الشاعر الايطالي ليللو فوتشيه لـ “النهار”: الشعر سمعيُّ وليس بصرياً
مهمتي وضع الكلمات تحت المقصلة وحفر الأنفاق من دون أن أفقد رؤية النجوم
إذا استعرض المرء البانوراما الشعرية الايطالية المعاصرة، سرعان ما يتبدّى له الشاعر الإيطالي ليللو فوتشيه (1957، نابولي) صوتاً صارخاً في البرية. كيف لا وهو شاعرٌ وكاتب وصحافي آثر، ولمّا يزل يؤثر، طوال مسيرته الغنية التي أنتجت عشرات الكتب والتجارب التعبيرية المختلفة، الانسحاب الأبي على التعهّر الإعلامي. المافيات الأدبية الايطالية ليست مختلفة عنها في بلداننا، وفي أنحاء العالم: أحزاب وتحيّز واستزلام وتبعية وإلغاءات واغتيالات، وسواها من الآفات التي تضرب عموماً الأوساط الثقافية. النتيجة عزل قسري لمن يرفض، على غرار فوتشيه، الخضوع لمنطق الغاب، حتى لو كان الثمن، على قوله، أن يبتلعه حوت التغييب الجائر. جوابه الوحيد: “ليذهبوا إلى الجحيم، هم وأنطولوجياتهم ومهرجاناتهم ودور نشرهم المهيبة! لن ينالوا منّي”.
فوتشيه موهبة شعرية فريدة من نوعها، متوترة على عمقٍ راء، دموية على معاناة صادقة، غاضبة على هشاشةٍ إنسانوية، ومتنوعة على ثبات مجدِّد. ولم يخطئ الشاعر الايطالي الكبير ناني بالستريني، أحد روّاد تيار ما بعد الحداثة الايطالية المتمثلة في “مجموعة “63، عندما وصفه بـ”أهمّ شاعر في إيطاليا اليوم”. في ما يأتي حديث مع هذا الثائر المنقرض، أجريناه أخيراً في العاصمة الايطالية.
• تجربتك الشعرية ليست “تقليدية”: فيها عودة إلى الموزون المقفّى وارتباط وثيق بالموسيقى فضلاً عن أن دواوينك الشعرية ترافقها دائمًا الأقراص المدمجة و/ أو الرقمية. هلا شرحت لنا نظرتك الى الشعر هذه “الخارجة على التقليد”؟ لماذا تلجأ إلى تلك الوسائل المساندة؟ هل بات الشعر في حاجة إلى الدعم من مصادر أخرى؟ ألم يعد النص المكتوب كافياً؟ ألم تعد تكفي الكلمة المقروءة في صمت الفكر والوعي؟
– حتى لو بدا كلامي متناقضاً، فإن قصيدتي محض تقليدية. إن آلاف السنين التي طواها الشعر حتى يومنا هذا تضمنت على وجه الخصوص الشعر الشفهي، بـ”الصوت العالي”، الذي غالباً ما رافقته الموسيقى، أو في شتّى الأحوال، رافقته الأصوات. لم تصمت القصيدة إلاّ منذ بضعة قرون فحسب، ففقدت قيمتها. الشعر ليس مجرّد فنّ الكلمة، ولكنه فنّ الكلمة الإيقاعية المحدّدة بـ”الزمن”، فنّ النفس. فهو لطالما ارتبط ارتباطا وطيدا بالصوت وليس بالكلمة فحسب. من هنا، بات على الشعر “المعاصر”، فلنسمّه معاصرا، ولكي يكون ممتعا حقًا، أن يتخلّى عن كونه مجرّد نصّ منظوم ليتحول أيضا إلى “عرض” و”إلقاء” سواء بالفكر أو بالصمت. فالقافية (وكذلك الأوزان و”الأشكال الصوتية على اختلافها”) هي أساس كلّ الشعر لأنها تمثّل الصوت: يمكن استعمالها في القصيدة أو إهمالها، يمكن نظم الشعر تقليديا كما يمكن الخروج على التقليد، ولكن ذلك لا يعني أن القصيدة بكماء.
على الصعيد الشخصي، أرى أن اللعب على القوافي في قصيدة كالتي أنظمها، أمر إلزامي، من أجل ضمان الاستمتاع بها بالأذن وليس بالعين، لأن الشعر مختلف عن الرسم: هو فنّ السمع وليس فنّ النظر. ومع نشأة وسائل الإعلام الحديثة، من آلات تسجيل الصوت وإنتاجه وسواها، اكتشف الشعر مجدّدا أصوله السمعية هذه. فالموسيقى رافقت الشعر منذ الأزل، وفي كل التقاليد، من القصيدة العربية القديمة إلى القسطانية، ومن دانتي وصولاً إلى أناشيد غريو الأفريقي. ولكن ذلك لا يعني أن الشعر يعتمد على الموسيقى، بل يتحاور معها، وفي مكان محدّد، عندما تلتقي الموسيقى بالشعر، تضحي هي الأخرى شعرا كاملاً وإلزاميا. إذ إنّ الشعر، خلافاً للاعتقاد السائد، لا يمتّ الى الأدب بأيّ صلة، فالأدب أساسا فنّ أبكم.
• إنّ جزمك الأخير هذا أقل ما يمكنني القول فيه إنه إستفزازي وإشكالي! وليس بأقلّ إشكالية منه إطلاقك في إيطاليا موجة مسابقة الشعر Poetry Slam. حدّثنا عن هذه النزعة التي لم تصل بعد إلى العالم العربي، علما أنّ “الراوي” يدخل في صلب تقاليدنا الشعرية. هل يمكن الحكم على قصيدة في ثلاث دقائق؟ أليس من الظلم تقويم الشاعر انطلاقا من حضوره على المسرح، علما أن هذا الحضور يشكّل عنصرا جازما في هذه المسابقات، عنصرٌ يطغى أحيانا حتى على النص نفسه؟
– إنّ الـPoetry Slam هو في جوهره مسابقة في الشعر يتبارى خلالها عدد من الشعراء على إلقاء قصائدهم وتقوّمهم لجنة تحكيم مؤلفة من خمسة أعضاء يتمّ اختيارهم بالقرعة من بين الحضور، تحت إدارة الـEmCee أو “مدير المراسم” Master of Ceremony كما يقال في أميركا في استعارة للعبارة من لغة الـ “هيب هوب” العامية. ولكن الـSlam في الحقيقة هو أكثر من ذلك بكثير، الأمر الذي أمّن له نجاحا واسعا في شتّى أنحاء العالم.
إن الـ Slam أسلوب حديث في تقديم الشعر، نجح في جذب الشباب إلى القصيدة ودفعهم إلى التجاوب معها، وهو أسلوب جديد وثوري لترميم العلاقة بين الشعر و”جمهوره”. الـSlam دعوة تدفع الجمهور إلى التحوّل إلى الناقد الحي والحيوي، وتحضّه على الحكم وعلى الاختيار وعلى التخلي عن موقف غالبا ما يكون فيه الجمهور سلبيا وبالقدر عينه متساهلاً وتاليا سطحيا وبالتأكيد غير مهتم. إلى ذلك، فإن الـSlam يجدّد التأكيد لمرة نهائية، ووفقًا لتعبير حكيم باي أنّ صوت الشاعر وإصغاء الجمهور يشكّلان “جماعة” أو بالأحرى “منطقة موقتة مستقلّة بذاتها”، تقوم على القيم الأساسية الآتية: الكلمة والفكرة والنقد والحوار والجدليّة ومعها التسامح والاستعداد لسماع الآخر. فالشاعر ليس مجرّد عصارة كلماته الفكرية، إنما أيضا عصارة الجسد والصوت. وإذا أراد الشاعر أن يعيش حقا، فعليه أن ينخرط في هذه الجماعة وأن يهتم لهويّتها وآلامها وأفراحها؛ فقدرته على إيصال تخيّلاته وأحلامه واكتشافاته ومسبّبات آلامه إلى هذه الجماعة هي التي تقرّر مصيره: يمكن الجمهور أن يؤلّف هذه الجماعة، ولكنّها لا تتحوّل بذلك إلى سلسلة من القرّاء المنعزلين الواحد عن الآخر. وفي هذه الحالة، فإنّ “كيفيّة” إلقاء الشعر بصوت عالٍ توازي في أهميّتها الـ”ماذا” الذي يتمّ إلقاؤه، ولا سيّما أنّ الفنّ هو دائما مسألة شكل وليس مسألة مضمون. وشكل الشعر هو شكل سمعيّ في شتّى الأحوال.
• في الحديث عن الأشكال، كتبت أيضا الروايات. لماذا؟ ما الذي أعطتك إيّاه الرواية وعجز عنه الشعر؟ ما هي الشياطين التي حاولت طردها بواسطة النثر؟
– الشعر، أو أقلّه الشعر الذي أقدّمه أنا شخصيا، بالصوت العالي، هو فنّ الزمن، فنّ الكلمة التي يحدّد “شكلها” الزمن. باختصار وفي رأيي الشخصي، فإن ممارسة الشعر هي اختبار للزمن، سواء الزمن الإيقاعي او الزمن التنفسي – البيولوجي. أما الرواية فلا تمتّ بأي صلة الى كل هذا، إذ إنّ الرواية وبكل عناصرها، عمل فني مكتوب وصامت. إن البعد الحقيقي للرواية، ذلك الاختراع البورجوازي، يكمن في الفردية، في السكون. وقارئ الرواية هو أقرب ما يكون إلى مشاهد التلفزيون. ببساطة لا يوجد ما يسمّى بـ”جمهور الرواية” ولا حتى “جمهور التلفزيون” بل هناك القرّاء (أو المشاهدون)، أي مئات الأفراد المنفصلين الواحد عن الآخر، مئات الأوضاع المختلفة ولكن الفريدة. ليس حجم الشاشة التي تعرض الصورة ما يميّز السينما عن التلفزيون، بل حقيقة أنّ الاستمتاع بالتلفزيون خاصّ بينما الاستمتاع بالسينما عامّ ومشتركٌ. وعلى رغم كل ما سبق ذكره، تبقى الرواية أيضا مرتبطة بالزمن: بمعنى أنه إذا كان الشعر “تطبيق” الزمن فإنّ الرواية هي “نظريّته”: الرواية تروي الزمن حتى قبل وقوع الحوادث التي تتضمّنها، والمشكلة الأولى التي تعالجها ـ في حال كانت فعلاً رواية وليست قصّة مضخّمة ـ هي مشكلة الزمن وكيفية سرده. وقد قررت كتابة رواية وعدد من القصص المتنوعة، لكل هذه الأسباب مجتمعة، ولكي أنظّر قليلاً حول الزمن، أو الأصح حول اختباري الذاتي لتلك الظاهرة المبهمة التي نسميها الزمن. أمّا بالنسبة الى الشياطين التي أحاول طردها، فهي ليست إلا الدافع الذي يحرّك كلّ رغبة للسرد: شياطين الألم (في حالتي كانت عبارة عن نحو عشر سنين أمضيتها في ادمان المخدرات القاسي) وشياطين الهزيمة ومعها الشياطين الأشدّ خطورة، تلك المتعلقة بالحلم والخيال والأمل. في العمق، إن هدف القصص هو دفع القارئ إلى تخيّل قصة أخرى محتملة، مختلفة، سواء من أجله أو من أجل العالم، قصّة تحضّ الإنسان على تفجير المصير بواسطة قنابل من كلمات.
