هم أيضا خطر ماحق على الأجيال المقبلة
منصف المرزوقي
حجم الخراب الذي يلحقه النظام العربي الاستبدادي بشعوبنا معطى غير معروف بدقة ولا يمكن تحديده إلا من قبل المؤرخين، فهو طوال حكمه يحاول باستماتة تقديم منجزاته على أنها خير ما أمكن وما يمكن.
وما تعرضه الشرس لحرية الرأي والتعبير، إلا محاولة يائسة لمنع التقييم الموضوعي، لأنه يعلم أنه سيكون كارثة على مستوى النتائج وفضيحة على مستوى الأساليب.
لنتصور يوم التحرر، يوم يكنس هذا النظام كنسا وتفتح كل الملفات. ما نحن متأكدون منه أننا سنواجه بعمق الكارثة التي تسبب فيها لأجهزة حيوية مثل القضاء والصحافة والثقافة والإدارة وخراب التعليم والصحة وخاصة خراب القيم.
بالطبع يمكن أن يتدارك النظام المقبل بسرعة بعض التداعيات السهلة تقنيا وغير المكلفة، مثل إطلاق سراح كل الأسرى السياسيين ومنع التعذيب منعا مطلقا وإطلاق الحريات الفردية والعامة وخلق مناخ جديد من الثقة والاحترام بين السلطة والشعب.
كما يمكن تصور قيام حركة إصلاحية شاملة تنطلق من عملية تشخيص واسعة النطاق ومتعددة الأطراف لكل الأنظمة الاجتماعية، من نظام التعليم إلى النظام الأمني ثم وضع تنظيم جديد لها وتحديد سياسات تبني بدل ما تخرب.
لكن هناك معضلة كبرى سيرتطم بها كل نظام جديد، ويمكن أن تفشل كل خططه الإصلاحية وتجعله لقمة سائغة لكل الانقلابات كما وقع في موريتانيا، أي الحالة المأساوية للاقتصاد.
هو سيرتطم بكل الحاجيات الشرعية للشعب التي منع الاستبداد التعبير عنها، وبالحالة السيئة لكل الآليات كالنظام المصرفي والبنية التحتية والإدارة والتعليم.. إلخ.
غير أن ذروة اللعنة ستكون عند اكتشاف الديون الخارجية التي تركها النظام الراحل، مع ما يعنيه الوفاء بها من استحالة تلبية المطالب الملحة، فما بالك بوضع خطط طموح للتنمية تعوض الزمن الضائع.
بعض الأمثلة: يصف تقرير البنك الدولي لسنة 2007 المديونية التونسية بأنها “ثقيلة نوعا ما” وهو وصف أقل ما يقال عنه إنه مؤدب ومحتشم إذ تقدر هذه المديونية بنحو 18 مليار دولار أميركي.
القاعدة في الاقتصاد أنه عندما يكون الدين الخارجي نصف الناتج القومي الخام لبلد ما، فإن هذا البلد يعتبر مفلسا، ومن المفروض أنه لا يجوز إقراضه.
أنظر الآن إلى الأرقام التي يقدمها صندوق النقد الدولي حين يقدّر أن المديونية التونسية بلغت 68% من الناتج القومي الخام سنة 2005، وأنها ستصل سنة 2011 إلى 47.5%.
بعبارة أخرى: لقد تجاوزنا الخط الأحمر سنة 2005، وبكثير من الجهد سنصل تحته قليلا بعد سنتين، إذا مشت الريح بما تشتهي السفن.
تأتي تونس بحجم مديونيتها، بعد مصر 34 مليارا، والسودان 19 مليارا، والمغرب والجزائر 17 مليارا.
نلاحظ أولا أن تونس التي لا تعد أكثر من 11 مليون نسمة لها نصف مديونية بلد كمصر يعد سبعة أضعاف هذا العدد، وهذا يعني أن جزءا من “المعجزة” التي يتبجح بها النظام التونسي هي لاقتصاد مدان إلى العنق.
ثاني ملاحظة تتعلق بالحجم الهائل للديون على بلد فقير كالسودان، وآخر ملاحظة هي أن بلدا له الموارد النفطية الهائلة كالجزائر غارق هو الآخر في الديون. فما هي الآن تبعات هذه السياسة؟ إنها ببساطة مرعبة.
تقول نفس التقارير إن خدمة الدين الخارجي كلفت الخزينة التونسية في 15 سنة الأخيرة، وذلك باعتراف السلطة، ثمانية مليارات من الدينارات، ومن المؤكد أن المبلغ أكبر، لأننا كلنا نعرف احترام أنظمتنا العربية للشفافية والموضوعية في الأرقام التي تتعلق بالانتخابات والاقتصاد.
يبقى أن نقدر ما معنى حتى هذا الرقم، إنه بالضبط أربع مرات ميزانية وزارات التعليم والصحة والثقافة والتعليم العالي والنقل والشؤون الاجتماعية والشباب والرياضة، التي لا تستهلك مجتمعة إلا ملياري دينار سنويا.
