المسيحيون العرب وظلم ذوي القربى
حسين العودات
تتنامى هجرة المسيحيين من بلاد الشام طوعاً أو كرهاً، ولا شك أن أسبابها عديدة منها الجوهري ومنها الثانوي لكنها بمجملها تشكل ظاهرة من شأنها أن تحدث خللاً في التركيب البنيوي للمجتمعات العربية وتمزق النسيج الاجتماعي القائم فيها (المتوازن والمستقر) منذ مئات السنين، مع ملاحظة بأن هذا التوازن كان دائماً على حساب المسيحيين بسبب غياب المساواة والعدالة وبسبب سيل فتاوى واجتهادات الفقهاء المسلمين الذين طاب لهم ـ منذ فجر الإسلام وعلى التحديد منذ نهاية القرن الهجري الأول ـ أن يصيغوا موقفاً خاصاً من المسيحيين ثم ينسبونه إلى الإسلام وليس لتصحيح الدين أية علاقة به، وقد اعتبرت جماهير المسلمين نتيجة عمليات تشكيل الوعي هذه ومع مرور الزمن وتراكم الثقافة والتقاليد والقيم والأحكام الفقهية أن هذا هو موقف الإسلام من المسيحيين، ولم تنفع أفكار النهضة والتحديث والتطور وآراء النخبة في تغيير هذا الموقف الذي كان في الواقع موقفاً سياسياً تبنته أنظمة الحكم القائمة في الغالب خدمة لمواقف سياسية داخلية وخارجية، وبقي المسيحيون منتقصي الحقوق تتعامل الأنظمة السياسية والمجتمعات معهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، في الوقت الذي ترتفع فيه شعارات (العيش المشترك) و(التعايش) و(الأخوة) وما (عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب)، وكان على المسيحيين أن يرددوا هذه الشعارات مهما كان واقعهم مغايراً.
يتواجد المسيحيون الآن بنسب واضحة في دول بلاد الشام ومصر، وقد بدأت أعدادهم تتراجع منذ عدة عقود أي منذ الاستقلال والانفتاح على دول العالم الأخرى، وتزايدت هجرتهم مع صعود التطرف الإسلامي المعاصر وطرح شعارات العمل من أجل إقامة الدولة الإسلامية حسب مفهوم المتطرفين هؤلاء، الذين حملوا السلاح ومارسوا العنف والإرهاب وهددوا الأنظمة السياسية القائمة فازدادت قسوة وقمعاً لمجتمعاتها، وصار المسيحيون يواجهون ظلمين في آن واحد: ظلم الأنظمة الواقع على المجتمع كله وهم جزء منه والظلم الآخر الذي تمارسه الأكثرية عليهم أو شبح التهديد بممارسته، وكانت الهجرة بسبب هذا ولأسباب أخرى مثل تدني مستوى الحياة في البلاد وأحلام العيش الهانئ خارجها سبيل الخلاص أو إحدى سبله، ولذلك تراجعت أعدادهم خلال الستين عاماً الماضية في جميع هذه البلدان إلى أقل من نصف ما كانت عليه.