• إشكالية هي علاقتك باللغة، بلغتك الإيطالية الرائعة. يخيّل الى المرء أنك تضعها على كرسي كهربائي عندما تكتب: هل في كتاباتك قلّة احترام أم تحدّ؟ سخط أم هيام؟ انقلاب على الطهارة أم تسامح مبالغ فيه إزاء الدخلاء؟
– تتشكّل لغتي من كل ذلك مجتمعا: أنا بكل تأكيد أقطنها (فاللغة هي منزل الكائن، على حدّ تعبير “الرهيب” هايدغر وهو أحد الفلاسفة الذي لقيت مؤلفاته صدىً كبيرا قبل بضعة أعوام)، ولكنّ الأكيد أيضًا أن لغتي تقطن الواقع وهي على علاقة متواصلة بالحقيقة، لا بل بالحقائق. من أين لي أن أترك أحد سكان هذا العالم خارج الباب؟ أيعقل أن أمنع الكلام عن واحدة من “الأنا” المتعدّدة التي تسكن فيّ؟ كيف يمكنني الادّعاء بأنني لا أرى إحدى هذه الحقائق؟
وكان كارلو إميليو جادا، أحد كبار الكتّاب الإيطاليين الذي أعتبره واحدا من معلّميّ، يقول: “الباروكية ليست “جادا”، الباروكية هي العالم”.
أنت محقّة، أنا أضع كلّ كلماتي على الكرسي الكهربائي، أُمِرُّها تحت المقصلة، أخضعها للتعذيب، أخنقها، أجلدها، أو على نحو أفضل، أولّدها بالألم. وهكذا فإنّ من يقرأني لن ينسى مطلقًا أنّ إنساناً، في مكان ما، يبصر النور أو يفارق الحياة في تلك اللحظة ذاتها التي يولد فيها بيت شعر أو يموت. لن ينسى القارئ أنه عند الولادة، يصرخ كلٌّ من الجلاّد والضحيّة بأسلوب متساوٍ تماما، وأنّهما يرثان الكلمات ذاتها، وأنّ الاثنين معا هما في أجزاء متوازنة، الأب والإبن، الضحيّة والجلاّد. ذلك أن اللغة التي نختارها لكتابة الشعر أو بكل بساطة للتكلم، تنبع من خيار سياسي، من قرار بالتجمهر، حيث يتداخل شكل كلامنا كليا مع مضمون ما نقوله.
• ماتت القصيدة، لم تمت. ماتت، لم تمت… يبدو أنّ الأمر بات معاناة أزلية. على أي ضفّة رسوت أنت؟
– القصيدة لا تموت إذا بقي الإنسان على قيد الحياة، ولو كان العكس صحيحا لكان الشعر قضى وحيدا وقبل زمن بعيد، إذ أن وسائل الإعلام المتفوّقة تركت له مساحة هزيلة للغاية. كذلك فإن صوته بات حزينا جدا، وتاليا كانت القصيدة لتموت منذ زمن لو لم تشكّل جزءاً مكونا لفكرنا ولأحاسيسنا. فجميعنا نمارس الشعر يوميا حيث إنّنا، في كل مرة تلتقي أصوات كلمات عدة ونأخذ في التفكير في اللغة واللعب معها وشدّ عنقها، نكتشف طيّات من الواقع لم نكن ندري بوجودها سابقا. لذلك، ما دام الإنسان يتحدّث، فإنّ القصيدة ستبقى حيّة في وجه أولئك المنحوسين الذين نعوا القصيدة منذ قرون خلت، منذ أن شرعت البورجوازية و”أدبها” بقتلها من خلال تلك البضاعة، “الرواية”. فالشعر إذاً يكتسب قيمته باستعماله، فهو لم يكن يومًا عملةً قيمتها بسعر صرفها. إنه ملك عام، ضرورة مشتركة. قد نعزل الشعر فنقصيه ونبعده (كما يعزله الغرب اليوم)، ولكنّ عملنا هذا أشبه بالانتحار.
