صفحات مختارة

الديمقراطية تولد في المرض وتحيا في علاجه

بلال خبيز
يرى المفكر الفرنسي آلان تورين أن الفارق الجوهري بين الديمقراطيات الرأسمالية والأنظمة التوتاليتارية الاشتراكية يكمن في محاولة هذه الأنظمة الدؤوبة في نفي الأمراض من الاجتماع والاقتصاد والإدارة، ومحاولة الظهور بمظهر الصحيح النقي الخالي من كل شائبة، بينما درجت الديمقراطيات على إعلان أمراضها علناً ومحاولة معالجتها، بل إن المرء إذا شاء التدقيق ملياً في طبيعة الديمقراطيات يكتشف أنها أصلاً تقوم على إعلان المرض. فلطالما كانت الديمقراطيات مجتمعات مريضة، ولطالما جهدت وبذلت ما وسعها في محاولة التغلب على المرض لا نفي أعراضه.
لكن ذلك لا يمنع بعض المفكرين والكتاب إثر كل أزمة تواجه الأنظمة الديمقراطية الرأسمالية، في الاقتصاد أو السياسة أو الحروب، من الإعلان الواضح والصريح أن الديمقراطيات الرأسمالية تحتضر، وعلى الثوريين في العالم تجهيز الأكفان والصولجانات. إذ ما إن يتم دفن الديمقراطيات الرأسمالية حتى يبزغ فجر الثورات الاشتراكية، واليوم ثمة من يضيف إلى الثورات الاشتراكية بعض الثورات الإسلامية، باعتبار أن المصارف الإسلامية لم تتأثر بالأزمة الحالية، متناسين أنها لم تكن مؤثرة في الازدهار الذي سبق الأزمة.
الديمقراطيات الرأسمالية تولد أصلاً مترنحة، تولد وأمراضها في صدرها، وديدنها على الدوام أن تعالج أعراض المرض وتحاول اجتثاث أصوله، لكن المرض يتلوه مرض والعارض يتلوه عارض، والأزمة تخلفها أزمة.
والأرجح أن الديمقراطيات على ما يوضح ألكسي دو توكفيل منذ أكثر من قرن ونصف القرن، لا تُبنى إلا على قواعد جغرافية واقتصادية. أي قواعد تتعلق بالحدود واحتمالات الحرب والسلم مع الجيران، مثلما تتعلق أيضاً بالمقدرات والثروات البشرية منها والمادية على حد سواء. ولأنها على هذا القدر من التماسك تستطيع العيش في ظل نظام ديمقراطي يعيق اتخاذ القرارات السريعة، ويمنع على أي كان التفرد بالقرار مهما بلغت حظوته وعظمة شأنه. وبمعنى آخر، تولد الديمقراطيات مريضة، ومرضها أحيانأً يشل حركتها، وحين تتحرك تتحرك بتثاقل وبطء ملحوظين، لكن الهشاشة التي تطبع الديمقراطيات عموماً لا تمنعها من أن تتوسل أسباب القوة والمنعة من مصادر متعددة ومتنوعة. هكذا في وسع المرء أن يلاحظ أن الجيش الأميركي، وهو أقوى جيش في العالم، لا ينتشر انتشاراً عدائياً على حدود جيران أميركا في المكسيك وكندا، بل إنه جيش يجتاز البحار والأجواء ليقاتل في أماكن بعيدة كل البعد عن أميركا نفسها. والقول إن الولايات المتحدة الأميركية تدفع جيشها للمحافظة على مصالحها البعيدة المدى في منابع النفط الشرق أوسطية مثلاً لا ينفي، بل يؤكد واقع أن الديمقراطية الأميركية تخشى أكثر ما تخشى شعب أميركا نفسه، ذلك أن الجيش المنتشر في الخليج يريد أن يمنع حدوث نقص في المحروقات المعدة للاستهلاك اليومي في الولايات المتحدة بعد سنوات قليلة أو كثيرة العدد. ذلك أن الديمقراطية الأميركية ورغم الجبروت الذي يبدو عليه جيشها تخشى أكثر ما تخشى من اندلاع أزمة محروقات مثلاً. واندلاع مثل هذه الأزمة له آثاره الخطيرة على النظام العام في الولايات المتحدة التي تفوق بأضعاف مضاعفة خطورة انهيار مصرف ليمان براذرز.
الخلاصة ثمة من يقول إن الديمقراطيات المتعددة على نحو ما تبدو عليه الديمقراطية الأميركية بعيدة النظر، وهذا صحيح، ذلك أن التعايش مع الأزمات والعمل على علاج الأمراض يجعل الإدارات السياسية والاقتصادية في الأنظمة الديمقراطية أبعد نظراً وأكثر اهتماما بالمستقبل. بل إن الأزمة الحالية التي انفجرت في وجه العالم منذ انهيار مصرف ليمان براذرز، كانت في صلب ما يحذر منه اقتصاديو أميركا وصانعو سياساتها النقدية والاقتصادية منذ التسعينيات. ولطالما ردد آلان غينسبرغ على مسامع المسؤولين في البيت الأبيض: إلى متى سنظل ننعم بهذا الازدهار؟ الكساد قادم، ولا نعرف متى تنفجر الفقاعة وكيف. هذا وكثير غيره يؤكد أن الأزمة الحالية كانت متوقعة، بل إن وزارة الخزانة الأميركية تحسباً لانفجار الأزمة المبكر فرضت على بعض شركات التأمين المرتبطة بها شراء الأصول الهالكة.
الديمقراطيات تخشى الأزمات فعلاً، لكنها أيضاً تستطيع تجاوزها، ولطالما نجحت في تجاوز الأزمات الكبرى والتغلب عليها، لا تحتمل أميركا أو فرنسا أن يعاني الشعب الأميركي أو الفرنسي نقصاً في القمح أو الذرة، مثلما تستطيع إيران أن تحتمل نقصاً مماثلاً، لكن هذا الأمر لا يعني أن إيران قادرة على الصمود وصلبة العود بخلاف فرنسا وأميركا القابلتين للكسر، بل المؤكد أن العكس هو الصحيح. فالأزمات التي تمر على إيران نقصاً في البنزين وتردياً في الخدمات ستؤدي في المقبل من الأيام إلى انهيار الدولة برمتها، وليس انهيار مصرف أو مصرفين. فالديمقراطيات تعالج أزماتها واحدة إثر أخرى، أما الأنظمة التوتاليتارية فتغلبها أزماتها المتكاثرة وتدفعها إلى الانهيار. وبين انهيار مصرف وانهيار دولة الأرجح أن المرء يفضل العيش في بلد قد تنهار فيه المصارف وتبقى الدولة، لا أن يعيش في بلد قد تنهار فيه الدولة وتبقى خطابات الرئيس الحماسية.
* كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى