعية الدولية وامتثالاً لمتطلبات السلام العالمي، وبمقابل ذلك أعطت لجيوشها الحق بملاحقة العراقيين واعتقالهم وقتلهم بدون سبب.
وأطلقت العنان لعسكرها كي يعربدوا ويمارسوا ساديتهم وينفسوا عن أحقادهم بقتل الأطفال والنساء وغير المحاربين والأبرياء عامة في الوقت الذي يريدون، ويصطادونهم كالطرائد كما كان حلفاؤهم الأوروبيون يصطادون أفراد قبائل (البانتو والبكمة) في أدغال أفريقيا في القرن التاسع عشر.
وما زال ممنوعاً على الحكومة العراقية أو مجلس الأمن أو أية سلطة في العالم التحقيق مع العسكر الأميركيين في الجرائم التي ارتكبوها أو يرتكبونها، أو حتى مجرد سؤالهم عما جرى، وإذا حوكم قاتل أمام محكمة عسكرية أميركية فغالباً ما تبرئه هذه المحكمة، وما أكثر الأمثلة.
لم تكن المصيبة فقط أن الجيش الأميركي احتل العراق ودمر بنيته التحتية ومزق نسيجه الاجتماعي وقسمه إلى شيع وطوائف وصلت على فروع الفروع تتصارع وتتحارب ويتربص بعضها بالبعض الآخر، كما هي ليست فقط في أن الاحتلال بدد ثروات العراقيين وفتح أبوابه للشركات الأميركية تغرف من خيراته ما تريد دون حسيب أو رقيب.
وتشجع حكامه على الاختلاس والسرقة والرشوة حتى أصبحوا من أثرى الأثرياء، وبطبيعة الحال هو ثراء غير مشروع، وجعلوا من العراق أكثر البلدان العربية فساداً على الإطلاق حسب التقرير الصادر عن المنظمة المختصة في الأمم المتحدة في مطلع شهر أكتوبر الحالي، كما لم تكن المصيبة فقط في أن قيادة الجيش الأميركي في العراق تأمر الحكومة العراقية بما تريد ولا تستطيع هذه أن ترد لها طلباً.
وأعطت لنفسها الحق بتقرير سياسات العراق تجاه القضايا الداخلية والخارجية، والحق بتأسيس الميليشيات ودعمها وتخصيص رواتب لها وحل ميليشيات أخرى، ليست المشكلة في هذه المصائب وحدها بل لقد أصبحت القوات الأميركية شريكاً في السيادة على العراق لها الأولوية في هذه السيادة.
واستلبت حق تقرير مصيره ومصير شعبه ورسم سياساته وتحديد حجم العلاقات مع الدول المجاورة وغير المجاورة شكلاً ونوعاً واتساعاً، وترغب من الحكومة العراقية أن تكون منفذاً أميناً للسياسة الأميركية ونجماً ثانوياً يسبح في فلكها.
إن مشروع الاتفاق العراقي الأميركي الذي يطالب رئيس الأركان الأميركي ووزير دفاعه بتصديقه (وإلا ستلاقي الحكومة العراقية أوخم العواقب) مملوء بالسلبيات وصنوف الإذلال للعراق وحكومته وشعبه كإعطاء الحرية للقوات الأميركية بالحركة داخل العراق كما يحلو لها والخروج منه والعودة إليه بدون إذن والاعتداء على الدول الأخرى انطلاقاً من أراضيه واستقدام القوات العسكرية الأجنبية التي تريدها له.
وتوسيع قواعدها فيه بدون حدود ولا موافقة، وبموجب الاتفاق يتم التمديد لقوات الاحتلال الأميركية بالبقاء ثلاث سنوات أخرى على التراب العراقي وعندها يكون قد مر على الاحتلال ثماني سنوات (طوال وعجاف) لم يستقبلها العراقيون بالورود وتوزيع الحلويات بل بالمقاومة والرصاص والقنابل، ومن المتوقع أن يكون العراق بعد هذه السنوات قد تلاشى أو على وشك التلاشي اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
ويكون قد خرج من منظومته العربية وفقد أية فعالية إقليمية أو دور إقليمي وبالتالي لا حقق الديمقراطية والحرية ولا الإعمار والتنمية التي وعدت الجيوش الغازية بتحقيقها، بل يكون قد فقد وحدته المجتمعية وتفككت دولته المركزية وصار تابعاً لمن (هب ودب) من دول المنطقة بعد أن خسر أكثر من مليون قتيل من أبناء شعبه.
فضلاً عن نهب ثرواته وتدمير بناه وإعادته مئات السنين إلى الوراء كما وعدت السيدة تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة عام 1990. من سلبيات مشروع الاتفاق أيضاً فقرة (قصيرة بريئة) تقول برحيل الجيوش الأميركية نهاية العام (2011) إلا إذا طلبت الحكومة العراقية ذلك، وهنا نتساءل هل ستكون الحكومة العراقية بعد ثلاث سنوات أخرى قادرة على قول نعم أو لا؟ (وهل تملك أن تريد أو لا تريد؟) وبالتالي فكأن الاتفاق يقول: إلا إذا كانت المصلحة الأميركية تقتضي غير ذلك.
أما الفقرة البلقاء الأخرى فهي التي تنص على إعطاء الحصانة للجنود الأميركيين وعدم محاكمتهم إلا إذا ارتكبوا عملاً خارج مهماتهم، وما دام قادتهم هم الذين يحددون إذا كانوا خارج مهماتهم (فابشر بطول سلامة يا مربع).
لعل المشكلة الأصعب والأكثر مأساوية أن مصير العراق وضع (بسبب مواقف ورغبات أحزابه وقواه السياسية من مشروع الاتفاقية) في سوق الرهانات والمزايدات والمصالح الذاتية والأنانية ومدى القرب من هذه الدولة أو تلك من دول الجوار ومقدار الاستفادة من الموقف منها في الانتخابات المحلية أو التشريعية المقبلة ولم تعد مصلحته هي أولوية معظم الأحزاب، ويبدو أن قلة من هذه الأحزاب هي التي تحدد موقفها من الاتفاقية بما يتطابق مع مصلحة العراق العليا.
البيان الاماراتية