… أن يعاد اختراع «الدولة» فهماً وممارسةً
صالح بشير
ليس كل معترض على الدولة، مفهوما ونظام اجتماع، وليس كل مجترئ عليها نابذ لها، بداعية حرية، على ما يجزم وهم وادعاء شائعان لا يعدوان أن يكونا من قبيل إيديولوجي، إن نحن فهمنا الإيديولوجيا، بالاستناد إلى كارل مانهايم مثلا، على أنها الخطاب الفئوي المأتى والزاعم شمولاً، مبعثُه نظرة أو مصلحةٌ قِطاعية أو جزئية، تموّه صفتها تلك بانتحال «موضوعية» تُستقى من العلم أو من حتمية التاريخ أو من توسل قيم كبرى ومتعالية.
قد لا يوجد بين المعترضين على الدولة من المعاصرين طرف لا يصح فيه مثل ذلك «التعريف». من غلاة النيوليبراليين، من دعاة تحرير السوق تحريرا يبلغ مبلغ الإطلاق، إلى من يمكن تسميتهم بـ»الكونيين الجدد»، يتموضعون في ما بعد الدولة الوطنية أو في ما وراءها، إلى اللائذين، توجسا وقلقا، بالهويات الصغرى أو الكبرى، الواقعة في ما دون الدولة الحديثة أو في ما فوقها، لا تكاد تتصادف معها البتة. كل هؤلاء، وسواهم، يعاندون الدولة باسم تحرر، فئوي الدوافع وقطاعي المصالح، ولكنه مبدئي الادعاء، أي يزعم الاستناد إلى مبدأ الحرية الذي يُقدم الدولة، أي دولة وليس فقط ما كان منها توتاليتاري النظام أو استبداديه، على أنها نقيضه الناجز.
والحال أن المقاربات تلك تنطوي على مغالطة، وذلك بداهةً من تجليات طبيعتها الإيديولوجية. إذ تصطنع كل فئة من الفئات التي سبقت الإشارة إليها أو سواها، الاعتقاد بأن الدولة يجب أن تكون تجسيدا لمبدأ الحرية، كما تراه هي، حتى إذا ما أخلّت الدولة بتلك الوظيفة المرتجاة منها، وإن على سبيل التغيب والانحسار، وليس لها إلا أن تفعل، ووجهت بالعداء.
أما وجه المغالطة في تلك المقاربات، فهو المتمثل في أنها تسبغ على الدولة وظيفة ليست لها وتحاسبها بمقتضاها، إذ ليس على الدولة أن تكون تجسيدا لحرية فئة بعينها أو قطاع دون سواه (غير ذلك المتمثل في كونها المعبر عن استقلال شعب أو مجموعة) بل ان وظيفتها الأساسية، حتى في «أفضل» تجلياتها، أي عندما تكون ديموقراطية، تتوقف عند الاضطلاع بدور الضامن لحريات مختلف الأطراف والموازنِ بينها، لا تُغلّب إحدها على الآخر، أقله من الناحية النظرية، لا دور الناهض بها أو ببعضها.
ويبدو أن المعترضين على الدولة أولئك، مهما كان الهاجس الفئوي الذي يصدرون عنه، إنما يعون ذلك الإعضال، فتراهم لذلك يسعون إلى تمويه فئوية مطالبهم من خلال أدلجتها، أي من خلال إنكار مأتاها أو طابعها القطاعي والخصوصي المصلحة، ونسبتها إلى مبدإ متعالٍ. ووفق النظرة تلك، تكفّ «حرية السوق» مثلا عن أن تكون إحدى الحريات، تواجهها أو تحاذيها أخرى، لتكتسب سمة تأسيسية، لتصبح الحرية الأولى التي تتفرع عنها أو تنجم كل الحريات سواها، من تعبير وانتظام وغير ذلك. فهي شرطها أو مبعثها الأوحد، حتى إذا ما انتفت تلك الحرية الأولى أطبق الاستبداد، وذلك أيضا شأن الصادر عن مطلب انعتاق خصوصي، عرقي/إثني/ثقافي، يحل الأمر ذاك منزلة المبدأ الكوني والذي يُقاس الانتماء إلى الدولة الجامعة من عدمه على أساسه. وقس على ذلك مختلف ظواهر الارتياب بالدولة الوطنية، أو بالدولة-الأمة، والارتداد عليها، وهي كثيرة.