• يقال إن في اليأس خلاصا. لماذا إذاً يستيقظ الشاعر كل صباح في رأيك؟ لماذا تستفيق أنت؟
– لأنني أحنّ إلى المستقبل، لأن شدّة يأسي تمنعني من النوم. لأن قوّة حماستي تحرمني النوم. وحده من يدرك الكلمات التي يهمسها اليأس والحلم في أذن كل إنسان، يمكنه أن يأمل بالمستقبل وأن يتخيّله. أفتح عينيّ كل صباح لأنني مغرم. مغرم بامرأة. مغرم بكلمة، مغرم بالألم الذي يحرمني الحب والكلمات. وفي حال عدلت كليا يوما ما عن الإستيقاظ، فلا يجدر بنا عندئذٍ التحدّث عن انتحار، بل عن نهاية، ربما مفاجئة، لتمرين مزمن في فنّ حفظ التوازن على حبل الكلمات، التوازن بين الحبور والإحباط، بين الذهول والسأم، بين الحب واللامبالاة، بين السخط والرقّة. يجدر بنا التحدّث حينها عن غطسة، آمل بعدها عند بلوغ الضفة بأن تتدفق عليّ، على الأقل، بضع من تلك الكلمات “المحدّدة بالزمن”، التي كنت قد جمعتها على مرّ الأعوام. غطسة، والكل جزء من الغطسة: لوحة القفز، النفس، المياه التي تتفتح أمام الجسد الذي يلامسها، ذاك الجسد الذي يغطس وذاك العقل الذي اتخذ القرار بالغطس، من نجح ومن فشل في العودة إلى الضفة. ذلك كله يكوّن الغطسة. ليس في اعتزال الكتابة انتحار للكاتب، أقصد الانتحار بحسب مفهوم الديانات السموية التي هي في عالم اليوم أشبه بالبرص في عالم الأمس، ذاك المفهوم خال من المعنى. إن في اعتزال الكتابة انتحاراً للغة.
• الهدف من الكتابة والتكلم إحداث التغيير. هل آمنت بهذه المقولة يوما، وهل لا تزال تؤمن بها حتى اليوم؟ هل تتحمّل القصيدة تكبيلها بقيد صاحبة الرسالة؟ وفي حال الإيجاب، ما هي رسالتها هذه؟
– على كل شاعر عندما ينظم شعره (أو يقدّم قصيدته على المسرح) أن يؤمن بأنّ ما يقوم به يمكنه تبديل العالم، تخفيف الألم وتخليد السعادة. وهذا ما يجب أن يشاطره به جميع قرّائه وجميع مشاهديه. على كلّ شاعر أن يؤمن بقدرته على “الخلق” وعلى كلّ قارئ أن يثق بأنه أمام “إبداع” ما. من هذا المنطلق، تتحول القصيدة دائما إلى “أداء”، بمعنى أنّها لا تنجح إلاّ بفضل ميثاق مشترك بين المرسل والمتلقي، وفقًا لـ”لوتمان”.
إلاّ أنّ الشاعر والقارئ اللذين يحترمان نفسيهما، يدركان، كلاهما، أنّ الواقع مغاير تماما، وأنّ الفنّ هو محور المسألة بأكملها (“ما من سبب للاعتقاد بأن الفنّ موجود”، بحسب فلوكسوس. ـ بالإنكليزية في النص الأساسي ـ)، وأنّ الثورات لا تقوم على الكلمة، وأنّ الفنان لا يخلق ولكنه وكحدٍّ أقصى يخترع، أي أنه يكتشف الشيء ويعيد استعماله.
فالشعر فرع من فروع المعرفة سواء بالنسبة الى ناظمه أو مؤدّيه أو قارئه أو سامعه. في العمق، إن الشعر في حدّ ذاته قيد، لكنه قيد يدعّم حريتنا على القول وعلى الفهم. إنه فنّ، رسالته الوحيدة هي الفنّ نفسه، بأشكاله، وبقدرته على تحريك المشاعر وإيصال الفكرة. مهمّة الشاعر، أكتب في السياسة أو في موضوع آخر، هي حفر الأنفاق (في الواقع وفي قلب الإنسان وفي معنى الحياة) من دون فقدانه رؤية النجوم. مهمّة الشاعر تكمن في أن يكون حفّار مناجم هوايته علم الفلك. مهمّته اكتشاف وقول ما يستطيع الشعر فقط اكتشافه وقوله [مهمّته اكتشاف ما يستطيع الشعر وحده اكتشافه، وقول ما يستطيع الشعر وحده قوله].