أشير إلى أن معظم المسيحيين في البلدان العربية هم السكان الأصليون فيها فالأقباط هم ورثة سكان مصر منذ الفراعنة، ومعظم مسيحيي سورية والعراق والأردن هم عرب كانوا في هذه البلدان قبل الإسلام، وقد أقاموا فيها إمارات وممالك مستقلة أو شبه مستقلة، ولنتذكر مملكة الغساسنة في جنوب سورية والمناذرة في جنوب العراق وقبائل بكر وتغلب وكلب وربيعة وتنوخ ومضر وغيرها، التي كان موطنها بادية الشام والعراق، وكانت جلها مسيحية، وقد لعب المسيحيون العرب منذ المسيحية الأولى دوراً أساسياً في المجمعات المسكونية (نيقية ٣٢٥م أفسس ٤٣١م خلقيدونيا ٤٥١م) ورفضوا محاولات بيزنطة تحويلهم إلى المذهب (الملكاني) وربطهم بالكنيسة الملكية التي اعتبروها أجنبية، وحافظوا على مذاهبهم الخاصة وكنيستيهم النسطورية واليعقوبية، ودفعوا ثمن إيمانهم غالياً: هجرة وتشريداً وظلماً من قبل البيزنطيين. ولما قدم العرب المسلمون تعاونوا معهم لأنهم أبناء قومهم وحاربوا معهم البيزنطيين المحتلين، ومملوءة كتب التاريخ بالأمثلة على هذا التعاون وعلى التضحيات التي قدمها المسيحيون خلال الفتوحات العربية والإسلامية فضلاً عن دورهم في بناء الحضارة العربية الإسلامية.
تعامل الدين الإسلامي مع المسيحيين على أن لهم الحقوق وعليهم الواجبات نفسها التي للمسلمين (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وأعفاهم من المشاركة في الحروب مقابل دفعهم ضريبة الجزية، ولكن المتطلبات السياسية لأنظمة الحكم داخليا وخارجياً من جهة واجتهادات الفقهاء اللاحقة من جهة أخرى لم تطبق ما جاء به القرآن، وبدأ تهميش المسيحيين يتنامى بعد انتصار الإسلام وانتشاره في الجزيرة إلى أن وصل حالهم إلى ما وصل إليه.
لم يطردهم الرسول من الجزيرة لكنهم طردوا منها بعد ذلك لأسباب سياسية وللحاجة لبناء مجتمع متماسك فيها يساعد على الفتوحات، وقد حقق الفقهاء رغبة السياسيين باجتهاداتهم وفقههم، وتبدى ذلك أيام الخلفاء عمر بن عبد العزيز الأموي والمتوكل العباسي والحاكم بأمر الله الفاطمي وغيرهم، وأخذوا يبالغون في اضطهاد المسيحيين وتهميشهم والتعامل معهم على أنهم الأدنى، ويصيغون العلاقة بهم حسب مزاج الحكام والنخبة الحاكمة.
لقد طردهم الخليفة عمر بن عبد العزيز من وظائف الدولة وضم بعض كنائسهم إلى المساجد (أو حولها إلى مساجد) ومنعهم من بناء الكنائس ولبس العمائم، وفرض عليهم جزّ نواصيهم، وأمرهم بلبس ملابس خاصة وأحزمة خاصة، وركوب الخيل دون سروج وغيرها من الإجراءات التي لا لزوم لها سوى أنها تحقق رغبة الحاكم ومزاجه، وقد تراجع في ما بعد عن إجراءاته وحسّن العلاقة معهم وأعاد لهم كثيراً من حقوقهم، ويدل ذلك على أن القضية مزاجية وليست دينية.
ولم تختلف أوامر المتوكل العباسي عن ذلك فأعاد تطبيق الأنظمة والتقاليد التي فرضها عمر بن عبد العزيز وتفنن في بعض التفصيلات كمنعهم من الاحتفال بأعيادهم خارج بيوتهم وعدم احترام ملكياتهم أو كنائسهم. أما الحاكم بأمر الله فقد حملت تعليماته من الخفة واللامسؤولية ما يكفي، كأمره لهم بتعليق الصلبان في أعناقهم (بمقاييس محددة تتعلق بأطوالها وأوزانها) ومنعهم من ركوب الخيل والاكتفاء بركوب البغال والحمير وبدون سروج.. وغير ذلك، ولا ينفي هذا العسف أو يخفف منه تراجع هذين الخليفتين أيضاً عن قراراتهما في ما بعد وتحسين العلاقة مع الكتابيين.