غير أن الاكتفاء بتوصيف تلك الظواهر قد لا يفسر الشيء الكثير، إذ يبقى ما لا مناص من الإقرار به، من أن الدولة تلك قد فقدت شرعيتها أو بعضها، وأن الفقدان ذاك كان من بين ما سهل وزيّن ظواهر الارتداد عليها. فقد كانت تلك الشرعية ناجزة، تحصيل حاصل، اعتبرت محايثة، ضرورة، لحداثةٍ كان الجميع يسعى في طلبها ويراها الأفق الذي يشخص نحوه كل اجتماع بشري، قبل أن تصبح محل نقد شديد، راديكالي أحيانا، في العقود الأخيرة. كما أن الدولة كانت التجسيد «الطبيعي» لكل توق وطني، استقلالي، لذلك رأت حركات التحرر، في العالم الذي كان مستعمَرا، أن آية نجاحها وانتصارها، إنما تتمثل في تمكنها من اجتراح دولة تكون، لا محالة، متماشية مع الأنموذج الحديث لها، إذ لم يكن من الممكن تصور أنموذج له بديل. وهكذا صير، في حالات كثيرة قد تكون الغالبة، إلى إقامة الدول قبل إنشاء الأوطان، إذ تفاءل الكثيرون بأن تكون الدولة، إذ تسبق الوطن إلى الوجود، كيانا مندمجا، قابلته وأداة اجتراحه، وهو ما لم يكن بالمراهنة الحمقاء ضرورة، على ما بيّن عالم الاجتماع الأميركي أرنست غلنر، في كتاب له شهير.
ما الذي أدى إذاً إلى نسف شرعية الدولة الحديثة أو على الأقل إلى تأزيمها؟ قامت تلك الدولة وتأسست على مسلّمة أساسية، هي تلك التي تفيد المطابقة بين سيادتها ومجال تلك السيادة، أي بين هذه الأخيرة وحيّز ترابي بعينه.
والحال أن مبدأ المطابقة ذاك لم يعد قائما أو أنه أضحى إشكاليا. قد يعود ذلك، من ضمن ما يعود إليه، إلى العولمة، خصوصا في شقها الاقتصادي والذي أفضى إلى ما يشبه الانفصال التام بين رأسمال وبين المكان، فإذا الأول، إذ أوهن علاقته بالثاني على نحو قد يكون مبرما، وتحرر منه بحيث يمكنه الانتقال إلى أي جزء من العالم متى ما عنّ له، قد أفقد الدولة إمكانية الاضطلاع بدورها كمرتبة احتكام بين مختلف «الفرقاء» الاجتماعيين. شيء من هذا القبيل هو ما ذهب إليه على سبيل المثال الفيلسوف البولندي زيغمونت بومان في بعض كتاباته. هذا فضلا عن عوامل أخرى كثيرة، شأن انتشار فكر يرتاب بفكرة «السيادة» من أساسها ويعمل على إعادة النظر فيها أو على تجاوزها دون أن يأخذ في ذلك بإيديولوجيا اقتصادية محددة… وسوى ذلك مما لا يتسع المجال للخوض فيه.
والأرجح أن فقدان الدولة لسمة التطابق بينها وبين حيز ترابي بعينه على أساس مبدأ «السيادة» يستوي تحوّلا مبرما لا رجعة فيه، مما قد يعني أن إعادة الاعتبار للدولة، وهو ما يبدو أمرا ملحّا، لا يجب أن تتوقف عند العودة إلى الدولة كما عهدناها أو إلى ترميمها وفق منوالها السابق، بل إعادة اختراعها وفق مبدأ مختلف، يقوم على تعريفها بوظائف توكل إليها، لا باعتبار السيادة والحيز الترابي حصرا.
فكيف يمكن لذلك أن يتحقق؟
الحياة