معنى هذا على الصعيد الاجتماعي أن حجم المديونية يمنع من توفير تعليم وصحة وثقافة ومواصلات وبحث علمي إلا من أردأ الأصناف، لأن كل هذه المرافق محتاج للتمويل الملائم، والحال أن دفع فوائد الديون -ولا نتحدث عن الديون نفسها- يمثل نزفا هائلا للموارد العامة.
أخطر من هذا أن الظاهرة مؤهلة للتفاقم، بسبب سياسة أن مواصلة الاقتراض التي هي جزء لا يتجزأ من تقنيات الحكم الفاسد، ستتواصل إلى النهاية لأنه لا خيار للدكتاتورية غير هذا الحل السهل، حتى تستطيع تدارك مظاهر عجزها والتغطية عليه أطول وقت ممكن، ناهيك عن مواصلة الإثراء الفاحش، وتوفير المال لأجهزة القمع والتضليل التي تعيش بها.
كل هذا يعني بمنتهى البساطة أن حجم المديونية سيتواصل، ضاربا بعرض الحائط آمال هذا الجيل في مستوى معيشي لائق، ومهددا الجيل المقبل الذي سيطالب بدفع فوائد الدين الذي وضعه على كاهله أشخاص كانوا يعرفون أنهم لن يكونوا في السلطة بعد عشرين سنة، وآخر همهم من سيدفع ما بذروه وسرقوه واستعملوه لشراء بقائهم في الحكم أطول فترة ممكنة.
لقائل أن يقول هنا إن كل الدول تقترض وتعيش بالدين والمثال أميركا. انتبهوا أن هذا البلد هو أسوأ مثال وسيدفع الثمن باهظا طال الزمان أو قصر، وعلى كل حال شتان بين مديونية اقتصادات قوية ومراقبة ومضبوطة واقتصادات هشة نخر فيها الفساد.
حقا يجب أن نكون جد محظوظين أو خارج القوانين الموضوعية التي تسير العالم إذا تصورنا إمكانية أدنى تقدّم ببلداننا في ظل ارتفاع أسعار المواد الأولية، وخاصة البترول وتفاقم الصراع على موارد تنضب يوما بعد يوم، ناهيك عن الكارثة البيئية التي تتهددنا جميعا.
كل هذا ومجتمعاتنا مكبلة بالديون، وهي في مستوى تعليمي متدن، تعاني من هجرة بل قل من نزف الأدمغة، إضافة إلى الكارثة الكبرى التي تسبب فيها الاستبداد: خراب العقليات وانحطاط القيم.
ما يجهله ويتجاهله العرب هو أن التقدم الاقتصادي في بلدان كاليابان أو السويد أو الولايات المتحدة، ليس فقط حصيلة موارد وتكنولوجيا وإنما محركه الأساسي جملة من القيم هي حب العمل المتقن والادخار والنزاهة في التعامل وحياد الإدارة سياسيا واستقلال القضاء.
وكل هذه الأمور غائبة عندنا أو عكسها الموجود، لأن نظامنا السياسي لم يعط للشعوب إلا القدوة السيئة، وهو يجعل التزييف والكذب والوصولية والانتهازية والمحسوبية والرشوة والجشع الاستهلاكي، القواعد الفعلية التي تحرك وتتحكم في المجتمع الحقيقي.
إن أخطر تبعات الفساد على مجتمع ابتلي به لسنوات، ومن أعلى هرم الدولة، ليس كمية الأموال المسروقة مهما كانت ضخامتها، وإنما في ضربه لمصداقية القانون ولقيم العمل والتفاني والإخلاص والإتقان وكلها العمود الفقري للمواقف والتصرفات التي تشترط في اقتصاد ناجع ومجتمع سليم.
من يتصور قيام نهضة اقتصادية بقيم كالتي يشيعها استبداد عنيف وفاسد، هو كمن يتصور قيام نهضة علمية بثقافة تشيع الشعوذة وتحت إشراف أجهل القوم.
إن الكذبة الأساسية في قصة “المعجزة” الاقتصادية التونسية هي محاولة إيهام النفس والآخرين أن بلدا بمجتمع مريض ونظام فاسد يستطيع أن يكون له اقتصاد سليم، والحال أنه لا وجود لشيء كهذا إلا في مجتمع وحكم سليمين.
السؤال المحوري هو: ما الذي يمكن أن نفعله لحماية الجيل المقبل بعد أن حكم على هذا الجيل بالشقاء مدى الحياة؟ بالطبع هناك تسريع النضال الصعب الطويل المكلف، للعبور إلى مرحلة جديدة تقطع طريق عودة المنقذ وعائلته وقبيلته ومخابراته وتمنع تجدد نفس النظام المفلس تحت أي عباية أيديولوجية جديدة.