وبقوا محل اضطهاد الدولة والمجتمع أيام الدولة العثمانية إلى أن أصدر السلطان العثماني خط شريف همايون وخط شريف كولخانة بزعم تحسين أحوال المسيحيين، وقد دل هذان المرسومان على الحالة المزرية التي كان عليها المسيحيون أيام الاحتلال العثماني، وبقوا رغم هذين الخطين الشريفين مواطنين مهمشين.
أما في عصرنا الحالي فلم يقتصر الأمر على الانتقاص من حقوقهم السياسية والاجتماعية بل شمل أيضاً التعامل اليومي.
فبعد صعود التطرف في العقود الثلاثة الماضية ازداد غلو الفقهاء، فأفتوا مثلاً بعدم مشاركتهم أعيادهم بل بعدم إلقاء السلام عليهم أو حتى رد السلام وغيرها من الفتاوى التي لا علاقة لها بصحيح الدين ولا بحاجات المجتمع فضلاً عن عديد من سبل التعامل اليومي الذي يعتبرهم قصّراً ومنبوذين ولا أهمية لهم..
لم تخرج الدولة العربية الحديثة والمجتمعات العربية الحديثة عن هذا الإطار فلم تحترم مرجعية المواطنة والمساواة والتكافؤ والعدالة وأخذت تضع لهم (كوتا) في المجالس التشريعية ومجالس الوزراء ووظائف الدولة العليا والمراتب العسكرية والأمنية وغيرها، وتعتبر أن هذه الحصة هي منة منها للمسيحيين، ولو احترمت حقوقهم كمواطنين متساوين لما اضطرت لهذه (الكوتا).
لا شك أن اعتماد مرجعية المواطنة والمعايير الأخرى للدولة الحديثة هي الحل الصحيح لإنصاف المواطنين المسيحيين حيث المساواة والتكافؤ واحترام عقائد الآخرين وآرائهم والتعددية الدينية والفكرية وعندها فقط يمكن الحديث عن العيش المشترك والتعايش والأخوة، أما إن بقيت الأمور كما كانت منذ مئات السنين فسوف تستمر هجرة المسيحيين وستخسر الأمة خسارة لا يعوضها شيء، وعندها يفرض تساؤل نفسه: لماذا لا يهاجر المسيحيون من هذه البلاد؟
([) كاتب سوري
السفير
ما تفضلتم به قد يكون طبق في فترات زمنية بسيطة ومحدودة بدليل انكم تقرون بأن نفس الخليفة المتوكل وعمر العبد العزيز قد تراجعوا في حياتهم عن ذلك ..مما يؤكد حديثي ..نحن في الاردن وكذلك في سوريا نعيش المساواة الكاملة ..الامر ليس كذلك في مصر ولعل السبب ليس ديني فقط بل وقومي ايضا …الاقباط فوتوا ايضا فرص كثيرة للاندماج (فترة الراحل عبد الناصر صاحب النظرة القومية الشمولية )…وهنا اود ان اذكر ملاحظات …هل اسباب الهجرة هي الاضطهاد ….لا ولا بل حب المال والتوق لحياة افظل …هل عدم تمثيل المسيحيين في المؤسسات العسكرية والامنية قد تن بقرار لا اكيد بل ان قسم من المسيحيين ويا للاسف يضعون المال فوق كل اعتبار
واخيرا لك تحياتي وفقنا الله وسدد خطانا واعاننا على معرفة اسباب البلاء والانقراض المتسارع وهي اسباب باتت معروفة ةليس لنا خيار الا العيش مع اخواننا والمشاركة في جميع مجالات الحياة وليس الاقتصار على القطاع الخاص وجمع المال ..وايضا ادراك مسؤلية بناء عائلة مسيحية متماسكة وبعدد معقول مش مثل الاوروبيين ..فنحن من طبية مختلفة يجب ان لا ننسى ذلك …اما الخلفاء الراشدين وغير الراشدين فهذه قصص من التاريخ ونحن في الحاضر والمستقبل