بالتأكيد لا يقتحم سجن الباستيل بواسطة شعر الإغريق فحسب، ولكن من قد يفكر في ذلك؟ من الذي قد يدفعه الجنون الى المجازفة بتحوير التاريخ ما لم يكن مدعوما بمزمار شاعر أو فنان يدلّه على الحلم ويمسك بيده إلى أن يصل إلى تحقيقه؟ في العمق، كلّ فرد منّا يقتحم سجن الباستيل باسمه الشخصي. كلّ فرد فينا يقوم بثورته الخاصة. وفي بعض الأحيان، بفضل أعجوبة ما أو مشروع ما، وهما وجهان لعملة واحدة، يصدف أن تكون ثورتنا وثورة الآخرين، واحدة. وعندها، تكتسب الكلمات وزنا محفّزا على الاختيار، وعلى بذل الدماء التي ينبثق منها ربيع التغيير.
إلى ذلك، فإنّ المجتمعات المعاصرة تقوم على أنغام الإعلام واللغة اللذين متى ترسّخا في جسد ما، في المكان والزمان عينهما، اكتسبا قيمة مرتفعة للغاية. وهذه القيمة تتمثّل خصوصا في كونهما الشهادة على حياة أو بقايا حياة جماعة ما؛ جماعة تفسّر وتتنبّه وترتاب وتفعل وتدرك أنّ الفنّ سريع الزوال أمام البنية الكليّة للنصّ، كما تتمثّل في بنية أجزاء النصّ المتخيّلة، التي يمكنها بدورها وبمفردها، وخصوصا في عالم الاستعراض، أن تؤثّر في البنية الكليّة للنصّ وأن تبدّلها، بحيث تتحوّل إلى خيارات، إلى أنماط حياة، إلى إعلام وإلى استهلاك. واليوم وأكثر من أي وقت مضى، ينطلق التطبيق من المتخيّل ويرتكز عليه.
• كنت ملتزما سياسيا ولا تزال. في ذلك ما يحضّني على طرح سؤال وحيد عليك حتى ولو تضمّن شيئا من التشكيك: لماذا؟
– لأنّني إنسان وتاليا فإنّ ما يجري من حولي يعنيني، حتى لو كان يجري مع الآخرين. لأنّ الشعر هو فنّ سياسي في تكوينه الأساسي، هو كلمات نظمت وقيلت من أجل المدينة – الدولة، الـ”Polis” الإغريقية. والشاعر إنّما يخرس متى فقد الجماعة و”الجمهور”، فقد يكون الشاعر مكفوفا، كما هو معلوم، ولكن أن يكون أبكم فأمر مستحيل. فالكائن الذي يعيش وحيدا، لا يستطيع سماع إلاّ صوته فحسب، إنّه أبكم وتاليا عديم الجدوى.
فالشعر لا علاقة له بالنرجسية، إنه تمرين جريء على إقامة التوازن بين الأشياء والحوادث ومعانيها. من هنا فإنني أعتبر قصيدة الحب قصيدة سياسية، كونها تتطرّق إلى المشاعر التي توحّد شخصين ضمن رابط يجمعهما ويجسّد تاليا أول مكوّنات المجتمع، أول مظاهر الحضارة. وكما تعلمين فقد تتناول هذه القصيدة حواء أو ليليت، وتبقى مع ذلك مسألة سياسية بامتياز حتى لو تحدّثت عن الحبّ والشهوة. ذلك أنّ للحبّ سياسة، وللألم سياسة، وللفرح سياسة وللجسد سياسة، … إلخ.