لكن هذا يجب ألا ينسينا العامل الخارجي، أي مسؤولية كبرى الحكومات الغربية والمؤسسات الدولية التي تسيطر عليها مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في دعم الاستبداد العربي بكل الوسائل السياسية والعسكرية، وخاصة بفتح كل المجال أمامه للاقتراض المشط.
لنتذكر ما هي الضوابط التي يدعو إليها هؤلاء الناس في إطار الدين الليبرالي الحنيف والذي يبدو هذه الأيام مصابا بأزمة ربو كم نتمنى أن تنتهي باختناق لا رجعة فيه.
ثمة المنافسة النزيهة التي تؤدي حسب القديس آدم سميث إلى إزاحة المؤسسات العرجاء، وتقديم أفضل وأرخص منتج لمستهلك يتوفر على المعلومات الكافية لحسن الاختيار.
الضابط الثاني هو الحياة الديمقراطية المتمثل من جهة في الانتخابات الحرة وفي ضغط النقابات. إن التغيير الملحوظ في الملفات الاقتصادية الذي يحصل باستمرار في البلدان المتقدمة مرتبط بتقييم سياسي وليس فقط نتيجة فعل السوق.
فالحكام الذين لا يحسنون إدارة الاقتصاد والتوزيع المقبول للخيرات يحالون على المعارضة. ونفس الشيء يقع للعامل النقابي الذي يستطيع أن يلعب دورا في توجيه دفة الاستثمارات وبالتالي يساهم في ضمان التوازنات الاجتماعية الكبرى.
انظر الآن إلى اقتصادنا، لا نقابة ولا انتخابات ولا من يحزنون. إذن بجانب غياب التقييم بالسوق، هناك غياب التقييم بالسياسة.
العامل الثالث للضبط هو التقييم الخارجي. هنا نتوقع من اقتصاد بلا ضوابط ويعيث فيه كبار المسؤولين فسادا ما بعده فساد، أن يثير استياء الممولين الأجانب فيمنعون عنه الموارد إلى أن يحسن أداؤه الاقتصادي وبذلك يعود للتعديل المفقود.
أما الذي حدث ولا يزال فهو أن القروض تتدفق دون انقطاع على بلدان كتونس ومصر والمغرب والأردن، لأن النظام عنصر خاضع للأرثوذكسية الليبرالية وجندي منضبط في “الحرب ضد الإرهاب”.
هكذا تستطيع اعتبارات جيوإستراتجية أن تساهم في مد عمر النظام السياسي الذي يخدمها بثمن تعريض شعوبنا لحالة القهر والإحباط التي تعيشها، وتعميق التهديد على مستقبل الجيل المقبل.
ما الردّ في هذه الحالة ؟ إن من أوكد واجبات البدائل، بشقيها الحقوقي والسياسي من جهة، والإسلامي والديمقراطي من جهة أخرى، أن تبعث برسالة واضحة للمقرضين الأجانب أننا لن نعترف بديون منحت بكل معرفة لأنظمة فاسدة اشترت بجزء كبير من هذه الأموال بقاءها في السلطة، وما عليهم إلا استرجاع أموالهم بمصادرة الأموال المسروقة والموضوعة في بنوكهم تحت أسماء مستعارة وأرقام سرية يعرفونها.
نعم يجب أن ندرج في برامجنا المستقبلية هذا التوجه وأن تتشبع من الآن القيادات الشابة به، وأن يدرس المدرسون للتلاميذ مبدأ عدم الاعتراف بديون لم تصلح إلا لتكبيل آبائهم، واعتبار أنفسهم في حل أخلاقي من دفعها.
بقدر ما تنتشر الفكرة وتصبح جزءا من برامج كل الأحزاب الوطنية وقضية وطنية وقومية تتداولها باستمرار الألسن والأقلام، سيفهم المقرضون الأجانب أنهم يلعبون بالنار.
لقائل أن يقول إن معنى هذا سيكون تفاقم الفاقة التي تعاني منها شعوبنا، ولكن ذلك ليس بعذر كاف، وليكن شعارنا “اشتدي أزمة تنفرجي” إذ لو كانت الأموال المقترضة باسمنا تذهب لخدمة عامة الناس لكنا في بحبوحة من العيش منذ زمن طويل.
وفي كل الحالات فالمطلوب من العرب أن يتأكدوا من ثلاثة أمور لم يعد فيها شك إلا لمن لا يريد أن يرى.
– العدو الرئيسي للأمة والإنسان العربيين ليس الصهيونية أو الإمبريالية الأميركية وإنما نظامنا السياسي الفاسد.
– إما أن تقضي الأمة على هذا النظام أو أن يقضي هو عليها.
– بقدر ما يتأخر تحقيق الاستقلال الثاني، يستفحل المرض في المجتمع وتطول وتصعب فترة النقاهة.
كاتب تونسي
الجزيرة نت