بالطبع إن الشعر السياسي هذا بعيد كلّ البعد عن “الواقعيّة الإشتراكيّة” ومطوّلات الالتزام البليغة لدى البعض، بل هو أقرب إلى وجع ماياكوفسكي وديكنسون وبريشت وحافظ وبافيزي، الذين لم يتوانوا عن التطرّق إلى السياسة، لا بكلماتهم فحسب بل بأجسادهم و”غطساتهم” أيضا.
• إنّ أصداء القصيدة الإيطالية المعاصرة نادرا ما تصلنا. هنا في لبنان، حظينا بفرصة اكتشاف العديد من الشعراء الإيطاليين الكبار عبر الفرنسيّة. كذلك أيضا وفي بعض الحالات النادرة، من خلال العربيّة. ولكنّ الحق يقال، ثمة ثغرة لامتناهية على هذا المستوى. هلاّ قدّمت لنا، ختاما، فكرة عن مشهد الشعرالإيطالي حاليًا؟
– ينطبق هذا الواقع أيضا على وضع الشعراء اللبنانيين خصوصا والعرب عموما في إيطاليا. وهذا الأمر بالغ الخطورة لأنّه يسيء كثيرا إلى الهويّة المشتركة المنبثقة من البحر المتوسط الذي يفترض به توحيدنا ولكنه على العكس من ذلك، في الغالب يفرّقنا، مع أننا نسكن جميعا على ضفاف متفرّقة لبحيرة واحدة. وفي الوقت عينه يجب الإقرار أيضا بأنّ الصعوبة الكبرى تكمن في ترجمة الشعر، مما دفع العالم اليوم إلى إهمالها. في المحصلة فإنّ الإنسان لا يتعرّف إلا على شعرائه فحسب. وما أدّى إلى تحوّل القصيدة الإيطاليّة في الأعوام العشرين الأخيرة إلى قصيدة محليّة ضيّقة الأفق هو أنّ الشعراء الإيطاليين لا يعرفون إلا النزر القليل مما يجري خارج بلادهم.
شهد الشعر في الستينات من القرن الماضي تحديثا بطوليّا تزامن مع انبثاق فجر ما يسمّى بالتقدميين الجدد أمثال باليستريني وسانغوينيتي وبورتا وبالياريني وسواهم إضافة إلى شخصيات إستثنائية لا يسهل تصنيفها مثل فيلا وفيشينيلي وسباتولا وزانزوتو. وغابت شمس هؤلاء ليغرق الشعر بعدها في سبات عميق ويشهد تراجعاً أعمق، حيث حوّلته وجوه شعريّة بالية متمثّلة بالأرفيوسيين الجدد، متسوّلي الرمزية الحديثة، إلى قائمة مضنية حقًا ملأى بالإشراقات والغيابات والأحاسيس المتبلّدة المتناسقة.
عادت “الأنا” العاطفية (وهي قمّة الخداع والغش) وإذا بها لا تكتفي بالسيطرة على الشعر بل تنصّب نفسها “معلّمته”. وتربّع أولئك الشعراء من كوكّي إلى دي أنجيليس ومن روندوني إلى كونتي على كلّ مراكز السلطة في دور النشر، ولفترة طويلة منعوا نشر كلّ نمط شعري مغاير وانتشاره. حوّلوا الشعر إلى إقطاعيتهم بالمعنى الحرفي للكلمة، ومن نواح عدة، ولغاية يومنا هذا لم يتبدّل الوضع كثيرا. يكفي تأمّل مجموعتين من المجموعات الأدبيّة المهداة إلى الكتّاب المعاصرين، مجموعة كوكّي وجوفاناردي ومجموعة بيشيني وروندوني، لندرك أنّهما مجرّد خداع إيديولوجي، يفتقد محرّروه إلى الحياء ولا يتوانون عن تكريس العدد الأكبر من الصفحات للتحدّث عن أنفسهم وليس عن أونغاريتي. فمجموعة بيشيني وروندوني هي مجرّد أعمال تحريف عفنة تقوم على محو كل ما هو مغاير للشعر العاطفي، وكلّ ما لا يعبّر عن الرمزيّة الحديثة، وربما أيضا كلّ ما لا يتوافق مع الكاثوليكية، كل نصّ مخالف لهذه التيّارات يتمّ محوه بضربة ممسحة، يا للعار! أعمال مماثلة كانت لتثير إحراجا في أيّ بلد أوروبي، ولكنها في إيطاليا وجدت أبواب كبار الناشرين مشرّعة أمامها. نتيجة هذا الواقع، دخل الشعر في عزلة عن باقي الفنون، تماما كما تنعزل العانس صاحبة اللسان اللاذع. واحتلّت الفصيلة “الشعرية” غير المجدية مكانة الشعر الحقيقي. أمّا جماعة الشعر التي شكّلت تقليديا ملتقى للتعارض والتسامح، فباتت أشبه بتلك النوادي الإنكليزية المبتذلة الخاصة بالرجال فقط التي ينحصر الدخول إليها في الأعضاء فحسب (وفي هذه الحالة في أعضاء الرمزية والأورفيوسية المهندمة بلباس جديد والمزيّنة ببعض العقد من مرحلة ما بعد الحداثة).
بدأ الوضع يتبدّل في أوائل التسعينات من القرن الماضي مع ولادة “مجموعة 93” التي ضمّت نخبة من الكتّاب المناضلين الذين عقدوا العزم على هدم أسوار التسلّط الرديئة التي كان أولئك قد رفعوها في وجه إمكان تجّدد الشعر، فهشّموا باب ذاك النادي بواسطة ضربات من الاختبارات وعبر وسائل الإعلام الحديثة، وسط نحيب الأعضاء القدامى والجدد وصدمتهم أمام الفضيحة.
ثمّ، وبفضل المهرجانات والـ Poetry Slam ومبادرات الناشرين الصغار الشجعان والإنترنت وبفضل أجيال جديدة من الكتّاب الأقل استعدادا للخضوع لابتزاز بعض “المعلّمين السيئيين”، اضطرّ الإقطاعيون إلى الترجّل عن أحصنتهم، وبغضّ النظر عن استمرار وضع المساحة الكبرى ومراكز القوة تحت تصرّفهم، إلا أنّ منافذ جديدة بدأت تنفتح وعاد الشعر ليعيش متحرّرا من قيود الاعتدال الخانق.
اليوم، أخذ الشعراء الإيطاليون الشباب ينظمون الشعر بأساليب متعددة مختلفة، عبر وسائل إعلام متنوعة، وهم يشعرون بأنّهم أكثر حريّة ممّا كانوا عليه في الأمس، فعادوا إلى التحاور مع الفنون الأخرى، غدوا ينظرون إلى الواقع وإلى التاريخ، أخذوا يدركون أنّهم في حاجة إلى كلمات جديدة ليحلموا أحلاما جديدة، فأيقنوا أنّ الكتابة الحقيقيّة تتوجّه إلى شعب لم يولد بعد، كما قال دولوز. استعاد شعراء اليوم لذّّة المجازفة بطرح المواضيع السبّاقة وأدركوا أن الشعر رهان وليس ضمانا للخلود، هدفه خلق الأزمات وليس المواساة، هدفه الاستفزاز والمجازفة وليس الترفيه.
في النهاية أقول لك إنّ الزمن بمروره يعمل كعادته دائما في كلّ مكان، وعندنا أيضا في إيطاليا، على إنقاذ الشعر إنّما الحقيقيّ، ذلك الذي لم يجرؤ أيّ منّا بعد على تخيّله، ذلك الذي، متى ولد، سيرى النور في المكان والزمان اللذين لم يتوقعهما أيّ منّا. وإلا، فأيّ شعر يكون؟
روما – من جمانة حداد
(عن الايطالية: ديما سعد)
النهار